مجلة الرسالة/العدد 161/أندلسيات

مجلة الرسالة/العدد 161/أندلسيات

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 08 - 1936



أبو بكر بن العربي

للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي

نترجم اليوم لإمام عظيم من أئمة المسلمين، وعلم من أعلام هذا الدين، الذين أنجبتهم الأندلس فيمن أنجبت، فأثروا في العلوم الإسلامية تأثيراً، ونظروا فيها تنظيراً، وفصلوا ما أجمل منها تفصيلاً، وسجلوا من ثم أسمائهم في سجل الخلود تسجيلاً. .

هذا الإمام هو العالم الحافظ الأصولي المحدث الفقيه الأديب الثبت الثقة أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد المعافري الإشبيلي الأندلسي المعروف بالقاضي أبي بكر بن العربي. .

نجل هذا الإمام أبوان كريمان فاضلان معرقٌ لهما في الفضل والكرم، ومن ثم تداركته أعراق صدق وكان منه هذا النابغة العظيم، ولا جرم، فأن للوراثة أثرها، وللبيئة أثرها البالغ كذلك، هيأهما قدر من الله نافذ، وخط في أم الكتاب مسطور، وذلك أن أم المترجم له هي بنت أبي سعيد عبد الرحمن الهوزني صاحب صلاة الجماعة بقرطبة في عهدي عبد الرحمن الداخل وابنه هشام، وهو رأى أبو سعيد والد أبي القاسم الحسن الهوزني أحد العلماء الأعلام والسروات النابهين، وهو - أي أبو القاسم - والد أبي حفص عمر ابن الحسن الهوزني الكاتب البارع الألمعي. أما أبو المترجم له فهو أبو محمد عبد الله بن محمد أحد فقهاء أشبيلية ورؤسائها، وكان له عند المعتمد بن عباد أعظم ملوك الطوائف وعند أبيه المعتضد من قبله منزلة باسقة. . ولما انقضت دولة المعتمد بن عباد وسائر ملوك الطوائف باستيلاء يوسف بن تاشفين ملك مراكش على الأندلس خرج أبو محمد ومعه ابنه المترجم إلى الحج، وذلك سنة 485هـ - سنة 1092م - وسن المترجم له إذ ذاك زهاء سبعة عشر عاماً، إذ كان مولده سنة 1075م، وقد تأدب المترجم بأشبيلية قبل ارتحاله مع أبيه وقرأ القراءات وسمع أباه وخاله أبا القاسم الحسن الهوزني وأبا عبد الله السرقسطي وغيرهم، وفي ذلك يقول من كتاب له: (حذقت القرآن ابن تسع سنين ثم ثلاثة لضبط القرآن والعربية والحساب، فبلغت ستة عشرة، وقد قرأت من الأحرف نحواً من عشرة بما يتبعها من إظهار وإدغام ونحوه، وتمرنت في العربية واللغة ثم رحل بي أبي إلى الشرق.) ولما ذهب إلى الإسكندرية سمع الأنماطي وغيره، وسمع بمصر أبا الحسن الخلعي وغيره، وبدمشق غير واحد، ولقي ببغداد أبا حامد الغزالي وغيره، وفي لقائه الغزالي يقول في كتابه قانون التأويل: (ورد علينا ذا نشمند - يعني الغزالي - فنزل برباط أبي سعد بازاء المدرسة النظامية معرضاً على الدنيا مقبلاً على الله تعالى فمشينا إليه، وعرضنا أخيلتنا عليه، وقلت له: أنت ضالتنا التي كنا ننشد، وإمامنا الذي به نسترشد، فلقينا لقاء المعرفة، وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة، وتحققنا أن الذي نقل إلينا من أن الخبر على الغائب فوق المشاهدة ليس على العموم ولو رآه علي بن العباس - ابن الرومي - لما قال:

