مجلة الرسالة/العدد 16/في الأدب الشرقي

مجلة الرسالة/العدد 16/في الأدب الشرقي

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 09 - 1933



من الأدب التركي الحديث

عبد الحق حامد

للدكتور عبد الوهاب عزام

نشرت في (الرسالة) الماضية ترجمة المقدمة المنثورة التي كتبها شاعر التركالأكبر للمرثية الكبرى التي رثى بها زوجه فاطمة وسماها (المقبر) ووعدت أن أنشر في هذا العدد مثالا من شعر هذه المرثية. ولا أكتم القارئ أنى حين وضعت الكتاب أمامي (وهو زهاء ألف بيت تدفق بها قلب الشاعر الحزين على غير ترتيب) لم أدر كيف أختار: الرسالة لا تتسع للإسهاب، والإيجاز لايفي بالإبانة. ولولا وعد لقراء الرسالة سبق ما كلفت نفسي هذا الشطط. عبرت الكتاب أنتقي من صفحاته، أبدأ ترجمة الفكرة ثم يضطرني إطناب الشاعر إلى الوقوف دون غايتها. وأجد البيتالفرد البديع مكملا ابياتا كثيرة فلا أستطيع أن أترجمه وحده، ولا أن أترجم كل ما اتصل به، على أن في بعض الأبيات إبهاما وغموضا وفي بعضها اضطرابا. وقد وصف الشاعر كتابه في المقدمة التي يذكرها القارىء، وقد ترجمت عجلان حين ضاق الوقت، حتى أرسلت المقال بالبريد على قطعات، من خوف (الزيات):

أواه لم يبق الحبيب ولا الدار، وبقى قلبي ملؤه الأحزان والأكدار. كانت هنا الآن فصفرت منها اليد؛ جاءت من الأزل وذهبت إلى الأبد.

ذهبتُ وبقيت هي ترابا، وحلت رفاتها قفرا يبابا. أواه إنما بقى من أنس القلب الكريم، قبر في بيروت مقيم.

أين أين أفتش عن هذا الحبيب؟ ومَن أسائل عن هذا الغريب.

ياربَّ! أين أين هي: في الأرض أم السماء؟ ربّ! من قذف بي في هذا الشقاء؟

يقولون: إنس خِلّ الوفاء، فقد سلك طريق البقاء. هل يسع الخيال هذهالحقيقة، وهل ترى العين هذه الفجيعة؟

ما أسرع ما انقلبت بي الحال! انقلابٌ لا يصدقه الفكر والخيال. أرى شيئا، أراه يشبه القبر! ويشبه الحبيب حين أنعم النظر.

تمضي بي على الشك الليالي، ويزيد على مرّها حزني ووبالي. إنها صدمة انقلاب قتّال، فليت شعري هل حُم لي الزوال؟

هلمّ فاطمة أصعدي من اللحد، وارجعى سيرتك التي أعهد.

لاتكتمي عنى هذا السّر. وأفصحى بكلمة. أواه إنما أريد كلمة منك.

ابتسمي ابتسام الورد، وداوي جرح القلب. وأتمي أيام حياتي بنظرة معسولة، أو بسمة ساحرة.

أقبر هذا؟ ما هذا الذي أرى؟ أمكان الحبيبة هذا الثرى؟ إنها لمحنة، إنها لحيلة، إنها لفنائي وسيلة.

أنظر أنظر كيف حال الياسمين المنوّر، وانظر إلى الوجه الوردي كيف اغبرّ: تعسا لك تعسا أيها الجَدّ الأعسر، وياويلتا إلى يوم المحشر.

ربّ ما غاية هذا العيش الأغبر؟ وما غَدُ هذا البشر؟ أبلغ فكري روحها، أو سيِّر روحي إلى ترابها. . . . .

ربّ ما هذا الصفر في الحساب، لكل الأرقام إليه انقلاب. أهو عدم ذو وجود أو قبر في اضطراب؟. . . . . . .

