مجلة الرسالة/العدد 162/خواطر في السياحة

مجلة الرسالة/العدد 162/خواطر في السياحة

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 08 - 1936



مجاز الشرق والغرب

للأستاذ محمد عبد الله عنان

للسياحة أدب خاص. وربما كان أدب السياحة أقدم أنواع الأدب بعد أدب الأساطير والفروسية. فمنذ القرن الخامس قبل الميلاد نجد هيرودوت أبا التاريخ يجوب أنحاء آسيا الصغرى وفارس والشام ومصر، ويقدم لنا دراسته ومشاهداته في أثر ممتع هو الأول من نوعه. وقد جرى أكابر الرحل والرواد في كل عصر وقطر على تدوين رحلاتهم ومشاهداتهم. ولدينا في تراثنا العربي طائفة كبيرة من الآثار الهامة التي تعتبر وثائق نفيسة عن أحوال العصور التي كتبت فيها والبلاد والمجتمعات التي تناولتها

وقد كانت السياحة من قبل مغامرة محفوفة بالمشاق والمخاطر، ولكنها أضحت في عصرنا هينة ميسورة، بل غدت متاعاً ونزهة بما مهد لها من وسائل المواصلة السهلة الأمينة في البر والبحر والهواء، وتنوعت سبلها ووسائلها ومرغباتها، وأضحت في كثير من البلاد التي حبتها الطبيعة بمحاسنها صناعة قومية تنظم لاجتذاب الموسرين والمترفين

ومن الحقائق المعروفة أن السياحة تذكي الخيال وتلهم القلم؛ ذلك أن السياحة تقدم إلى الكاتب مادة غزيرة من الجديد في كل شيء: في الطبيعة والإقليم، وفي الأشياء والناس، وفي مختلف نواحي الحياة الاجتماعية؛ وهي بما تحمل من متاع للنفس والعين والروح تمد الكاتب بذلك الغذاء الروحي الذي يستمد منه صوره، وتبعث إليه في معظم الأحيان رغبة ملحة في التحدث والإفضاء بما رأى وشاهد

وصلنا إلى مرسيليا بعد أن قضينا في البحر خمسة أيام في جو هادئ وسير ناعم مريح، وأرسينا في الصباح الباكر في مرفئها الشاسع. ومرسيليا ثغر عظيم، ولكنها لا تمتاز عن غيرها من الثغور الكبيرة في مظاهر حياتها ونشاطها؛ بيد أن ما نلاحظه عادة في حياة الثغور من تباين في الناس والمجتمع يبدو في مرسيليا أقوى وأشد وضوحا. فهنالك يلتقي الشرقيون والغربيون من مختلف الأجناس والأمم، وتغص بهم شوارعها ومقاهيها وفنادقها، ولكن هذا المجتمع المتباين يجوز دائماً حياة طائرة غير مستقرة؛ ذلك أن مرسيليا مجاز فقط بين الشرق والغرب، تجتازها الجموع مسرعة، سواء إلى المشرق أو إلى المغرب، تترك فيها أثراً، ولا تحمل منها ذكريات ذات شأن

وليس في مرسيليا ما يجذب السائح المتجول من المشاهد الاجتماعية ويترك في نفسه أثراً خاصاً سوى حبها الشهير المسمى (الكانبيير فهو قلبها النابض، يضطرم دائماً بحركة زاخرة مستمرة، وتجتمع فيه أهم مرافقها التجارية؛ وهو ثغرها الباسم، يغص من الجانبين بالمقاهي الأنيقة، ويغدو بالليل قطعة من الأنوار الساطعة، ويؤمه المجتمع الأنيق المرح، وهو أشبه الأحياء بشارع عماد الدين عندنا، بيد أنه أكثر منه ظرفا وبهاء

ومما يجدر ذكره أن هذا الحي الأنيق (الكانبيير) كان منذ عامين مسرحا لفاجعة دموية مروعة اهتزت لها أوربا، وكادت تودي بالسالم الأوربي؛ تلك هي مصرع الملك اسكندر ملك يوجوسلافيا، ومسيو لوي بارتو وزير الخارجية الفرنسية الذي كان يرافقه في العربة الملوكية؛ وقد وقع الحادث على مقربة من ملتقى (الكانبيير) بالميناء القديم؛ ورأت الحكومة الفرنسية أن تخلد ذكرى تلك الفاجعة المرسيلية بإقامة نصب تذكاري إلى جانب المكان الذي وقعت فيه، وقد سطرت في رأسه هذه العبارة: (هنا سقط اسكندر ملك يوجوسلافيا، والرئيس لوي بارتو في سبيل قضية السلام والحرية، في 9 أكتوبر سنة 1934)

