مجلة الرسالة/العدد 165/دين المتنبي

مجلة الرسالة/العدد 165/دين المتنبي

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 08 - 1936


2 - أبو الطيب المتنبي

للأستاذ محمد محي الدين عبد المجيد

ومما يتصل بالكلام على دين أبي الطيب أنه لم يشرب الخمر إلا في القليل النادر، فليس هو من المدمنين الماجنين، ولذلك لا تجد في شعره شيئاً من المجون إلا أن يهجو فيقذع في هجائه. وما لأبي الطيب والخمر، وهي إنما يشربها الغواة وذوو البطالة، ومن لا مطمع لهم في الحياة يسعون لتحقيقه، فأما الرجل الذي يفكر في المجد ويأمل أن يصل إلى ذروته، فليس ممن يفكرون في الخمر. حدثوا أن صديقاً لأبي الطيب كنيته أبو ضبيس سأله يوماً أن يشرب معه فأجابه بقوله:

ألذ من المدام الخندريس ... وأحلى من معاطاة الكؤوس

معاطاة الصفائح والعوالي ... وإقحامي خميساً في خميس

فموتي في الوغى أربى لأني ... رأيت الموت في أرب النفوس

ولو أسقيتها بيدي كريم ... أسر به لكان أبا ضبيس

وهو ينادم إخوانه إذا شربوا الخمر، فيشرب كأساً من الماء فقد قال له بعض بني كلاب: اشرب هذه الكأس سروراً بك، فأجابه بقوله:

إذا ما شربت الخمر صرفا مهنأ ... شربنا الذي من مثله شرب الكرم

ألا حبذا قوم نداماهم القنا ... يُسَقُّونها ريا وساقيهم العزم

ومد إنسان له يده بكأس من الخمر وحلف بالطلاق ليشربنها، فقال:

وأخ لنا بعث الطلاق ألية ... لأعللن بهذه الخرطوم

فجعلت ردي عرسه كفارة ... عن شربها وشربت غير أثيم

وهذه إحدى المرات التي شرب فيها الخمر، ولم يصب حكم الشريعة في قوله: (وشربت غير أثيم) ولكنها إحدى تظرفات الشعراء. ولعلها مع ذلك تدل على أن امتناعه عن الشرب في غير هذه المرة لمخافة الإثم.

أخلاق أبي الط سنتكلم في هذه العجالة على أربع خلال كان لها أثر ظاهر في حياة أبي الطيب وأخباره وشعره، وهي: الشجاعة والكبر والبخل والغدر. فأما شجاعته فهي أظهر من أن تلتمس لها الشواهد، فهو شجاع يحن شوقاً إلى لقاء العدى ويستصغر المخاطر في هذه السبيل، ويستهين بما يكابد فيه من أهوال، ولقد كان مسوقاً إلى اقتحام الردى تدفعه إليه نفسه المتوثبة الطامحة وتغريه به آماله الجسام التي يحرص على إدراكها الحرص كله، والتي يعتقد أن الوسيلة إليها هي التضحية وبذل النفس. وقد كانت فيه مع ذلك عجلة تشبه الرعونة نبتت فيه من تلهفه على بلوغ الغاية التي يصبو إليها حتى كان يخشى أن يعجل إليه الموت قبل بلوغها. أنظر إليه وهو يحدثك عن المجد الذي يتطلع إليه ويشير إلى أن الحياة أضيق من أن تتسع لانتظاره.

ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها ... فمفترق جاران دارهما العمر

ولا تحسبن المجد زقاً وقينة ... فما المجد إلا السيف والفتكة البكر

وتضريب أعناق الملوك وإن ترى ... لك الهبوات السود والعسكر المجر

وتركك في الدنيا دوياً كأنما ... تداول سمع المرء أنملة العشر

ثم انظر إليه وهو يحدثك عن مطلبه ويصف لك أن إدراكه بعيد ويحضك على ألا تبالي بما تلقاه في حياتك من الشدائد والمحن.

