مجلة الرسالة/العدد 160/ذات الثوب الأرجواني

مجلة الرسالة/العدد 160/ذات الثوب الأرجواني

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 07 - 1936



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

(تنبيه: الكلام كله تخيل ولا أصل أو حقيقة له)

- 7 -

طلبت من الريف ما لا سبيل إليه في هذه المدينة العظيمة ذات العمائر الشامخة، والبنى الرفيعة، والهواء الحبيس، والنفوس المروضة على تكلف غير طباعها. وكان بعض قومي قد سبقوني؛ فأنبأتهم أني لاحق بهم، وإذا ببرقية تردني منهم يقولون فيها (هات فتنة معك) فلم أدرِ ما - أو من - (فتنة) هذه. . أقطة هي يا ترى؟ أم فتاة؟ أم كلبة؟ أم ماذا؟. . . وكنت أعد حقائبي، ومكتب البرق بعيد مني، وحدثتني نفسي أنهم يعرفون أني لا أعرف (فتنة). فالأرجح أن يكونوا قد أبرقوا إليها لتتصل بي، أو لأصاحبها إذا كانت حيواناً. وقلت سأسافر على كل حال في الوقت المعين. جاءت (فتنة) أم لم تجئ. وأقبلت على الحقيبة أحشر فيها - فما لي قدرة على الترتيب والتنظيم - ما اقدر أن سأحتاج إليه، وإذا بالباب يقرع قرعاً مزعجاً لا عهد لي به، ففزعت ومضيت إليه على عجل مخافة أن يكسره الطارق. ودار في نفسي أن هكذا دق (تيمون الأثيني) باب الآخرة حين انحدر إليها بعد أن وافاه حينه الذي كان ينتظره بصبر فارغ من فرط كرهه للناس، فإن أساطير اليونان تزعم أن الناس يهبطون بعد موتهم إلى وادي الظلال، وهناك يحشدون في الفجر ويعدون وتقيد أسمائهم ثم يركبونهم زورقاً - غير بخاري بالطبع - إلى وادي القنوط حيث يكون الحساب. ومن غرائب هذه الأسطورة أن على كل راكب أو محمول في هذا الزورق أن يؤدي أجرة العبور إلى وادي القنوط. . . وقد ضحكت وأنا أذكر هذا إذ أمشي إلى الباب، وقلت لنفسي والله أن بيتي لكوادي القنوط بفضل (ذات الثوب الأرجواني) وما أخلقني حين أفتح الباب لهذا الزائر المستعجل أن أرحب به بهذه الأبيات القديمة التي نظمتها لمناسبة شبيهة بهذه:

(دارنا مغرب أنوار الحياءْ ... من رآها لم ير الضوء الطليق

ما لمن يهوى إليها من نجاءْ ... ما لما يغرب فيها من شروق وهي، في الأكوان، دنيا عاقرُ ... كل زخّار له فيها ركودْ

ضرب السحرَ عليها ساحرُ ... فهي عنوانٌ على عقم الوجود)

ولكن شيئاً - لعله الإلهام - صرفني عن هذه التحية غير الطيبة، فقد كان الزائر فتاة أشهد إنها من أجمل - إذا لم تكن أجمل - من رأيت في حياتي؛ وكانت رشيقة ممشوقة، ووجهها وضاح؛ أما عينها فأعوذ بالله منها! أعني أن البراقع ما اتخذت إلا لتقي الناس سحر مثلها

وقالت وهي تنساب كالماء الرقراق: (لست تعرفني بالطبع. . ولكني أنا أعرفك)

قلت: (تفضلي. . أعني أولاً. . وبعد ذلك يتسع الوقت للسؤال والجواب)

قالت: (متى تسافر؟)

قلت: (هل تعلمت في إنجلترا. . أو لعل أباك إنجليزي؟)

قالت: (لماذا. . أنى سمراء. أو لوني أقرب إلى السمرة. . ثم أني لا أعرف الإنجليزية. . تعلمت في (الميردة دييه (فقط))

قلت: (هذا أحسن. . على كل حال إنما عنيت إنك تمضين إلى غرضك بلا لف ولا تضيعين الوقت. . سأسافر في الفجر)

قالت: (سأبعث إليك أذن بالحقائب الليلة وأجيء أنا قبيل الفجر)

قلت: (بفرح أنت إذن (فتنة)؟؟ لقد صدق الذي سماك)

فقالت وهي تنهض عن الكرسي وتمضي إلى المنضدة وتقلب ما عليها: (أليس عندك سجاير؟. أم أنت لا تدخن؟.)