أما عن المشاهد الأثرية فليس في مرسيليا منها ما يستحق الذكرى سوى أثرين: الأول في داخلها، وهو قصر لونشان، وهو قطعة بديعة من الفن تزين واجهته نافورة ضخمة رائعة الجمال، وتحيط به حدائق عظيمة، نصبت فيها تماثيل عديدة، رأينا منها تمثالاً لمسترال الشاعر البروفنسي الشهير، وأخر لشاعر الحب والجمال الفونسى دى لامرتين

وأما الأثر الثاني فهو خارج الميناء، في جزيرة صخرية صغيرة، وهو حصن (ايف) (شاتوديف) الشهير

وليس لحصن ايف في ذاته أية أهمية فنية أو أثرية، ولكنه يلفت النظر بقواعده وجدرانه المنيعة التي قدت من الصخر الهائل، والتي يتكسر عليها الموج المزبد

وقد ارتبطت بهذا الحصن الصغير الذي أنشأه فرانسوا الأول في أوائل القرن السادس عشر ليكون سجناً سياسياً، ذكريات مروعة، مازالت أوكاره المظلمة الضيقة تحمل أثارها؛ ذلك أن هذه الأوكار السحيقة التي لا يكاد يدخلها شيء من الهواء أو الضوء كانت مثوى لطائفة من أكابر الزعماء والساسة، منهم (ذو القناع الحديدي) الشهير الذي ماسزالت شخصيته لغزا على التاريخ، والذي يعتقد فولتير أنه أخ غير شرعي للويس الرابع عشر، قضى بسجنه وإخفاء وجهه بقناع دائم حتى لا يعرفه إنسان قط. ومنهم (ميرابو) خطيب الثورة الفرنسية، و (فيليب دورليان) ابن عم لويس السادس عشر، و (لويس فيليب) الذي تولى الملك فيما بعد، وغيرهم من الزعماء والأكابر الذين سطرت أسماؤهم جميعاً فوق الغرف التي سجنوا فيها

ومن ذكريات (ايف) المروعة تلك المخادع الشاسعة المنخفضة التي تسمى (بمخادع النسيان) والتي كان يزج إليها بعض المغضوب عليهم، فلا يذكرهم بعد ذلك أحد من أولى الشأن، وربما تركوا فيها حتى يهلكوا في غمر الظلام والنسيان

بيد أن لحصن (ايف) ذكرى شهيرة أخرى، أوحت إلى اسكندر ديما أعظم قصصه وأبدعها ونعني قصة (الكونت دي مونتي كريستو)

مَن مِن عشاق القصص الرائع لا يعرف (الكونت دي مونتي كريستو) تلك الشخصية العجيبة التي خلقها اسكندر ديما من شخصية أدمون دانتيس سجين شاتوديف؟ ومن ذا الذي لا تطربه وتشجيه محنة أدمون في سجنه السحيق، وقصة اتصاله بالأب فاريا صاحب الكنز العجيب، ثم فراره من أسره الهائل بعد مخاطرات مروعة، وحصوله على كنوز جزيرة (مونتي كريستو) وظهوره بعد ذلك على مسرع الحوادث في ثوب تلك الشخصية الخرافية التي يفيض من حولها الذهب والجوهر؟

في حصن إيف وكر صغير مظلم قد في الصخر، وفيه ثلمة صغيرة تصل بينه وبين مخدع آخر في مثل روعته وظلامه؛ ففي أواخر عهد نابليون زج أدمون دانتيس في المخدع الأول بتهمة مؤامرة ملفقة؛ وكان جاره في المخدع الثاني راهب شيخ يدعى الأب فاريا سجن قبله بأعوام طويلة لأسباب مجهولة؛ ولبث أدمون أعواماً يرسف في وكره، وهو يدبر وسائل الفرار حتى وفق إلى حفر ثلمة صغيرة في جدار كان يظن أنه يفضي إلى فناء السجن أو إلى البحر، ولكنه ألفاه يفضي إلى مخدع مجاور، فتعرف بجاره وشريكه في الأسر، الأب فاريا، ووثقت بينهما المحنة أواصر الصداقة؛ وكان الأب فاريا قد وقف قبل محنته من وثائق كانت في حوزة بعض الأحبار على سر كنز عظيم من المال والجوهر خبأه الكردينال سبادا في جزيرة (مونتي كريستو) على مقربة من الشواطئ الإيطالية، فأطلع أدمون على سره حتى إذا فر دونه استطاع الحصول عليه