أريد من زمني ذا أن يبلغني ... ما ليس يدركه من نفسه الزمن

لا تلق دهرك إلا غير مكترث ... ما دام يصحب فيه روحك البدن

فما يدوم سرور ما سررت به ... ولا يرد عليك الفائت الحزن

ثم انظر إليه وهو يدلك على أن هناءة العيش وسعته وطيب الحياة وسائر ما في الدنيا من متاع أمور لا تدرك إلا بحد السيف.

وخضرة ثوب العيش في الخضرة التي ... أرتك احمرار الموت في مدرج النمل

ونراه لا يترك الحديث عن آماله وشجاعته حتى في المواقف التي لا يحسن فيها الفخر، ولقد كان مما اشتهر به شعره أنه يتحدث عن نفسه في أثناء المديح والرثاء. استمع إليه وهو يقول لكافور:

فارم بي حيثما أردت فإني ... أسد القلب آدمي الرواء وفؤادي من الملوك وإن كا ... ن لساني يرى من الشعراء

وهو مفتون بذلك منذ صباه، ولا عجب في ذلك فأن كثيرا من الناس تولد معهم الآمال في طراءة السن وميعة الشباب، وعصر أبي الطيب الصاخب المليء بحوادث الانقلاب خليق بأن يثير في نفسه لواعج الآمال؛ قيل له وهو صبي (ما أحسن وفرتك) فأجاب:

لا تحسن الوفرة حتى ترى ... منشورة الضفرين يوم القتال

على فتى معتقل صعدة ... يعلها من كل وافي السبال

فأما الكبر فقد كان أبو الطيب مستكبراً تياهاً صلفاً يرى أن لا أحد مثله وأن أعلم أهل زمانه فدم وأحزمهم وغد، وأن كل ما خلق الله وما لم يخلق حقير إلى جانب عظمته كشعرة في مفرقه. ولقد كان من آثار كبره أن ترفع عن مدح الوزير المهلبي والصاحب ابن عباد، وحدثته نفسه أن يتأبى على عضد الدولة، ولولا أن ابن العميد زين له الذهاب إليه وأغراه بما سيناله لديه من التكرمة والمال لكان قد امتنع. ولقد جر على نفسه بهذا الترفع عداوة الوزير والصاحب وعداوة أشياعهما من الشعراء والكتاب والعلماء. فأما الوزير فقد أغرى به شعراء العراق يزدرونه وينالون من عرضه ويبالغون في هجائه، وأغرى به جماعة من العلماء منهم أبو الفرج صاحب كتاب الأغاني يتعقبونه ويشهرون به. وأما الصاحب فلم يسكته عنه علمه بمحاسنه وكثرة ما كان ينتفع بمعانيه، بل أخذ يتتبع هفواته ويعد عليه سقطاته ويغري به المترددين عليه الطامعين في عطاياه، وما أكثر هؤلاء!!!

ونحب أن ندل هنا على أمرين: الأول أن آثار كبر أبي الطيب وترفعه لم تظهر جلية واضحة إلا بعد أن اتصل بسيف الدولة ونبه شأنه. فأنت تراه قبل ذلك يمدح قوماً لا نباهة لهم ولا ذكر، وتراه يمدح على أتفه العطايا، وقد تنبه إلى ذلك أبو منصور الثعالبي فهو يقول: (وكان قبل اتصاله بسيف الدولة يمدح القريب والغريب، ويصاد ما بين الكركي والعندليب) اهـ، وأبو الطيب معذور في ذلك فإن سيف الدولة قد غمره بعطاياه حتى درت له أخلاف الدنيا ولقي في جواره من الكرامة ما شجا حاسديه فكان خليقاً أن يقول فيه:

تركت السرى خلفي لمن قل ماله ... وأنعمت أفراسي بنعماك عسجدا

وقيدت نفسي في هواك محبة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا

الأمر الثاني: أنه قد اختلط على بعض الناس كثير من مواقف أبي الطيب فاعتبروها كبراً أو تكبراً وليست هي من الكبر في شيء وإنما هي عزة النفس والاحتفاظ بالكرامة، وتقدير المرء نفسه وإكرامه إياها من الكبر بالمكان النائي البعيد؛ فليس لأحد أن يزعم أن من الكبر إنشاد أبي الطيب سيف الدولة وهو جالس واشتراطه عليه ألا يقبل الأرض بين يديه إلا أن يكون ممن تختلط الأخلاق في أنظارهم فيرونها بغير المنظار الذي يراها به الناس؛ وعسيت أن تسأل بعد ذلك أين ذهبت عزة نفسه حين أنشد كافور وهو واقف؛ والجواب على ذلك أن ننبهك إلى أنه فارق سيف الدولة حانقاً متبرماً فلعل وقوفه بين يدي كافور وهو من أعداء سيف الدولة ليثير غيظه، أو لعله أراد به مصانعة كافور لينال منه الذي وفد عليه من أجله. على أنه إن كان قد ترك معه ما جرت به عادته مع سيف الدولة فقد اتخذ لعزته لوناً آخر، فقد كان يقف بين يديه وفي رجليه خفان وفي وسطه سيفه ومنطقته.

فأما البخل فقد رماه الناس به وحكموا في ذلك عنه أنه أحضر مالاً من صلات سيف الدولة وصب بين يديه على حصير قد افترشه ووزن وأعيد في الكيس وإذا قطعة كأصغر ما يكون من ذلك المال قد تخللت الحصيرة فأكب عليها ينقرها ويعالج استنقاذها ويشتغل بذلك عن جلسائه حتى إذا ظهر له بعضها تمثل بقول قيس بن الخطيم:

تبدت لنا كالشمس تحت غمامه ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب

ولم يزل كذلك حتى استخرجها وأمر بإعادتها إلى مكانها من الكيس. وعجيب أن يكون بخيلاً ذلك الذي يقول

ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي صنع الفقر

ولكنهم يروون عنه أنه قال: (إني وجدت الناس لا يكرمون أحداً إكرامهم من يعتقدون أنه يملك مائة ألف دينار فاعتمدت أن يكون عندي مثلها. فأنا أجد في ذلك حتى يقول الناس إن أبا الطيب قد ملك مائة ألف دينار) اهـ. وإن يكن القوم صادقين وكان لأبي الطيب عذر في حرصه على المال وفي ضنه أن تضيع منه قطعة كأصغر ما يكون فليس هو هذا العذر الذي نسبوه إليه، وإنما عذره أن المجد الذي كانت نفسه تحدثه به في حاجة إلى المال وهذه إشارة نجتزئ بها في هذا الموضوع.

فأما الغدر فآيته أنك تراه كل يوم بين يدي ملك أو وزير وتراه كلما وقف بين يدي واحد منهم يمدحه بأنه أكرم الناس وأشجع الناس وخير الناس؛ وقد يتجاوز ذلك إلى التعريض بمن مدحه من قبل، وقد يتجاوز التعريض والتلويح إلى التصريح، ثم قد يتجاوز ذلك كله إلى الهجاء، اسمع إليه يقول لسيف الدولة:

وحاشى لارتياحك أن يبارى ... وللكرم الذي لك أن يباقى

ولكنا نداعب منك قرما ... تراجعت القروم له حقاقا

فإنه لم يكتف بأن جعل ارتياحه للبذل لا يباريه ارتياح، وكرمه لا يطاوله في البقاء كرم، حتى جعله سيداً فحلا وجعل الناس في موازنته حقاقاً، فلما وفد على كافور كان في أول قصيدة قالها له قوله:

قواصد كافور توارك غيره ... ومن قصد البحر استقل السواقيا

(يتبع)

محمد محي الدين عبد المجيد

المدرس بكلية اللغة العربية