قلت: (إنك صغيرة جداً. . ولكن خذي)

فأخذت سيجارة وانطلقت تدخن وهي ساهمة وأنا أنظر إليها ولا أقول شيئاً، فقد خطر لي أني سأشهد فصولاً كثيرة متعاقبة لهذه الرواية. وإذا بها ترمي السيجارة من النافذة وتقول (إلى الملتقى إذن. . وشكراً لك)

وليس أبغض إلي من أن يرى الناس ما أصنع أو يشهدوا خروجي ودخولي وسفري وإيابي. ولكني احسب الدنيا - دنيا شارعنا على الأقل - قد علمت أني مسافر بالسيارة، وأن معي فتاة جميلة ستريني النجوم في الظهر الأحمر. . واطلعت - أعني الدنيا الخاصة - على ما في حقيبتي الصغيرة وحقائبها الكثيرة المنتفخة فقد كانت لا تفتأ تأمرني بأن أغير كل ما رتبت. هذه الحقيبة لا يجوز أن تكون تحت غيرها لأنها من جلد طري فهي تخشى عليها التلف. . وهذه الكبيرة فيها ما قد تحتاج إليه في الطريق فيجب أن تكون فوق. فأقول ولكن الطرية يجب أن تكون فوق فماذا أصنع؟؟ فتقول هات الطرية معنا في السيارة فأطيع وأحل ما عقدت، وأعقد ما حللت. ثم يتضح أن فيما ربط خلف السيارة أشياء لا بد منها كل يضع دقائق في الطريق، فأسأل مثل ماذا؟ فتقول مثل زجاجة الكولونيا الصغيرة وملحقاتها من أدوات الزينة المعروفة التي لا غنى عنها - حتى الفتيات الصغيرات مثل (فتنة) صرن لا يستغنين عن ذلك، فأعود إلى الحل والعقد وأفتح لها الحقائب - في الطريق من فضلك - ولم تكن الشمس قد طلعت، ولكنه كان هناك خلق كثير أحتشد لمكيدتي!! وقد عنيت بأن أحصي هذا الخلق وإليك البيان:

(1) سائق مركبة (كارو) - سكران على الأرجح

(2) ستة من عمال الطرق عائدون يمشون صفين ومعهم المكانس يحملونها كما يحمل الجنود البنادق. وقد وقفوا ينظرون إلينا مسرورين

(3) قطتان: واحدة على رصيفنا والأخرى على رصيف (ذات الثوب الأرجواني)

(4) أربعة غلمان كانوا سائرين فلما رأونا راقهم منظرنا فوقفوا ينظرون ويتبادلون الملاحظات ولا أدري من أين جاءوا ولا إلى أين كانوا ذاهبين في هذه البكرة

(5) رجل من عمال شركة النور كف حين رآنا عن إطفاء المصابيح وجاء ووقف مع الغلمان

ولم أحسب المارة الذين أبى لهم أدبهم - أو ذهولهم - أن يقفوا ويتفرجوا. وقد كان هؤلاء جميعاً يضحكون منا حتى القطتان

ولا أمل القارئ بوصف هذه الرحلة وما جرى فيها فليس لهذا آخر، فقد كان كل كيلو فيها لا يخلو من حادثة، وصار لي في هذه السكة الزراعية من الذكريات بعدد ما على جانبيها من الأشجار. ولما دنونا من البلدة قالت: (هل هذه هي. . .)

