مجلة الرسالة/العدد 161/ذات الثوب الأرجواني

مجلة الرسالة/العدد 161/ذات الثوب الأرجواني

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 08 - 1936



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

(تنبيه: الكلام كله تخيل ولا أصل أو حقيقة له)

- 8 -

لو كانت ذات الثوب الأرجواني مع (موسى) - عليه السلام - لمّا ذهب إلى فرعون يدعوه إلى ربه لكان الأرجح أن يؤمن ولا يكفر، ولكان من المحقق - عندي على الأقل - ألا ينزل بمصر ما نزل بها من البلايا والضربات والمصائب الكبَر. ولكن موسى - عليه السلام دائماً - لم يكن على ما يؤخذ من تاريخ حياته - يعرف مبلغ تأثير الأرجوانيات فلم يسأل الله أن يشد أزره إلا بأخيه هارون؛ وقد فطن قومه إلى هذه الحقيقة، ولكن بعد خراب البصرة. على إني لا أرى ذات الثوب الأرجواني تقيني شيئا ولا أعرفها تدفع عني بلاء. وإن المكاره جميعاً لتحيق بي تحت عيها ومع ذلك لا تحرك ساكناً، ولا ترفع إصبعاً كابحاً، فأي حب هذا بالله؟؟. . . . لكأني بها تشمت بي ويسرّها أن يصيبني كل يوم سوء، وكأنما تظن أن حسبي كلما مسني ضرّ أن أنظر إليها وهي قاعدة على كرسيها، وإحدى ساقيها على الأخرى، وذراعاها على حانة الشرفة، وخدها على ظهر كفها، وأصابعها تنقر على الحجر، وقدمها الدقيقة تتحرك متابعة نقر الأصابع، كأنها تحلم بصوت أو كأنما تدندن لنفسها بصوت خفيض. . . وليتني مع ذلك أسمع!! إذن لكان لي بعض العزاء. . . ولقد سمعت صوتها إذ تكلم جارتها أو تدعو أخاها - أو هو لا بد أن يكون أخاها - ولكني لم أسمع غناءها. وما من شك عندي في أنه شجي وأن صوتها رخيم فأنه خالص كالفضة. ولكنها بخيلة. . . جداً. . .

وآخر ما حدث مما لم تدفع عني شره إني بعد أن كتبت فصلاً من هذه الفصول كان في البيت لفيف من الأهل والأنسباء - قبحهم الله جميعاً - فقالوا ما هذا؟ قلت: (فصل في ذات الثوب الأرجواني). قالوا: من عساها تكون؟ فكرهت هذا الفضول منهم - ولكنهم يحسبون أن كونهم أقارب يشفع لهم في كل فضول - غير أني كتمت مقتي لفضولهم - لا لهم هم - وقلت: (إنها من مخلوقات الخيال) فجعل هذا يزوم، وذاك يحدق في وجهي، وثالث يقول لي: (عيني في عينك؟) ورابع يقول: (طبعاً. طبعاً) إلى آخر ذلك. ثم اقترح واحد منهم - هو أخبثهم - أن أقرأه لهم، فقلت: حتى ينشر. قالوا: بل الآن وهل ثم مانع؟ وما الفرق بين أن نسمعه الآن وأن نقرأه مطبوعاً في (الرسالة)؟؟ فاقتنعت - لا أدري كيف؟ - وشرعت أقرأ لهم، وليتني ما فعلت فقد كنت كأنما بعت نفسي. .

وقال أحدهم: (اسمع. . مادام أن الأمر كما تقول فان من الواجب تغيير كذا وكذا وإبداله بكيت وكيت. . .)

