مجلة الرسالة/العدد 161/من تلميذ إلى أستاذه

مجلة الرسالة/العدد 161/من تلميذ إلى أستاذه

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 08 - 1936



بقلم محمد عبد السلام بحر

منذ سنوات خلت كنت أجلس أمام معلمي الأستاذ عبد الله عفيفي في درسه وكلي أذن صاغية وقلب واع لما يدور في خلده من شتى المعاني والصور، فيجري على لسانه خير آيات وعبر

بين جدران الفصل الأربعة، وفي ذلك العدد القليل من زملائي، كنت أنتهل من مورده العذب في صمت مقتنعاً برأيه لا أنبس ببنت شفة - ولقد عودنا الأستاذ فيما عودنا حرية الرأي - فاليوم وقد نضجت في أثماره فليهنأ بجنيها - ولكن أما وقد كبر الشيخ وذهبت أسنانه بددا - فليعان قضمها، وليسمح لي بأن أجابهه بلسان الحق وعلى ملأ من الأدباء بمناقشة أدبية في قصيدته التي رثى بها المغفور له الدكتور شاهين باشا. ولكن في رفق كما كان يرفق بي، وفي أدب كما يجب أن يتأدب ولد مع والد

لقد قال الأستاذ:

أشكو الأسى ويد الآسي موسدة ... لقد تمادين في الإسراف أيامي

ولقد سبق فضل الأستاذ علي فعلمني أن الفعل يطابق الفاعل إفراداً وتثنية وجمعاً، تذكيراً وتأنيثاً إذا جاء بعده، أما إذا سبقه فيجب إفراده؛ وترونه هنا يقول (تمادين أيامي). معاذ الله أن أقول إن الأستاذ نسي هذه القاعدة. أو إنه تغافل عنها لضرورة (الوزن)، وإنما أقول إنه يكشف عن آثار اللغات القديمة أمثال لغة (أكلوني البراغيث) التي كثيراً ما كان يعيب علينا وقوعنا فيها في موضوعاتنا الإنشائية

ثم يقول:

. . . . . . . . . . ... كد لعقل وأشغال لأفهام

وهنا لا أقول إنني بحثت عن (أشغال) في معاجم اللغة فلم أجدها، وإنما أذكر الأستاذ بطرفة من طرفه الممتعة التي كان يخفف بها عنا عناء الدرس إذ قال: - كتب أحدهم مرة إلى ابن العميد - (أريد إشغالي عندك) - فرد عليه ابن العميد - (إن من يكتب لي إشغالي، لا يصلح لأشغالي)

ثم يقول: . . . . . . . ... عن نوح نائحة أو دمع أقلام

وفي بيت آخر:

. . . . . . . . . . . . . . ... رقبي الهلال على ديباجة العام

هنا لا يمكنني أن أقول إنني لا أفهم (دمع الأقلام ولا ديباجة العام) - فان تأنيب الأستاذ في مثل هذه المواقف لا زلت أذكره ولا يزال يرهبني - وإنما تخلصاً من هذا المأزق أقول إن الأستاذ يتصرف في المعاني تصرفاً قياسياً، فهو يقول: (دمع الأقلام وديباجة العام) وأنا أطأطئ رأسي خاشعاً لهذه البلاغة العميقة فهي ليست على قياس (جناح الذل وماء الملام) فحسب، بل هي أبلغ من هذا وأسمى. على أنه في نفس الوقت كان يقصد (بديباجة العام) - ديباجة الشهر، ولكن استلزمته القافية لأن يخلق هلالاً سنوياً على رأس أهلة الشهور الاثني عشر لا يرقبه سواه

ثم يقول:

أبو الأطباء أودى ليت ناعيه ... لاقى الردى قبل منعاه بارغام

هنا يخيل إليّ أن الأستاذ قد آلى على نفسه إلا أن تكون القصيدة أربعين بيتاً كاملاً، فقد زج بهذه الألفاظ في هذا القالب زجاً - أو أنه قال: أبو الأطباء أودي - وقد تورط فرأى أن يدعو على الناعي الذي لا ذنب له فأتى بباقي البيت التزاماً للقافية - وأما إذا كانت هذه هي سنته في كل مصرع فأولى به أن يدعو على سيدنا أبي بكر الذي نعي موت الرسول إذ قال: (من كان يعبد محمداً فان محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فان الله حي لا يموت). ثم يقول:

مضى الطبيب الذي للطب من يده ... إحياء أفئدة موتى وأجسام

هنا تأخذني الحدة ولا أذكر ورقة العقاب وأقول (لا حياء في العلم) وأعلن رأيي جهاراً بأن الأستاذ لم يتحفظ في هذا البيت بل كبا كبوة ما لها من مقيل. متى أحيا شاهين باشا الموتى؟ دون هذا وينفق أطباء العالم. ثم لأذكر فضل الأستاذ علي فلا أبارزه بحسامه، ولأهدأ قليلاً ثم أصلح له زلة كم أصلح لي من أمثالها فأقول:

مضى الطبيب الذي للطب من يده ... شفاء أفئدة مرضى وأجسام

ثم يقول: . . . . . . ... وليس للموت من نقض وإبرام

هنا أنسته المشاكلة اللفظية أن الموت قضاء مبرم وانه هو ينفي إبرامه؛ ثم يقول:

. . . . . . . . . . . . . . ... لو رامه الليل لم يلمم بإظلام

ولا أدري كيف قال هذا مع أنني أعلم جيداً أنه يمقت مثل هذه المبالغة المتطرفة وهو على يقين من أن الليل والنهار نظام لا يتغير (وكل في فلك يسبحون)

ثم يقول:

. . . . . . . . . . . . . . ... من وحي طبعك لا من وحي أقلامي

فما أظن أحداً قبل هذا قال إن للأقلام وحياً - ما كان أصوبه لو قال (من محض إلهامي)

هذا إلى أنني تحاشيت أشياء أخرى مخافة أن يرميني بعض سيئي الظن بالعقوق، في حين أنني لم أكتب هذا إلا تحاشياً لمهاجمة ناقد متبجح يناقشه الحساب العسير، ولأبهج نفس الأستاذ بتلميذ له بلغت به الشجاعة الأدبية إلى الوقوف أمام أستاذه وقوف الند للند يسائله ويساجله مع احترامه لشخصه المبجل كمعلم فاضل وكأديب إمام

محمد عبد السلام بحر