مجلة الرسالة/العدد 163/الحجاب في الإسلام
مجلة الرسالة/العدد 163/الحجاب في الإسلام
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 1 -
عاد الناس في هذه الأيام إلى الكلام في مسألة الحجاب، وكان سبب عودتهم إليها ما حصل من رغبة طائفة الهنود المنبوذين في الإسلام بعد خروجهم من ديانتهم، وقيل إن وجود الحجاب في الإسلام مما يستعمله بعض أعدائه لصرفهم عن الرغبة فيه؛ وقد حملني هذا على بيان حقيقة هذا الحجاب على صفحات مجلة (الرسالة) الغراء، لانتشارها في الهند وغيره من الأقطار الشرقية، ولعلي بهذا أقضي على هذه الدعاية الخبيثة التي يراد بها صرف تلك الطائفة عن الهداية الإسلامية.
ويجب لأجل أن نعرف حقيقة هذا الحجاب أن نذكر الآية التي نزلت فيه، وهي قوله تعالى في سورة الأحزاب: (يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه، ولكن إذا دعيتم فادخلوا، فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث. إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق. وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب. ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن. وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيما).
وقد عرفت هذه الآية بأية الحجاب، وصار الحجاب في الإسلام اسماً لهذا الحجاب الذي نزل فيها، ولا يوجد شيء آخر مما يتعلق بالنساء يطلق عليه هذا الاسم. وقد نزل هذا الحجاب في نساء النبي ﷺ، ويراد منه منع اختلاطهن بالرجال بحيث لا يراهن الرجال أبداً ولا يكلمونهن إلا مع هذا الحجاب. والحكمة في فرضه عليهن أنه أريد بعد تحريمهن على غير النبي ﷺ قطع العلائق بينهن وبين الرجال، ليكون في هذا صونهن، والبعد بهن عمن أريد قطع أطماعهم فيهن. وقد جرى الإسلام في هذا على عادته من إعطاء الوسيلة حكم ما يتوسل بها إليه، سداً للذرائع، ولأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. ويؤيد هذا ما في الآية من قرن هذا الحجاب بحكم ما بينهما من هذه العلاقة.
وقد نزل في ذلك أيضاً قوله تعالى في سورة الأحزاب: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء، إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وقلن قولاً معروفاً. وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى. وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله؛ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً. واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيراً).
ولم يكن المقصود من فرض هذا الحجاب على أمهات المؤمنين إلا حجبهن عن الأنظار بحيث لا يراهن الرجال، فلم يكن عليهن حرج بعد ذلك في أن يخرجن للحج وغيره، ولا في أن يجتمعن بالرجال مع هذا الحجاب للعلم والتعلم، وتبليغ الأحكام التي أخذنها عن النبي ﷺ لمن يريدها منهن.
وقد خرجت عائشة في هودجها للمطالبة بدم عثمان رضي الله عنه، وقادت الجيش الذي حارب علياً رضي الله عنه في وقعة الجمل بالبصرة.
وقد مات ﷺ عن تسع نسوة: عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأم سلمة بنت أبي أمية، وسودة بنت زمعة، وزينب بنت جحش، وميمونة بنت الحارث بن حزن، وجويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، وصفية بنت حي. وما من واحدة من هؤلاء التسع إلا وكان بيتها مجمعاً لطلاب العلم الذين يقصدونها من سائر النواحي، فيجلسون إليها ويستمعون حديثها، وتناظرهم في العلم ويناظرونها فيه، والحجاب مضروب بينها وبينهم، فيأخذون عنها بدون أن يروها.
وممن روى عن عائشة من الصحابة عمر وابنه عبد الله وأبو هريرة وأبو موسى وغيرهم من الصحابة؛ وممن روى عنها من التابعين سعيد بن المسيب وعمرو بن ميمون وعلقمة بن قيس وغيرهم.
وممن روى عن حفصة من الصحابة فمن بعدهم حارثة بن وهب والمطلب بن أبي وداعة وعبد الرحمن بن الحارث وعبد الله ابن صفوان وغيرهم.
وممن روى عن أم حبيبة أخواها معاوية وعتبة وأبو سفيان ابن سعيد ومولاها سالم بن شوال وابن الجراح وعروة بن الزبير وغيرهم.
وممن روى عن أم سلمة من الصحابة فمن بعدهم أخوها عامر ومولاها عبد الله بن رافع وأبو عثمان النهدي وأبو وائل وسعيد ابن المسيب وغيرهم.
وممن روى عن سودة ابن عباس ويحيى بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة.
وممن روى عن زينب ابن أخيها محمد عبد الله بن جحش وأم حبيبة وزينب بنت أبي سلمة.
وممن روى عن جويرية ابن عباس وجابر وابن عمر وعبيد ابن السباق والطفيل ابن أخيها وغيرهم.
وممن روى عن صفية ابن أخيها ومولاها كنانة وزين العابدين علي بن الحسين وإسحاق بن عبد الله ومسلم بن صفوان.
فلم يكن ذلك الحجاب الذي فرض على أمهات المؤمنين إلا لذلك الغرض الخاص دون غيره من أغراض الحياة، ولم يحل بينهن وبين القيام بمطالب دينهن ودنياهن، ولا بينهن وبين مشاركة أولياء الأمور في تدبير شؤون المسلمين. وقد كان الخلفاء يرجعون إليهن في كثير من الامور، ويسمعون إلى نصائحهن ويعملون بها.
ومن هذا أن عثمان لما اضطرب عليه الأمر في آخر خلافته كتبت إليه أم سلمى تنصحه:
يا بني - ما لي أرى رعيتك عنك نافرين، وعن جنبك مزورين؟ لا تعف طريقاً كان النبي ﷺ ولجها، ولا تقتدح زنداً كان أكباها. توَخَّ حيث توَخَّى صاحباك، فإنهما ثَكَما الأمر ثَكْما، لم يظلما أحداً فتيلاً ولا نقيراً، ولا يختلف إلا في ظنين - هذه حق بنوتي قضيتها إليك، ولي عليك حق الطاعة.
فكتب إليها عثمان:
يا أمنا - قد قلت ووعيت، ووصيت فاستوصيت، ولي عليك حق النُّصتَةُ، إن هؤلاء القوم رعاع غَثرَة، تطأطأت لهم تطأطؤ الماتح للدّلاء، وتَلدَّدْت لهم تلدُّد المضطر، فأرانيهم الحق إخوانا، وأراهم الباطل إياي شيطاناً، أجررت المرسون منهم رسنه، وأبلغت الراتع مسقاه، فتفرقوا علي فرقا: صامت صمته أنفذ من قول غيره، ومزين له في ذلك، فأنا منهم بين ألسنة لدَادٍ، وقلوبٍ شداد، وسيوف حداد. عذيري الله! ألا ينهي منهم حليم سفيهاً، وعالم جاهلاً - والله حسبي وحسبهم يوم لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون.
(للكلام بقية)
عبد المتعال الصعيدي