مجلة الرسالة/العدد 163/من ذكريات الحداثة

مجلة الرسالة/العدد 163/من ذكريات الحداثة

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 08 - 1936



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كان ذلك في (العيد الكبير) - كما كنا نسمي (عيد الأضحى) - وكنا يومئذ تلاميذ في مدرسة ثانوية، ومساكننا بعضها قريب من بعض، فنحن لهذا أصدقاء وإخوان. فاقترح أحدنا في صباح يوم أغبر أن نذهب في ليلتنا تلك إلى (دار التمثيل العربي) - أو تياترو الشيخ سلامة حجازي كما كنا ندعوه - لنشهد رواية (روميو وجوليت) فاعترضت على ذلك وقلت: إنه يكلفنا نفقة لا قِبَلَ لنا بها، فقد كان الواحد منا يأخذ في اليوم من أبيه أو ولي أمره قرشاً في اليوم، وكنا كثيراً ما نعجز عن إنفاق القرش كله لأنا لم نكن نجلس على (القهاوي) ولا كنا ندخن أو نشرب خمراً، ولم تكن السينما قد ظهرت في تلك الأيام، فكان يتفق أن يبقى مع كل منا في آخر الأسبوع بضعة قروش - اثنان أو ثلاثة، أو أربعة في بعض الأحيان - فنفرح، ونركب النيل بزورق، بضع ساعات. ولكن هذه القروش القليلة لا تكفي للذهاب إلى مسرح الشيخ سلامة، فما العمل؟؟ وأصر الإخوان على ذلك وقال قائلهم: أمامنا النهار كله، فلنحتل وليدبر كل منا أمره. فخجلت أن أقول إني عاجز عن الاحتيال والتدبير، ومضيت عنهم ببال كاسف وقلب حزين.

ورأتني أمي وكانت هي أبي وأمي - فقالت (مالك؟) ولم أكن أستطيع أن أكذبها أو أكتمها شيئاً إذا سألتني، فقلت: (إن زملائي قد اتفقوا على الذهاب في هذه الليلة إلى تياترو الشيخ سلامة، وليس معي ما يكفي لذلك، فأنا لهذا مهموم مكروب).

قالت: (كم معك؟).

قلت: (ثلاثة قروش ومليمان).

قالت: (وكم تريد؟).

قلت: (ريال).

قالت: (أما ريال فلا. . . اذهب إليهم وأنبئهم أنك لست معهم).

قلت: (ولكنني أريد أن أذهب).

قالت: (لا شك. . . ولو كان معي فضل مال لأعطيتك منه، ولكن كل ما عندي - على قلته - لازم لمطالب البيت إلى آخر الشهر، ولن يستطيع أحد منا صبراً على الجوع، فاذهب وافعل ما أشرت عليك به).

فتركتها وزاد كربي وثقل همي، وفتحت الباب ووقفت على رأس السلم أفكر فيما أقول لأصحابي، وأنا مطرق ويدي على الدرابزين، وكانت عندنا فتاة صغيرة في مثل سني، تخدمنا، فخرجت ورائي ثم قالت لي:

(ما لك يا سيدي؟).

قلت: (لا شيء!). وأشرت لها بيدي أن تدخل.

قالت: (ولكنك مطرق. . . .).

قلت: (ولم لا أطرق إذا شئت؟؟ هل هذا ممنوع؟).

قالت: (لا. . . ولكنك مكتئب!).

قلت: (ربما. . . .).

قالت: (يعز عليَّ أن أراك هكذا. . . .).

قلت: (أشكرك).

قالت: (ألا تخبرني ماذا بك؟).

قلت: (لا شيء!).

وماذا بالله أقول لها؟؟ إنها خادمة، فكيف أطلعها على سري؟؟ وصحيح أنها رُبّيت في بيتنا - معي - وأنا جميعاً ننظر إليها كأنها واحدة منا، ولكني لم أعتد أن أرفع الكلفة بيني وبينها على الرغم من ذلك. فلم يسعني إلا أن انحدر وأتركها.

ولكني لم أقل لإخواني شيئاً، واكتفيت بأن أجلس على كرسي أمام الباب وأنا أقول لنفسي: (من الآن إلى العشاء يفرجها ربك. . . ولست أعرف لي الآن عذراً غير الإفلاس أعتذر به لإخواني، ولكن الله قد يفتح عليَّ ويلهمني العذر المقبول).

ولم أفكر قط في وسيلة لتدبير الريال المطلوب، فقد كنت من ذلك على يأس كبير؛ واقتنعت بما قالت لي أمي، فصار همي أن أهتدي إلى عذر يقتنع به الإخوان، ولا أخجل أنا منه. وإني لكذلك وإذا بالفتاة الخادمة تدنو مني وتهمس في أذني أن تعال، فأسألها فتقول: (كلّم) وتسبقني إلى الفناء فالسلم، وأصعد درجات فتستوقفني فألتفت إليها فتمد يدها بريال تضعه في كفي فأعجب وأنظر إليه وإليها وأسألها: (ما هذا؟).