فقلت: (هذا مستحيل. . لقد كتبت ما خطر لي وانتهى الأمر)

قال: (كلا. . يجب أن تجعل الرجل الذي تتحدث بلسانه أرق مما يوهم كلامك)

قلت: (ولكنه هكذا. . وقد خلقه الله كذلك فكيف أشوهه أنا؟؟)

قال: (إذا هو شخص حقيقي.؟)

قلت - وقد أحسست إني وقعت - (يا أخي وما لك أنت؟. إن صورته في ذهني هي كما أصف. . ولست أستطيع أن أغيرها إلا إذا استطعت أن أغير طريقة تفكيري وصبغة خيالي. . وهذا شيء لا قِبلَ لي به فاقصر بالله عليك)

فشرعوا يتهكمون ويسخرون. وقال أحدهم: (هل قلت إن أنفه أقنى؟؟)

قلت: (كلا فإني أستقبح هذا النوع من الأنوف)

قال: (إني واثق انك كنت تتصورني وأنت تصف هذا العاشق المدنف، ولهذا أرى من حقي أن أُستشار فيما تكتب عنه)

قلت: (إن عاشقي ليس مدنفاً. . . هو على العكس صحيح معافى. . . ثم إنك آخر من يصلح لهذه المواقف الإنسانية. . . ولست مجنوناً حتى أصفك في قصة)

قال: (هل تسمعون؟؟ لا بأس!. عض اليد التي تطعمك وتغذيك!!. هذا جزاء من يسمح لك أن تصور شخصيته البارعة. . لا بأس!! ولكني لا أفهم كيف تكون هذه الحبيبة عصرية ولا يكون لها كلب؟. أو على الأقل جرو صغير؟؟. . نعم لا بد من كلب فقم أدخله في القصة)

فقلت بغيض: (يكفي لأنك ستقرأها فيتحقق مرادك) فلم ينهزم وقال: (صحيح؟؟ ولكن هذا لا ينفي أن الفتاة المسكينة لا كلب لها إلاّ على بعد ثلاثين مترا!! كلاّ. هذا لا يليق!! اسمع مني وغير ما كتبت. . وهاأنذا مستعد أن أساعدك. . إن المناسبة توجد الرجل الصالح. .

وأنا أسألك بإخلاص أي شيء أوفق من أن أمد يدي إليك لأشد أزرك؟ وهل يليق بي أن أقعد ساكتا وأنا أراك تخلط وترسم لنا صورة رجل وامرأة لا يمكن أن يمشي مثلهما في الدنيا؟؟ كلاّ - على التحقيق. . . (والتفت إلى الموجودين وسألهم) أهذا ينتظر مني؟؟.)

ولأول مرة في هذه الجلسة سررت إذ سمعتهم جميعاً يقولون بلسان واحد (نعم)

ولكنه لم يعبأ بهم ومضى يقول: (هاأنذا. . أجيء في اللحظة الحافلة بالاحتمالات متنكراً في زي رجل هرم وفي قدمي حذاءان قد يليقان بأبينا آدم - فقد زعموا أن طوله والعياذ بالله أربعون متراً - وبفم ليس لحلقه سقف. . حسن. . ولا يراني أحد. . ولا تفطن إلى وجودي الفتاة ذات الثوب الأرجواني، على الرغم من حذائي المهولين. . . فأخرج منهما، وأتسلق أنابيب المجاري حتى أبلغ الشرفة التي تتخذها ذات الثوب الأرجواني، غرفة جلوس، وحجرة استقبال وبستاناً للنزهة، وملعبا للتنس ومرصدا للأفلاك!! فأفاجئها وهي قاعدة تفكر في حبيبها المخرف الذي لا يستطيع حتى أن يحرك إصبعاً يشير به إليها وأقول لها بخ بخ. . فتفزع وتصيح ياي. . ياي. .)

فلما سكنت الضجة قلت: (إني أكتب قصة ولست أصف ملعب مهرجين أو سرك حيوانات)

قال: (ما أحسن هذا الأدب!! أنت لا تستطيع أن تفهم المواقف الروائية ولهذا. . .)

فصاحت إحدى الفتيات الموجودات. . (هس. . أظن أن هذه هي ذات الثوب الأرجواني. . الحق إنها جميلة. . ويجب أن نعترف أنه معذور)

فعاد اللعين يقول: (آه. . لا شك. . لا شك. . جميلة جداً. . ولكن انظروا ماذا صنع بها؟؟ لقد صارت في يده. . أعني في وصفه لها. . ثوبا أرجوانيا لا فتاةً من لحم ودم. . ولو أنه استمع لي. .)

