مجلة الرسالة/العدد 159/القصص
مجلة الرسالة/العدد 159/القصص
البدوي رحاب
للأستاذ إبراهيم بك جلال
وكيل محكمة الزقاقيق الأهلية
كان في أقصى الصعيد نجع قريب من الجبل يسكنه جماعة من فقراء الفلاحين وبينهم بعض الأعراب الذين سكنوا القرى المصرية واعتادوا حياة الريف والاستقرار، ولكن لم تتبدل فيهم غرائز البدو وعاداتهم الموروثة. وكان في النجع بدوي شيخ قد ناهز الثمانين، أسمر البشرة، حديد البصر، اسمه (رحاب)، إذا مشى خلف جماله اطرق برأسه غير ملتفت إلى أحد من الذين يحيطون به معجبين باستقامة عوده ونشاط بدنه، على ما بدا من شيخوخته، فلا يفارق عصاه الغليظة يبسطها على عاتقه ويلف عليها ساعديه، وهو حافي القدمين قد اشتمل بعباءة من وبر الجمال، واعتاد أن يحمل خيوطا كثيرة من ذلك الوبر الذي كان يغزله
وكان له ولد يدعى (دياب) في الثلاثين من عمره قد أصبح مضرب المثل في حسن الفتوة وكمال التكوين والقامة المديدة؛ له عينا صقر وشارب مفتول، ولكنه كثير الاغتراب والأسفار، يطوي الفيافي والبيد سعياً على قدميه، ويجوب أقاليم الصعيد من أقصاها إلى أقصاها يبيع للفلاحين النوق والجمال، ثم يعود إلى مضرب أبيه مفعم الكيس بالمال. أما أبوه الشيخ رحاب فإنه لا يغادر الخباء إلا إذا سرحت جماله في الأراضي البور المترامية خلف النجع وعلى ضفاف النيل، فيمشي خلفها حتى إذا بلغ رابية بأقصى الساحل جلس عندها وتناول مغزله يديره طول يومه، فإذا جاع تناول قبضة من التمر اليابس، ثم اشتمل بعباءته ونام بعين الساهر اليقظ. وكانت له فتاة صبوحة الوجه، مليحة التكوين، تخطر في مشيتها فيفتتن الناظر بسحر أحداقها المتقدة حسنا ورقة، وكانت الفتاة، واسمها (سلمى) تزين صدرها بألوان من العقود، وتطوق خصرها بنطاق من الحرير الأحمر، ولها في الخباء صندوق احمر عليه تصاوير وألوان مما يباع لأهل القرى، يتدلى مفتاحه من غدائرها، وقد جمعت فيه ثيابها وأقراطها وأساورها، وكل ما حرصت على جمعه من ألوان الزينة التي يحبها بنات العرب
وكان بيت هذه الأسرة في أقصى النجع قد قام من أوبار الجمال، فيه فراش للوالد الشيخ وآخر بجانبه لزوجته جازية؛ أما سلمى فكان فراشها بمعزل عن والديها. وكان في ناحية من الخباء جرن كبير من الحديد يؤدي عمل الرحى، فيدقون فيه الشعير، وله يد كبيرة غليظة لا تقل زنتها عن نصف قنطار يعجز الرجل من أهل المدن أن يحركها إلا بكلتا يديه، ولكن سلمى كانت تدق بها حب الشعير كما يستعمل نساء المدن الهاون النحاسي سهولة واعتيادا بغير عناء أو مشقة، وكذلك كانت جازية أمها. والعجيب أن الشيخ الفاني كان يتناول ذلك القضيب بإحدى يديه كما يفعل بعصاه يحركه ويدق به، وكان عندهم عنزات لطاف يطلقونها بالنهار في أطراف المزارع، وتمشي الأم جازية تحرسها من بعيد فتجمع لها بعض الحشائش الجافة، فإذا مر بها رجل من أهل القرى أسبلت نقابها الأحمر وتوارت حتى ينصرف الرجل وما كانت تكف هي الأخرى عن الغزل طول يومها
ولم يبق بالخباء إلا الفتاة سلمى الكاعب اللعوب، تراها تغزل أحياناً وحيناً تطبخ الدشيش وتسقيه من لبن النوق، ثم تملأ منه القدر الكبيرة وتجلس بعد ذلك ترقب الطريق كأنها على موعد مع أحد الناس