لقد تولاّها السقام، وملأت صدرها الآلام، تضحك وضميرها في عذاب، تخفي بضحكتها خفي الأوصاب.

وكم حسبها الناس في سرور، وما سرورها إلا الحزن المكتوم، حتى ملأت باليأس نفسي، وأثارت الفتنة في قلبي.

القبر منتهى هذه الدقائق، وسر عجيب من أسرار الخالق. نور كلما مال للغياب، هبط إلى كومة من التراب.

هذا أعلى الشواهق، وهذا أروع الحقائق، أيها الشقي تلك حقيقة لا تدرك. هذا شأنك، وهذه في الدنيا حالك. . . . . . . .

لقد كانت شعرا بليغا مهما، كان فكرها شاعرا ملهما. (صحراء وتزر وأشبر) من وحيها وما كنت الا واسطتها. . . . . . . . .

كنت أفهم هذا الوجه الشاحب، الذي منح شعري اللون المعجب. تأبى أفكاري أن يكتب ويُفهَم، وهل تنحت الجبال بقلم؟

اجتمعت ضروب الآلام في صدرها، والناس في غفلة عن أمرها؛ كان كل من رآها يشفق عليها ويحبها، ولا يدرى لماذا؟. وكانت ملكة الخلق الكريم، والفكر السديد. تشعر بخطرات نفسي وتقرأ أسارير وجهي.

وكانت وإن لم تكثر الكتابة ملهمة لاتخطيء الإصابة، وكم فتنت منها بالكلم الدقاق والذكاء العجيب، قد عمر بها شعري الخراب، وتلألأ فيه صنعها العجاب. كانت نجى الأفكار في نفسي خبيرة بالكلمات التي تندّ عنّي.

تذبل الوردة الناضرة فتخلفها وردة أخرى تضئ مكانها وتفترّ، كأن الأولى لم تتغيّر. وتغرب الشمس المنيرة فإذا هي في الصباح مشرقة. ولكن شجرة الورد هذه لن تزدهر، ولكن هذا النجم في غروب مستمّر.

سلكتْ بي الفِكَرُ ألف سبيل وراءك أيها القمرَ فعيّ العقلُ دونك وأقصر. صاعقة ولكن لا يسمع صوتها، ونور يسقط ولكن لا يبين ضياؤه.

يا رب أين أين الحقيقة؟ أجعلت الغم سر هذه الخليقة؟

مهما طال بي الأنين واستمر، فما هو الا كأنين الشجر. . . . . .

لاريب أن حياتي سم أتجرعه، فيدنيني من الموت الذي أرتقبه،

شرِّح هذا الوجود فهو عدم، وقلِّب هذا السرور فهو ألم،

ليت شعري أفي الموت نجاتي؟ ليت شعري ماذا يحبب إلى حياتي؟ قد أنهدمت خليقتك عليَّ يا رب فكيف تحتها ثباتي؟

حسبي حسبي سموم هذا القهر، حسبي حسبي طغيان هذا النهر. أليس لهذه السيول تناهي؟ حسبي جرعة واحدة يا الهي.

ما بقائي في الدنيا! أعضو أنا في جسم الدهر؟ أأنا يا رب مرآة جلالك أم أنا شعاع من جمالك؟. . . . .

أمامي مسجد التوحيد الوضاء، وفي عقلي الشك وفي قلبي الرجاء. وفوقي لقاء السرمدية وتحتي فناء الآدمية.

أرجو من الخالق خلودا، فيبدو لي التراب والحجر وعيداً وأقول أن الإنسان لا مرية، إلى الفناء، فتصيح روحي: كلا إنه للبقاء. إن لم يكن للبشر مزية في الوجود، فلماذا توحي إليه المشيئة الخلود؟ أيها القبر إنما هذا السكوت، خطاب الحي الذي لا يموت.