إذا ما مدحت امرأ غائباً ... فلا تَغْلُ في مدحه واقصِدِ

فإنك إن تَغْلُ تَغْلُ الظنو - ن فيه إلى الأمد الأبعد

فَيَصغُرُ من حيث عَظّمتَه ... لفضل المغيب على المشهد

ثم حج في موسم سنة 489 وسمع بمكة أبا علي الحسين بن علي الطبري وغيره، ثم عاد إلى بغداد ثانية وصحب أبا بكر الشاشي وأبا حامد الغزالي والخطيب التبريزي وغيرهم من العلماء والأدباء وقرأ عليهم الفقه والأصول والأدب، وقيد الحديث وإتسع في الرواية وأتقن مسائل الخلاف والأصول والكلام (علم التوحيد) ثم صدر عن بغداد إلى الأندلس وعاج على الإسكندرية وأقام بها مدة عند أبي بكر الطرطوشي فمات بها أول سنة 483 ثم انصرف هو إلى الأندلس سنة 495 وقدم بلدة أشبيلية بعلم كثير لم يأتي بمثله أحد قبله ممن كانت له رحلة إلى المشرق - إلا الإمام الباجي كما يقول المترجم من كلمة له - وسنترجم للباجي - وكانت رحلة علماء الأندلس وأدبائها إلى المشرق - إلى أفريقية - تونس والجزائر - ومصر والشام والعراق والحجاز، وإلى خراسان وما إليها بل وإلى الهند والصين أحياناً - في حركة ودؤوب عجيبين، لا يكادان يفترقان على بعد المشقة وصعوبة المواصلات واختلال الأمن، كما كان كثير من المشارقة يرتحلون إلى الأندلس، غير أن رحلة الأندلسيين إلى المشرق كانت في الأعم الأغلب لنشدان التبحر في العلم والأدب واللغة والارتواء من سلسبيلها الثر الفياض إذ الأندلسيون يعلمون أن المشرق هو مهد العلوم والمعارف، فكانوا لذلك يقفون من المشارقة موقف الأبناء من الآباء، أو التلاميذ من الأساتيذ. كما كان من أغراضهم تأدية فريضة الحج. أما المشارقة فقد كان ارتحالهم إلى الأندلس إما بدعوة من ملوكها للإفادة وبث العلم والفن والأدب كما كان الشأن مع أبي علي القالي إذ دعاه الحكم المستنصر ولي عهد الناصر، ومع زرياب الموسيقي العبقري إذ دعاه عبد الرحمن الأوسط، وإما للربح والاتجار كما كان من الرازي محمد بن موسى والد ابي بكر أحمد بن محمد الرازي كبير مؤرخي الأندلس، وإما للاستكشاف وحب الاستطلاع خدمة وللعلم من طريق والسياحات كما كان من مثل ابن حوقل، وإما للإقامة بالأندلس والاستمتاع بذلك الفردوس الإسلامي المفقود كما كان من كثير ممن نزحوا إلى الأندلس وأقاموا بها. . . (وبعد) فأنا في الحق لا نعلم أمة من الأمم كانت تعني بالعلم وتحصيله، وتعاني ما تعاني أراضيه في سبيله، عناية المسلمين الأولين. وكان ذلك منهم نزولاً على حكم دينهم وحضه على التعلم والتعليم وطلب العلم ولو بالصين. . . ولمناسبة السفر وصعوبته في العصور نورد هنا نبذة للمترجم له أوردها المقري، قال: (ولما ذكر القاضي أبو بكر ابن العربي في كتابه قانون التأويل ركوبه البحر في رحلته من أفريقيا قال: وقد سبق في علم الله تعالى أن يعظم علينا البحر بزَوْلِه، ويغرقنا في هوله، فخرجنا من البحر، خروج الميت من القبر، وأتهينا بعد خطب طويل إلى بيوت كعب بن سليم ونحن من السغب، على عطب، ومن العرى، في أقبح زي. . . تمجنا الأبصار، وتخذلنا الأنصار. فعطف أميرهم علينا فأوينا إليه فآوانا، وأطعمنا الله تعالى على يده وسقانا، وأكرم مثوانا وكسانا، بأمر حقير ضعيف، وفن من العلم طريف. وشرحه أنا لما وقفنا على بابه ألفيناه يدير أعواد الشاه، فِعْلَ السامدِ اللاّه، فدنوت منه في تلك الأطمار، وسمح لي بياذقته، إذ كنت من الصغر في حد يسمح فيه للأغمار، ووقفت بازائهم، أنظر إلى تصرفهم من ورائهم، إذ كان علق بنفسي بعض ذلك من بعض القرابة في خُلس البطالة، مع غلبة الصبوة والجهالة، فقلت للبياذقة: الأمير أعلم من صاحبه، فلمحوني شزراً وعظمت أعينهم بعد أن كنتُ نزراً، وتقدم إلي الأمير من نقل الكلام إليه، فاستدناني فدنوتُ منه، وسألني هل لي بما هم فيه بصر؟ فقلت: لي فيه بعض نظر، سيبدو لك ويظهر، حرّك تلك القطعة، ففعل، وعارضه صاحبه، فأمرته أن يحرك أخرى، وما زالت الحركات بينهم كذلك تترى، حتى هزمهم الأمير، وأنقطع التدبير، فقالوا: ما أنت بصغير وكان في أثناء تلك الحركات قد ترنم ابن عم الأمير منشداً: وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه ... وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقي

فقال: لعن الله أبا الطيب أوَ يشكّ الربّ؟

فقلت في الحال: ليس كما ظنّ صاحبك أيها الأمير، إنما أراد بالرب ههنا الصاحب، يقول: ألذ الهوى ما كان المحبُّ فيه من الوصال، وبلوغ الغرض والآمال، وعلى ريب، فهو في وقته كله على رجاء لما يؤمله، ونقاة لما يقع به، كما قال:

إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضى ... فأين حلاوات الرسائل والكتب

وأخذنا نضيف إلى ذلك من الأغراض، في طرفي الإبرام والانتقاض، ما حرّك منهم إلى جهتي دواعي الانتهاض، وأقبلوا يتعجبون مني، ويسألونني كم سنّي، ويستكشفونني عني، فبقرت لهم حديثي، وذكرت لهم نجيثي، وأعلمت الأمير بأن أبي معي فاستدعاه، وقمنا الثلاثة إلى مثواه، فخلع علينا خلعه، وأسبل علينا أدمُعه، وجاء كل خوان، بأفنان الألوان، ثم قال - بعد المبالغة في وصف ما نالهم من إكرامه - فانظر إلى هذا العلم الذي هو للجهل أقرب، مع تلك الصبابة اليسيرة من الأدب، كيف أنقذا من العطب. . .

(لها بقية)

عبد الرحمن البرقوقي