قلت: (قربنا)

قالت: (أراهن أنك لن تقبل بعد اليوم أن تحمل في سيارتك فتاة أخرى) ثم التفت إلي لأعني أنها انحنت قليلاً إلى الأمام وواجهتني وهي تبتسم وقالت: (قد تكره أن تسمع مني هذا ولكني شاكرة. . . شاكرة جداً. . وقد أتعبتك. . لا تقل شيئاً فإني واثقة أني أتعبتك. ولكنك كنت حليماً جداً)

فقلت: (كلام فارغ. . قولي شيئاً آخر)

قالت: (لا أدري متى يتاح لي أن أراك مرة أخرى ولهذا عجلت بشكرك في الطريق)

فضبطت نفسي بجهد، ومع ذلك كانت (إيه؟) التي ندت عني كالصيحة فقالت: (نعم فأني مرتبطة بأهلي فإذا رحلوا - كما ينوون أن يفعلوا - إلى الإسكندرية رحلت معهم وإلا بقينا. . وأنا أرجو أن يبقوا فأني أريد أن أتملى بـ. . . وبـ. . .)

فصحت بها: (ماذا تعنين؟؟ أعني ما الفائدة من حملك كل هذه المسافة من القاهرة إلى هذه القرية السحيقة إذا كنت ستختفين غداً؟؟)

قالت: (وماذا أصنع؟. وعلى كل حال كيف يعنيك هذا؟. ماذا يهمك؟)

قلت مغالطاً: (لا شيء بالطبع! لك الحق)

قالت: (لقد كنت أهم بأن أقول لك أكتب إلي إذا شئت ولكني عدلت الآن. . من فضلك أنتظر لحظة. . دقيقة واحدة فإن جوربي أتسخ جداً وأريد أن أغيره قبل أن ندخل البلدة)

فوقفت ونزلت من السيارة وذهبت أتمشى فلما عدت - إجابة لندائها - قالت: (الآن أنا نظيفة وجميلة)

فقلت: (أنت دائماً هكذا)

قالت: (صحيح؟) وكنت صادقاً فما فقدت ذرة من نضارتها ورونقها بعد مائة وثمانين كيلو متراً

فقالت: (إن خير ما فيك أنك تعني ما تقول. . فأنا أعرف الآن أني دائماً جميلة. . وأنا أعرف بغير معونتك أن ساقي جميلتان لا تكابر. . لقد قلت هذا. . ولكن عيني. . و. . و. . وشعري. . أنا مضطربة. . لم أسمع منك ثناء على عيني وشعري)

فقلت باختصار: (خير ما رأيت)

فابتسمت وقالت: (ثناء وجيز. . وجيز جداً. . ولكنه يكفي للاطمئنان. .)

فلم يسعني إلا أن أقرصها وأنا أصيح بها (يا ملعونة)

وأعود إلى الريف الذي نشدت في ظله الروح والراحة فأقول أن هذه الزروع التي تمتد إلى النهر والتي كانت تبدو لي في الظلام سوداء أنعشت روحي وبردت دمائي التي كانت تغلي في عروقي ووهبتني السكينة والهدوء لأعصابي التي أثارها الغيظ والغضب، والروح لقلبي الذي أجهده حب عقيم، ولكنه مع ذلك مضطرم. وقد كلمتني الأشجار الوارفة، والمياه الجارية، والهواء الندي، والظلال المديدة تحت الألفاف المتشجّنة. وقالت لي كلها أني مخطئ في ثورتي وغضبي وأني يجب أن أعرف وأدرك أني لا شيء في حياة ذات الثوب الأرجواني، ولما كنت لا شيء فإن من التطاول والغرور أن أحاول أن أحشر نفسي في حياتها، وأن أزحمها بوجودي وأن أهيمن عليها وأسيطر. نعم أنا لاشيء. وليس لي عند ذات الثوب الأرجواني شيء. . لا اختلاجه واحدة من جفنها. ولا نبضة من عروقها. ولا خفقة مفردة من قلبها، ولا خاطراً مما يجول في رأسها أو يدور في نفسها. . ولا نفساً واحداً من هذه الآلاف والملايين من الأنفاس التي يعلو لها صدرها ويهبط. . حتى هذا الذي هو للهواء ليس لي منه شيء!!