(يستمر الشاعر يقيم الحجج على خلود الإنسان ثم يرجع إلى خطاب حبيبته ثم يخاطب الله بين الاعتراض والتسليم إلى أن يقول)

رب كيف لا أشكو؟ ألا يصيح الجريح؟ ما هذا القبر الذي أمامي؟ وضعت فيه حبيبا جميلاً، وجعلت التراب حدود عقلي، وحبست إدراكي على هذا الحجر. واعتصمت بك فهويت عليَّ. إن لم يكن للبكاء جدوى فكيف يسكت القلب اللجوج عن الشكوى؟ لماذا تئن الطيور في الأوكار؟ أليس لقلبي أغنية كهذه الأطيار؟

قالت لى يوما في اضطراب: جئت إلى الهند لأموت في اغتراب. فضحكت من قولها وتكلفت الثبات، ولكني أحسست أن قلبي قد مات. ثم ودعنا الهند بين الموت والحياة. جاوزنا القناة في غم وكرب، وليس القوت الا دم القلب. كلما سألت أجاب السعال الظالم. ذلك الجورب المظلم. حتى إذا لم يبق الا رمق، لاحت بيروت في الأفق. ومر يوم ولم أدر بما كان وسألتها فإذا النعش عِيَان.

النعش هذا الدليل دليل المقبر، النعش ذلك الهيكل الأغبر، النعش ذلك الخطيب الأصم الأبكم، النعش ذلك الهمود المجسَّم، النعش هذه السكتة المحيرة، النعش تلك المصيبة المكررة، النعش ذلك الانقلاب الصموت. ذلك الحدِّ المتحرك للعقل المبهوت. النعش خرابة الأمل الخامد، النعش ذلك الاغبرار الخالد. النعش ظل المحشر على الأكتاف، النعش ذلك الموت المتموج ألتفَّت على هذه الروح ألواحه ففتحت ذراعيَّ للموت. . . أيها التراب المضيء، تراب الحبيب الصامت! أيها النور الأسود الثابت! إن قلبي ليتحطم من جمودك، وان روحي لتموت من خمودك.

لا لا، ليس ترابا انه موت نابت. لا لا، ليس موتا انه جؤار صامت. لتحرس الملائكة هذا القبر ولتضيء عليه الثوابت.

ليس تراباً كله قبر الحبيب، أن له قبرا آخر من النسيان الرهيب. النسيان أسفل المقابر، النسيان مقتل الأكابر. وقبر آخر ذلك القلب الهباء فهو والتراب سواء. فالحبيب ذلك الملك المسافر، طائر بين هذه المقابر. . .

يارب ما أعظم محبتك التي أرى وما أعظم رحمتك التي تفيض بها الأرجاء كلها! ألا يفنى في هذا كله الفراق المنبعث من القبر؟ هذه الأنجم ضياء وحدتك، ورحى كذلك أحد كواكبك، والحبيبة التي كانت ملكا (طارت لاريب) إلى جنَّتك، كلما ذكرتك اتسع خيالي، وصارت فجرا منيرا هذه الليالي. ما أعظم اسمك أنسا للروح، انه يسير إليك في صيحات الفؤاد المجروح؛ أقول (الله) فيتفسح المجال، أقول (الله) فيفارقني الزوال. بحركة هذا الصوت الأعظم، يطير جناحي وإن حَطَمَه الغمُّ، أنتَ أقرب إلى الله يا محمد، أيها العقل المعظم المؤبد، أنت الذي سلكت بنا السبيل، وكنت إلى الله الدليل. ليصمت بعدُ هذا النواح، فلا تضيق به الأرواح، هذه الآهة التي تفيض من الروح، لن يسمعها بعدُ الا قلبي المجروح سأكون في الدنيا قبرها، تطوف فوقي روحها، سأصمت عن هذا النحيب، لأفرغ للتفكر في الحبيب.