وهنا ضاق صدري ونفذ صبري ولم تبق لي طاقة على احتمال هذه السخرية فتناولت الورقات التي كانت مكتوبة وكنت أقرأها لهم ومزقتها كل ممزق

وليس هذا سوى مثل لبعض ما ألقى في سبيل ذات الثوب الأرجواني، وهي لا تعبأ ولا تبالي!! والحق أقول إني لم أعد أفهم شيئاً من أمرها. فأما أنها معنية بي فهذا ما لا يخالجني شك فيه. ولقد حرصت مرات على أن أتبين هل في العمارة التي أسكن إحدى شقاتها من يغازلها أو يناجيها أو يصنع ما يصنع المعجب أو العاشق أو المفتون، فلم أجد أحداً وكثيراً ما انحدرت إلى الشارع ووقفت على الرصيف الآخر المقابل لرصيفنا ونظرت إلى عمارتنا، وقد وجدت في كل مرة أن النوافذ جميعاً إما موصدة أو لا أحد فيها. ثم إني أعرف متى يكون مساكنيّ في بيوتهم ومتى يخرج كل منهم؛ فقد لاحظتهم جميعاً وعرفت عاداتهم - حتى الشبان الملاعين الذين تخشى مزاحمتهم - فلا أحد هناك تنظر إليه أو ينظر إليها سواي في هذه العمارة الضخمة ذات الطبقات السبع. فهي لا شك تعنيني وحدي بكل ما يبدو عليها من ارتياح واشمئزاز، ومن نفور وإقبال، وأنا المقصود بكل ذلك. ومؤدى هذا أن لها عناية بي، وليس المهم أن تكرهني أو تحبني فإن المآل واحد في الحالتين؛ ومتى نجح الرجل في لفت المرأة إليه فانه يستوي أن تظهر له البغض وأن تبدي المودة؛ فان المهم أنها صارت تعني به، وأنها أصبحت مشغولة بأمره، ولا بد أن يؤدي هذا إلى الحب آخر الأمر. فليس للحب أول عند المرأة إلاّ العناية مهما كان باعثها والداعي إليها، ولا ريب في عنايتها بي. بل في وسعي أن أقول وأنا آمن ومطمئن إنها تدرسني في الصحة والمرض، والسرور والحزن، والضحك والكآبة، والجد واللعب. بل هي ترصد كل حركة لي، وكل إشارة، وتتبع ما يصدر عني وما يكون مني ما دمت بادياً لها، وقد كنت أمس أنظر من الشرفة إلى الطريق وأتأمل الرائحين والغادين وأسرّي عن نفسي بمناظر الناس وما يكون منهم، فاتفق أن رأيت فتاة في ثوب بني محبوك وحذاءين خيل إلي أن أحدهما أبيض والآخر أسود، فاستغربت أن تلبس فتاة حذاءين مختلفي اللون، ودعوت إحدى من في البيت إلى النظر فوقفت مستغربة مثلي، وكانت الفتاة تروح وتجيء على الرصيف في انتظار الأمنيبوس، وقد أبطأ عليها فطال تمشيها أمامنا، وطال عجبنا من حذاءيها المختلفين، وكنت أشير إليها وأنا أتحدث عنها ثم رفعت رأسي إلى شرفة الأرجوانية فإذا فتاتي قد نهضت وانحنت تطل على هذه الأعجوبة، وقد ظهر لنا أن الحذاءين ليسا مختلفين وأن كل منهما نصفه أبيض والنصف الآخر أسود. ولما كانت الفتاة تسير وجانبها ألينا فأنه لم يكن يبدو لنا من لوني كل حذاء إلاّ جانب واحد، ولهذا ظنناها بالغت وأسرفت في الأناقة إلى حد اتخاذ حذاءين: واحد أبيض، والثاني أسود

