مجلة الرسالة/العدد 164/في الأدب الإنكليزي

مجلة الرسالة/العدد 164/في الأدب الإنكليزي

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 08 - 1936



هل من انتحال في الأدب الإنكليزي؟

للسيد جريس القسوس

- 2 -

وحجة كامبل في ذلك اكتشافه مخطوطات قديمة ورد فيها ذكر (فنّ) و (أوشان) وغيرهما من الأسماء الواردة في منظومات مكفرسن، مما يدل على أن هذه الأسماء كانت، على الأقل، شائعة معروفة في اسكتلندا وايرلندا الشمالية قبل مجيء مكفرسن. فلا يبعد أن يكون مكفرسن قد اطلع على هذه المخطوطات فأغرم بحوادثها التاريخية وافتتن؛ فعلق بذهنه ما علق وتأثر بأسلوبها الشعري واقتبس منها بعض الشيء فظهر أثر ذلك في تلك المنظومات التي ادعى أنها مترجمة.

وكامبل لا يجحد لمكفرسن فضله في جميع هذه الآثار المتفرقة وترتيبها وتدوينها حتى ظهرت بذلك الشكل الفني الرائع، إذ لولاه لعبث الزمان بهذه الآثار الخالدة عبثه بغيرها من القصائد التي تروى على ألسنة العامة، وخاصة أهل الأرياف، وسكان الصحراء.

ولا يقف كامبل عند هذا الحد في الرد على جونسن، بل يرى أنه من النادر أن تلقى واحداً من سكان ايرلندا الشمالية لم يسمع قط بالأسماء التي وردت في قصائد مكفرسن؛ وأن هذه الأسماء هي في الحقيقة محور عدد غير يسير من القصص العامية التي يتلوها الأمهات على أطفالهن حول المواقد في ليالي الشتاء الباردة.

ويصرف كامبل جونسن، ويعود إلى مناقشة الآراء السخيفة التي يتمسك بها أنصار مكفرسن، وخاصة بروفيسور أوكري ' فهذا وغيره من أنصار مكفرسن يرون أن (أوشان) وغيره من الأبطال شخصيات تاريخية حقيقية، وأنهم ايرلنديو النسب؛ نشأوا في القرن الثالث قبل المسيح؛ وأن (فنّ) يرجع في نسبه إلى نحو 110 ق. م. وأن اسم ورد في قصيدة نظمت سنة 1024، وضمنت كتاب باليموت سنة 1391. أقول إن كامبل يرد على ذلك رداً عنيفاً مبيناً تناقض الروايات المختلفة واضطرابها في تحديد نسب هؤلاء الأبطال وتبيان التاريخ الصحيح لنشأتهم. فبعض أنصار مكفرسن - ومعظمهم ايرلنديون - يرون مثلاً، أن هذه الأشعار الغاليقية صينت في مخطوطات قديمة، وأنها تنسب إلى أوشان وغيره من أبطال أساطير ايرلندا الأولية، وأن جميع هؤلاء الأبطال ايرلنديون لا اسكتلنديو الجنس، بينما البعض الآخر يرى أن هؤلاء الأبطال نشأوا في عصر متأخر. بل منهم من يجعل (فنّ) اسكتلندي الجنس ومنهم من يجعله إنكليزياً.

وآخرون يرون أن البطل أوسكار الوارد ذكره في الأدب الايرلندي القديم إسكتلندي الجنس والمولد، بل غيرهم موقن أنه دنمركي برغم ورود اسمه في الأدب الأيرلندي.

ويزيد موقف المناصرين وهناً واضطراباً، نسبتهم الأعمال الجسيمة الباهرة التي قام بها أشخاص هذه الآثار الأدبية إلى الكائنات الغيبية كالجن والآلهة المتعددة.

ولا يقتصر كامبل على هذا بل يعود إلى مهاجمة المناصرين من ناحية أخرى؛ فيقول إنه لم يطلع، في حياته، على مخطوطة أو سجل تاريخي فيه ذكر لمملكة (مورفن) أو ملكها فنغال. فمن أين جاء مكفرسن بهذه الأسماء التي تتخلل معظم أشعاره؟ ذلك مما يحمله على الاعتقاد الأكيد بأن هذه المملكة إنما هي من اختلاق جامع هذه القصص الأوشانية ومرتبها، مكفرسن كان أم غيره.