ثم توفي الأب فاريا فجأة؛ وكانت العادة أن السجين المتوفى يكفن ويلقى في البحر، فدبر أدمون وسيلة عجيبة للفرار خلاصتها أنه بعد أن كُفن الأب فاريا، وترك في مخدعه حتى موعد إلقائه، نفذ أدمون إلى ذلك المخدع من الثلمة الشهيرة، ووضع نفسه في الكفن مكان الأب المتوفى، ووضع الجثة في مخدعه؛ وانتظر حتى جاء عمال السجن وحملوه، وهو مستتر بالكفن وألقوه إلى البحر ظناً أنه هو الأب المتوفى؛ فاستطاع أن يخرج من كفنه، وأن يسبح حتى الشاطئ؛ ونجا بتلك الوسيلة العجيبة؛ وسافر إلى الجزيرة، وبحث عن الكنز المنشود حتى عثر به، وتسمى بالكونت دي مونتي كريستو، وعاش في بذخ عجيب، وهو يعمل للانتقام من أعدائه الذين أوقعوا به حتى أفناهم أو نكبهم جميعاً

تلك هي الحوادث والسير العجيبة التي يثيرها منظر ذينك المخدعين المروعين المتجاورين في حصن إيف: مخدع أدمون دانتيس وزميله الأب فاريا

ولقد ذكرنا منظر حصن إيف بحصن أقدم وأروع يماثله في النشأة والغاية هو حصن سانت أنجلو في رومة، وهو معقل هائل يرجع إلى العصور الوسطى، وبه مخادع مظلمة مروعة كانت معقلاً لطائفة من الأكابر، مثل بنفو نوتوتشلليني الفنان الشهير، والعلامة جوردانو برونو؛ وكان مدى عصور سجناً رسمياً لديوان التحقيق (التفتيش) الروماني، وكان مسرحاً لكثير من المآسي الدموية وحوادث الفرار الشائقة

هذا بعض ما أوحته المناظر والمشاهد المرسيلية إلى الخاطر. ومما يجدر ذكره بهذه المناسبة قصة (البقشيش) (البوربوار) التي قرأنا عنها في الصحف قبل السفر، وعلمنا أنها كانت موضع اهتمام خاص من الوزارة الفرنسية الجديدة؛ فقد استصدرت وزارة مسيو ليون بلوم من البرلمان في أوائل يونيه تشريعاً يقضي بإلغاء (البقشيش) في جميع فرنسا، وذلك لما رأته من تغلغل هذا الداء في جميع المعاملات تغلغلاً يجعله أشبه بضريبة غير رسمية؛ وقد اعتقدنا حين وصلنا إلى مرسيليا أننا تخلصنا من هذا الداء المنغص بفضل المسيو ليون بلوم، فإذا نحن واهمون، وإذا البقشيش لا يزال عماد المعاملة في كل خطوة، وكل شيء وكان أول ما لفت نظرنا في الفندق إعلان جاء فيه: إنه نظراً لإلغاء البقشيش فقد رأت الإدارة أن تضيف إلى جملة الحساب عشرة في المائة نظير الخدمة! فتساءلنا عندئذ ما الذي ألغاه القانون الجديد، وما الذي فعلته وزارة المسيو ليون بلوم؟

ومما يلاحظ الآن في فرنسا بنوع خاص أن الجبهة الشعبية التي تؤيد الوزارة الجديدة تلقى تأييداً شديداً، وأن النزعة الديموقراطية التي كانت قد فترت في العهد الأخير قد عادت إلى حدتها؛ وفي ذلك ما يدل على أن الشعب الفرنسي يشعر اليوم شعوراً قوياً بما يهدد الديموقراطية من الأخطار، ويزمع أن يتمسك بنظمه الحرة العريقة، على رغم ما يعتورها أحياناً من أوجه الفساد والضعف، وأن يدافع عنها ضد تلك النظم الطاغية الهمجية التي تسود اليوم بعض الدول العظمى، والتي تحاول أن تسود أوربا القديمة كلها

بورفاندر (سفح البرنيه) في أواخر يوليه

محمد عبد الله عنان