وكان بإحدى القرى القريبة من النجع فتى من سادات الأسر الكريمة بصعيد مصر، مات أبوه عن ضيعة عامرة بالأنعام وأنواع الدواب، وبها أهراء حافلة بالغلال والأقطان، وأستقر الفتى حسان في ضيعة أبيه مجداً دائباً في الزرع والإنبات حريصاً على مرضاة الفلاحين، وقد اتخذ جناحاً من دار أبيه لسكناه مع أمه الأرمل المريضة، وكف عن حياة السرف وكثرة الإنفاق على الولائم والأضياف. وكانت له فرس شقراء من عتاق الخيل يركبها ويطوف بها بين المزارع في كل صباح باكر وكل عشى
مر يوماً بخباء رحاب فلمح سلمى تحلب عنزاتها عند باب الحظيرة، فترنح الفتى على سرج فرسه من روعة حسنها وقوة فتنتها وجمال جيدها، والتقت عيناهما لمحة قصيرة ثم أرخت قناعها وولت على استحياء، واكثر حسان من الطواف بخدرها كل غداة، فكان يجدها منفردة عن أبويها، وشجعه على التحديق فيها صمتها وجلوسها كل يوم عند كثيب خلف الخباء كأنها ترقب حضوره وخرج حسان يطوف المزارع كعادته في يوم شديد القيظ، فساقته فرسه إلى باب الخباء، فنادى أهل الدار يلتمس ماء أو جرعة من لبن الإبل يتعلل بها، وقابلته الأم عند الباب وقد أرخت قناعها الأحمر وسألته عن حاجته، فلما طلب قدحاً من اللبن نادت ابنتها سلمى، فجاءت تتعثر بأذيالها وهي حاسرة الوجه تبهر الناظر بحسنها وملاحة قدها، ومدت إليه يمينها بالقدح فترجل حسان لدى الباب وقد سنحت له الفرصة فرآها عن قرب ولمس كفها، وطالع في غرتها آية الحسن الذي لم ير مثيلاً له بين بنات القرى ولا في سائر البنادر التي زارها، وابتسمت سلمى من رؤية محبها وقد أذهلته الفتنة وشغفه حبها وملأت ناظريها منه، وكان فتى حسن الهيئة والثياب، ثم ارتدت إلى البيت وتوارت عن ناظريه
وأراد حسان ألا تضيع الفرصة، فسال الأم أن كان لديهم بعض من صغار الخراف ليشتريها ويحملها إلى المزرعة بين دوابه وأغنامه، فأنعمت الأم وغابت عنه قليلا، ثم عادت تسوق بين يديها حملين صغيرين، وجاءت على أعقابها سلمى تسوق حملين آخرين وساومهما حسان ونقدهما ثمناً معجلاً في الخراف الأربعة، ثم بدت له مشكلة حمل الخراف إلى قريته، فهونت عليه جازية الأمر وساقت بين يديها الخراف تساعدها سلمى ومشى حسان بين المرأتين يحدثهما طول الطريق ويختلس النظر إلى سلمى التي ما كانت تضن عليه بعطفها وابتسامها، وبلغوا المزرعة فادخل الخراف في الحظيرة ثم قدم لجازية وسلمى طعاماً شهياً من موائد أهل المدن بين دجاج وشرائح من لحم مشوي وخضر مطبوخة، وصحفة كبيرة من الحلوى بهر بها أبصار ضيوفه، ثم حمل إليهما النقل والفاكهة ولم يدع مزيداً من واسع الكرم وطرائف النعم