فتقول: (ألست تريد ريالاً؟ هذا هو).

فأقول - وقد زاد عجبي -: (ولكن من أين لك هذا الريال؟).

فتقول: (إنه من مرتبي).

فأسألها: (هل طلبته من أمي؟).

فتقول: (نعم).

فأعود أسألها: (وماذا قلت لها؟؟ لأي شيء طلبته منها؟).

فتقول: (طلبته والسلام).

فأقول: (كلا. . . إن أمك هي التي تقبض مرتبك كل بضعة شهور، ولم يحدث قط أن أخذت أنت شيئاً منه، فكيف رضيت أمي أن تعطيك الريال هذه المرة؟ قولي الحق. . كيف أخذته؟).

فأغضت وقد اتقد وجهها - وكانت بيضاء حسناء - وقالت: (سرقته لك!).

فصحت وقد فزعت: (إيه؟).

قالت: (لا تصح هكذا!! أتريد أن يقتلوني؟).

قلت: (ولكن السرقة؟؟ كيف تجرئين؟).

قالت: (وهل هذه سرقة؟ إنه من مرتبي وسأخبر ستي بعد أن تذهب أنت إلى التياترو).

قلت: (ولكن من أين عرفت أني أريد ريالاً؟).

قالت: (سمعت ستي وستي تتكلمان) - تريد والدتي وجدتي -

قلت: (ثم غافلتهما وسرقت؟ أليس كذلك؟).

قالت وهي مطرقة: (نعم).

قلت: (ولماذا ارتكبت هذا الأثم؟).

قالت: (لم أستطع أن أراك هكذا).

قلت: (شكراً لك. . . ولكن هذا الريال يجب أن يرد إلى مكانه. . . حالاً. . . فمن أين أخذته؟).

فوصفت لي المكان الذي كان فيه. فقلت لها: (يجب أن تعلمي أني لا أريد أن أذهب إلى التياترو، ولو كانت لي رغبة لألححت على أمي، ولأعطتني ما أريد. ثم يجب أن تقسمي ألا تعودي إلى مثل هذا العمل فإنه إثم كبير، وإلا أخبرت ستك، وأنت أدرى بما يكون إذا علمت).

وصعدت قبلي، وعدت أنا والريال معي إلى كرسيّ على الباب أمام البيت، فمر أحد أخواني فناديته وقلت له: إني آسف، وإني لن أكون معهم الليلة، وليس هذا لقلة المال (وأخرجت الريال من جيبي وبسطت به كفي له ليراه، ولكن سبباً آخر يحول دون الذهاب.

ولما تركني صعدت إلى غرفة والدتي، وكانت مشغولة بإعداد الطعام في المطبخ ففتحت خزانة الثياب وهممت بأن أدس الريال حيث كان وإذا بوالدتي إلى جانبي تسألني:

(ما هذا الذي بيدك؟).

فمددت يدي إليها بالريال وقلت وأنا مضطرب والعرق يتصبب: (ريال، كما ترين).

قالت: (ريال؟ أخذته؟).

فلم أدر ماذا أقول؟! أأقول الحق فيحل غضبها بالفتاة المسكينة التي دفعها العطف إلى السرقة؟؟ أم أتهم نفسي وأنا بريء؟! ولم يكن أحد الأمرين أخف على نفسي من الآخر، ففكرت بسرعة، فلم أجد أن في مقدوري أن أشي بالفتاة وأعرضها لنقمة أمي، وأجعل جزاءها هذا السوء على ما أرادت من الإحسان إلي وإن كانت قد أخطأت السبيل.

فقلت: (نعم. . . أخذته من هنا. . . ثم راجعت نفسي، فندمت وقد كنت أريد أن أعيده إلى مكانه. . . فهل تصدقينني).

قالت: (نعم: ضعه حيث كان).

وتركتني.

وفي تلك الليلة، قبل أن أنام، خلت بي أمي وقالت:

(أصدقني. . . أنت لم تأخذ الريال. . . هه؟).

قلت: (عديني أن تصفحي وتغفري وتطوي الأمر فلا تذكريه).

قالت: (لك ذلك).

فقصصت عليها الحكاية، فقالت: (الحمد لله! حسبي أن يقيني فيك قد صدق. . .).

قلت: (والفتاة؟).

قالت: (لا تخف أن أخلف وعدي لك. . . ولولا أني أعرفك وأطمئن إليك لما أبقيتها في بيتي ساعة واحدة، وإن كنت لا أطمع أن أظفر بخادمة مثلها في وفائها وحسن قيامها بعملها. . . على كل حال غفرت لها من أجلك. . . قم إلى نومك).

إبراهيم عبد القادر المازني