وقضيت يومين بين أحضان الطبيعة الصريحة فكانت أشجارها ومياهها وأطيارها تعيد على مسمعي هذا المعنى في كل ليلة وتكرره وإن اختلفت الأنغام وتعددت الأصوات، وما كانت تعيد أو تسمعني إلا ما كانت نفسي تحدثني به، وقلبي يخبرني أنه الحق الذي كنت أحاول بالأمل أن أخنقه كل ليلة في ظلمة الليل على وسادتي كأنه صوت (ديدمونه) إذ يميل على عنقها عطيل بيديه الكبيرتين الغليظتين.

وعدت وقد وطنت نفسي على اليأس، وخيل إلي أنها سكنت واطمأنت، فجلست في شرفتي ملفوفا في سواد الليل، وفي قلبي برد السكينة، أنظر إلى النجوم المتلامحة، ولا أنظر إلى شرفتك وإذا بصوتك يهفو إلي منها. . . صوتك إذ تنادين أخاك. . فذهبت سكينة نفسي ومزقتها العاصفة الكامنة في أعماق البحر، وأحسست أن روحي كلها تهزها نبرات هذا الصوت العجيب. . . وخفت صوت الطبيعة التي ناجتني به في الريف في ظل الشجر وعلى سيف النهر. . وكنت تميلين على حافة الشرفة وترسلين الصوت مجلجلاً في سكون الليل، وتهيبين بأخيك أن يرتد إليك قبل أن يذهب في شأنه، فوددت لو أقف وأصيح به وأعينك على أسماعه ورده! ونهضت فعلاً، ولكني وضعت يدي على فمي، وكتمت ما كان يوشك أن ترتفع به عقيرتي ثم انحططت على مقعدي وقد شاع فيّ اليأس (علوا وسفلا) كما يقول النواسي - اليأس من الشقاء - والسخط على نفسي إذ ذهبت إلى الريف وحرمت نفسي مرآك يومين كاملين بلا جدوى.

كلا. . لست ذلك (اللاشيء) الذي زعمتني الطبيعة الساذجة!. وليس صحيحاً أن أنفاسك كلها ذاهبة في الهواء كما تذهب أنفاس الناس. . ولا أن خفقات قلبك ليس لي منها نصيب. . ولقد غافلتك ومضيت إلى غرفة مظلمة واستعنت بمنظار مكبر، فإذا عينك على شرفتي، وإذ أنت تتلفتين ثم تحدقين لتتبيني ولتعرفي أباقٍ أنا في الشرفة حيث كنت أم دخلت؟. وكنت قد غالطتك وخادعتك فأسندت شيئاً على الكرسي مكاني لتظلي متوهمة أني هناك حين تنظرين، ولأستطيع أن أعرف أين تنظرين حين تفعلين. . فزال الشك فقد طال تحديقك ثم كأنما رابك شيء من جمود هذا القائم على الكرسي فجعلت تتحولين إلى كل موضع في الشرفة وتنظرين، ولبثت هكذا زمناً ثم دخلت، فما كان مني إلا أن أسرعت وعدت إلى الكرسي فقعدت عليه مطمئناً كما كانت الحبشية التي وضعتها قاعدة! إذن كانت لي تلك الوردة الحمراء التي نفضت عنها طلّها وشممتها. . ولي هذه الإشارة إذ تظهرين على الشرفة فترفعين أناملك إلى خصل شعرك المرسل وتردينها عن أذنك. . ولي هذه الابتسامات الوضيئة حين يسرك من جليسك أو جليستك ما تسمعين. . . وأذن لم يكن عفواً أن الفتاة التي زارتك عصر يوم كانت لا تنفك تدير وجهها وتنظر إلى ناحيتي كأنما تريد أن تراني. ولقد عجبت يومئذ لكثرة تلفتها ونظرها إلي وظننت أن هذا من الفضول المألوف، ثم ترددت وشككت فقد رأيتك تتكلمين ورأيتها تتلفت، فتخفين أنت وجهك حتى ترد هي وجهها إليك. وتكرر هذا مع زائرة أخرى جلست معك في الشرفة - وكنت أحسبها قديماً أختاً لك متزوجة لمشابه رأيتها فيها منك - وكان ظهرك إليّ وجهها هي إليك وإليّ، وكان الكلام يدور بينكما، ولكن عين الزائرة لم تكن إلا عليّ أنا، وأنا أتشاغل عنكما ولكني أراكما، وقديماً قالت أمي عني أن لي عيناً في قفاي. . وإذن ليس عفواً أن أهلك جميعاً معنيون بي وأنهم لا يزالون يراعونني وينظرون إلي بل يراقبونني - لولا أني أكره هذه اللفظة - حتى ليبدو لي أحياناً أنهم يصطفون في الشرفة ويبعثون إليك وأنت في الحجرة بأخباري وأنبائي لتعرفي أباق أنا أم خارج. كأنما يحجرون عليك ويمنعونك أن تظهري لي، ولا يسمحون لك بالبروز إلا بعد أن يوقنوا أني خرجت وأن في الوسع اتقاء شري. .