أريد أن أقول إن بال الأرجوانية إليّ - لا شك في ذلك - وأن عينها على كل حركة لي وأنها تتعقب إشاراتي - وكلامي أيضاً - وتحاول أن تدرك المقصود منها والمراد بها، ولم أقص حكاية الحذاءين وصاحبتهما إلا على سبيل التمثيل. وثم قصص أخرى تجري هذا المجرى وتؤدي إلى هذه الدلالة، وفي ذكرها تطويل لا موجب له. ومع ذلك تجاهد ذات الثوب الأرجواني أن تخفي حبها - أو على الأقل عنايتها الشديدة - وتروح تغالطني فتبدي لي صفحة الأعراض بعد أن تشير لي بوردة وتطمعني بهذه الإيماءة الرقيقة. وما أكثر ما تنتفض قائمة كأنما شكها أحد بسيخ محمي وتخرج ثم لا تلبث أن تعود ضاحكة مشرقة الديباجة!! ويجن الليل فتجعل من شرفتها مرصداً لأنها هي في الظلام وأنا في النور. وتظن أني لا أراها. وأنا يحلو لي أن أجلس في الصيف في شرفتي وأتعشى فيها أيضاً، فإن الغرف حارة حامية كاوية، كنار الله الموقدة، والعياذ به تعالى

وليس أحلى من ليالي الصيف إذا لم يركد الهواء. فإذا جلست في شرفتي جعلت ذات الثوب الأرجواني تراعيني من مكمنها المظلم وهي تحسب أني غافل عنها، أو أني لا أرى في الظلام ولها العذر. ومن أدراها أن لي عينا كعين القطة؟ - ترى في الظلمة كما ترى في النور. . . وأحسب أن الأرجوانية قد صارت تعرف كل شيء عني فليس عندي ما أكتمه. وإذا كان أحد من خلق الله يؤمن بالسر فإني لا أؤمن بذلك، ولا أعتقد أن في الدنيا شيئاً يبقى سراً مكتوماً. ولهذا أرى أن من العبث أن أحاول كتمان أمر. وما دام ليس هناك ما يخزيني فلماذا أتكتم وأتستر؟؟ ولا بد أن يعرف الناس ما تحاول إخفاءه، فأولى بك أن تدعهم يعرفونه منك اتقاء للتشويه، واجتناباً للغلط وسوء التصوير. ولكني لا أعرف عنها إلا القليل البادي لأنها فتاة وليست رجلا مثلي. وللرجل من الحرية ما ليس للمرأة. وقد لا يضير الرجل أن يعرف عنه الناس أنه عاشق، ولكن فتاة صغيرة غضة السن قد يضيرها ذلك، ولا سيما إذا كانت لا تعرف آخرتها مع الرجل الذي ترى قلبها مجذوباً إليه. ومن هنا أعذرها، ولكن الذي لا أستطيع أن أتبين وجه العذر فيه أو الحكمة هو هذا التقلب، فإنها تارة ترضى وأخرى تغضب، ومرة تقبل وطوراً تنفر. وإنها لتقبل أحياناً حتى لا تبقي ذرة من الشك في سرورها بحبي لها وحتى لأحس برغبة شديدة في أن أقفز من النافذة إذ يخيل لي في هذه اللحظات أني أستطيع أن أطير إليها من فرط الخفة والسرور، ثم تعرض وتنفر فيثقل على نفسي ذلك حتى لأهم بأن أضرب حجارة الشرفة بيدي وأركلها برجلي كأنها هي المسؤولة عما أرى من إعراضها. . ولا سبب أعرفه لإقبالها ولا لإعراضها فما بيننا أكثر من النظر. . ولو شاءت لكان بيننا ما يختصر هذه الثلاثين متراّ ويجعلها متراّ أو نصف متر أو شبراّ أو اقل من ذلك. . ولكنها لا تشاء. وأكبر الظن أن ليس لمشيئتها دخل في الأمر وأن رغبتها لا تقدم أو تؤخر. . كان الله في عونها. . وفي عوني أنا أيضاً، فان ضيق صدرها بما تجد من القيود التي حولها ينقلب على أم رأسي أنا. . ومالي ذنب ولكن العامة صدقوا في قولهم (ضربوا بتاع الكسبري. . .)

إبراهيم عبد القادر المازني