وخلا حسان بفاتنته سلمى في ساعة شغلت فيها جازية بالحديث مع أمه العجوز المريضة بأعلى حجرات الدار، واشتفى المحبان في خلوتهما، وخطبها حسان لنفسه وحمل إليها من خزانته صرة من الحرير الأبيض فيها مائة جنيه من الذهب صداقا معجلا ليستحل بذلك عناقها، ولكن سلمى نأت بجانبها أسى وأسفاً، وأطلعته على همها الدفين، فإن أباها قد عقد العزم على تزويجها من ابن أخيه وهو كهل من قبيلتها، له زوجتان وبنون وبنات، وهو فوق ذلك قد جاوز سن الشباب، فظ غليظ القلب، رقيق الحال، ومن اجل ذلك كله قد تنكد عيشها، لان أباها وأخاها (دياب) كلاهما ملح في تزويجها من ذلك الرجل البغيض، وقد انذراها بالموت إن هي ترددت في القبول والرضى، وبكت سلمى وغمرت وجهها في صدر محبها، وضمها حسان وقال لها أني اشهد الله انك ستكونين أهلي وهذا صداقك بين يديك، وليقض الله فينا بمشيئته، واستسلمت له الفتاة وتعاهدا أن يدعو في الصباح مأذون القرية ومعه شاهدان ليعقد عليها بغير علم من أبيها أو أمها
وما اشرق الصبح حتى هبط حسان إلى فرسه فامتطاها وانطلق بين أنفاس الربى يطير بجناحي شوق
وانقضت اشهر والحبيبان يلتقيان بالخباء في غفلة من رحاب وزوجه، وكثر سروح سلمى تمشي إلى زوجها في دجى الليل بعد أن ينام أبواها حتى ظهر الحمل وتحرك الجنين ولم يبق على الوضع إلا بقية من الشهر الأخير، فرفع رحاب حاجبيه يوما بكلتا يديه وظهر له ما كان مستورا عنه من أمر سلمى؛ فناداها: أنى لك هذا وما كنت بغياً؟ وطار شرر الغضب والوعيد من مقلة الشيخ، ففرت زوجته جازية بين الربى والاكام، واستسلمت الفتاة المسكينة، فقال أبوها خبريني عن هذا الذي في أحشائك من أبوه، فقالت معاذ الله ما أثمت والله يا أبت، ولكن بكتاب الله وسنة نبيه، فقال هذا غاية ما بلغ به فجورك، إن اليوم هو آخر أيامك من الدنيا، فمن شريكك في الإثم؟ من هو الذي انتهك حرمتي وفضح ربة الخباء؟ لعله الفتى الذي يجوب الربى بفرسه الشقراء كل يوم! لقد أغدق عليك من خيره يوم ابتاع منك الخراف. فصاحت سلمى باكية وقالت: بل هو سيد كريم قد مهرني مائة جنيه من خالص الذهب وأغدق علي ألواناً من الثياب والعقود والجوهر الكريم، ودخلت الخباء ثم عادت تحمل بيدها صرة من الحرير الأبيض بها صداقها وقالت هذا هو المهر الذي استحل به عناقي، فصاح بها أبوها سارد إليه هذا الذهب وأنال به مهرا أغلى واشد خطراً يجري من دمه فأغسل به باب هذا الخدر. فصاحت سلمى: يا أبت إنني وحدي الأثيمة فاقتص مني دونه ودعه بالله وشأنه فانه الوحيد المرجي لأمه المسكينة. لقد مات أبوه رميا بالرصاص في ظروف محزنة، ولم يبق من أسرته إلا هو. دعه يا أبت يعش ويستوف نصيباً من نعمة الدنيا، فصاح بها أبوها أن احملي إلي قضيب الجرن، فنكست رأسها وجرت مدامعها وقد لاح لها ملك الموت، وأضجعها أبوها فاستكانت له، فهوى بالقضيب يقصم ظهرها ويفري حشاها صدعا شديدا وضربا لا رحمة فيه ولا هوادة، وتراخت يداها وأخذتها غشية الموت، فناولها جرة الماء وصاح بها لتحملها إلى غدير الماء وتملأها غلواً في قتلها وإرهاق نزعة الموت الأخيرة فيها، ودفعها بيده وهي تحبو إلى الغدير حبوا حيث فاضت روحها، فركلها أبوها الوحش بقدمه فحملها الماء إلى الشط. وصاح الناس قتيل بالشط! فأقبل العمدة وجنوده وعرفوها سلمى ابنة رحاب؛ واحتشد الناس في أقصى المزارع حول جسد مسجى في إزار من الحرير الأبيض يبين منه وجه حسان وقد مزقت أحشاءه قذائف الرصاص، وتدلى من إزاره صرة من الحرير الأبيض بها مائة جنيه من الذهب الاصفر، حولها مائة قطرة من الدم الأحمر الزكي الشهيد!
إبراهيم جلال