أما أوشان بن فنغال الشاعر الذي عزا إليه مكفرسن نظم الآثار الأدبية المعروفة باسمه، فأمره، كأمر والده غامض مبهم إذ لا يمكن أن يعمر أوشان - مسلمين جدلاً أنه حقاً ابن (فنّ) - إلى حد من الزمن يتمكن معه من الاجتماع بالقديس باترك أو أن يختلط بنساء الجن في بلاد الشباب، ويتحول في شتى أدوار حياته من نبي إلى ساحر ومن ساحر إلى شاعر، وهلم جرّا، كما هو ظاهر في الآثار الأدبية المنسوبة إليه. والخلاصة أن كل ظاهرة في حياة هذا الشاعر تدل دلالة صريحة واضحة على أنه لم يكن في الحقيقة إلا من بعض آلهة الأساطير الكلتية القديمة.

ولا يقف كامبل عند هذا الحد، بل يهاجم أنصار مكفرسن من ناحية أخرى. فهو يرى، من مقابلة هذه المنظومات التي ادعى أنها مترجمة مع غيرها من الأشعار المتحدرة عن طريق الرواية والنقل الشفهي أن هناك اختلافاً وفرقاً كبيرين وواضحين في الموضوع واللغة. فما (فنّ) كما هو مذكور في القصائد التي تتداولها العامة إلا بطل إنساني الخلق، وديع الطبع سهله، رقيق الإحساس، ولطيف النفس؛ لا يعرف العنف والكبرياء، فهو لذلك ذو نفوذ في قبيلته، تقوم سلطته على حبهم له وتعلقهم به، بينما الناظر في صفات (فنّ) كما جاء في شعر مكفرسن يرى أنه فارس ساط غشوم، وجهم عنيف، خلو من كل عاطفة رقيقة وإحساس لطيف! لهذا كان نفوذه وسلطانه مبنيين على خشية القوم له ورهبتهم منه.

هذا، عدا أنه لا ذكر في القصائد المنقولة شفاهاً لمملكة (مورفن) التي ورد ذكرها في أشعار مكفرسن.

أما من ناحية اللغة والأسلوب فالباحث في هذا الأدب في كلتا سبيليه: سبيل الرواية والنقل الشفهي، وسبيل مكفرسن، يرى أن لغة أدب مكفرسن مفعمة بالتعابير الحوشية، والاصطلاحات الأجنبية التي تتميزها من اللغة المعروفة في اسكتلندا الشمالية، بينما لغة أدب الرواية والنقل الشفهي محكمة السبك، موحدة التركيب متسقة الأسلوب، لا اضطراب في معانيها ولا ضعف.

وخلاصة رأي كامبل أنه لم يكن في اللغة الغاليقية أشعار كالتي ادعى مكفرسن أنها مترجمة، وأن هذه اللغة التي استعملها في كتاباته لم تكن في الحقيقة إلا لغة القرن الثامن عشر، وجل ما هنالك مجموعة أشعار قديمة وحديثة متنوعة، كانت العامة تتداول معظمها بينها، جمعها مكفرسن ورتبها وسواها بشكلها المعروف، شأن المهندس الذي يخلق من البيت الإغريقي القديم بيتاً حديث الشكل والطراز.

- 4 -

والباحث يخرج من كل ما مر بخمس حقائق مجردة، هي زبدة ما وصل إليه مؤرخو الأدب الإنكليزي في هذا السبيل الوعر الشاق:

1 - أن قصيدة أوسيان أو أوشان التي تنسب إلى مكفرسن لم تكن ترجمة خالصة عن الآثار الأدبية الأصلية.

2 - أن مكفرسن استخلص منظوماته من آثار أدبية قديمة متفرقة، وذلك بالجمع والغربلة والحذف والتعديل، وخلع عليها ثوباً جديداً كفل لها الخلود في عالم الأدب.

3 - أن جميع الظواهر تدل دلالة واضحة على أن مكفرسن لم يضع هذه الآثار الأدبية من عنده، وأنه لم يتعد كونه فناناً حاذقاً عرف كيف يستخرج من أمزجة ومركبات عتيقة بالية قطعاً فنية رائعة، وأن أوشان نفسه لم يكن المؤلف الحقيقي لهذا القصائد كما ادعى مكفرسن.

4 - إذا كان أوشان ناظم هذه القصائد، عُدّ بحق في طليعة شعراء العالم على الإطلاق.

5 - إن مكفرسن فتح بذلك فتحاً جديداً في عالم الأدب، فعمت شهرته الأدبية أوربا وبعد أثره في الأدب الأوربي عامة، والإنكليزي والألماني خاصة.

(يتبع)

جريس القسوس