كأنما في الأمر شر. . ويكبر هذا في وهمي أحياناً حتى لأترك البيت لغير سبب أو داع سوى أن أعفيك من عنت أهلك، وأطلق لك الحرية التي يقيدونها بسببي. . وإذا جلست في الشرفة تعمدت أن أحول عيني إلى ناحية أخرى وإن كان هذا حرماناً لي لا حق لهم فيه، ولكني من أجلك أحتمله وفي سبيلك أصبر عليه. وليت من يدري بأي شيء لفت نظر أهلك إلى حبي لك وأنا أتحاشى كل إشارة؟ بل أنا أجتنب أن أنظر إليك حين يكون معك أحد ولو كان طفلاً صغيراً. . فهل ترى حدثتهم أنت بما أحسست من ناحيتي؟؟ ربما. . فإن كنت قد فعلت فأنت طائشة، فقد جعلت على نفسك منهم رقباء بلا موجب، فما بيننا شيء سوى النظر (وهل ذاك نافع؟) كما يقول الشاعر القديم. . وقد حدثت نفسي أمس أن أشتري ورداً أحمر، فأنك تحبينه على ما يظهر، وأن أشير به إليك، ولكني لم أفعل وقلت لنفسي: (ما الفائدة؟. هبني أشرت وأشرت وهبها أجابت وأجابت؟؟ أفنظل أنا أشير إليها من بعيد، وهي تجاوبني من بعيد؟؟ ثم لا شيء غير ذلك. . عرفنا أنا محبان ثم ماذا بعد هذا؟؟ هي تظهر في الشرفة، وأنا أنظر إليها من الشرفة. . هي في السماء نجم لامع، وأنا فوق الأرض عين يرفعها إليه قلب واجف!! كلا! لا ورد ولا شبهه!. ما الفائدة؟. ما الفائدة؟. إني أراني أرجع القهقرى قروناً. . بل أنا لا أرجع ولا أتقدم. . وإنما أرى الحياة تركد وتأسن من حولي لأن ذات الثوب الأرجواني شاءت أن تكون قطعة من أثاث بيت فهي فيه لتكون زينة له لا لتحيا وتنعم بالحياة. . وأثارني هذا الخاطر فغضبت وسخطت وأحسست أن نفسي امتلأت مرارة حتى لو وجدت طعمها على لساني. . . سخطت على نفسي لأني خيل إلي أني إنما أحب فتاة ساذجة يسرها أن تكون محبوبة وتقنع من الحب بأن تنظر إلى الرجل وترى الرجل ينظر إليها. . . وغضبت لأني رأيت أن هذه مهزلة فأنا أذوي نفسي، وأمزق أعصابي، وأحرق دمي، وهي تظن أني مغتبط راض قانع بمرآها في هذه الأثواب العديدة التي لا تنفك تخلع منها واحداً وتلبس آخر؟. وما أكثر ما آليت لأسحقن هذا الحب ثم ما هو إلا أن أراها ناظرة إلي حتى يتحلل العزم وينقض ما كنت أبرمته منه. فالحق أن هذه مصيبة لم تكن لي في حساب ولا كان يخطر لي في بال أنها ستنصب يوماً على أم رأسي. . وانظر ماذا تصنع معي!! تبدو لي في الأرجواني، وتبقى فيه حتى أراها - أعني حتى توقن أني رأيتها فأني أراها كثيراً وهي لا تراني - فإذا وثقت دخلت وغيرته!! أليست هذه مكايدة متعمدة. .؟

إبراهيم عبد القادر المازني