مجلة الرسالة/العدد 165/لمعات

مجلة الرسالة/العدد 165/لَمَعات

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 08 - 1936



إلى الفيلسوف الشاعر محمد إقبال

جواباً لكتابيه: (أسرار خودي) و (رموز بي خودي)

للدكتور عبد الوهاب عزام

- 1 -

للصوفية فلسفة عالية في العالم والإنسان والخالق، ولهم آراء حكيمة في الأخلاق والاجتماع. وقد صاغوا كثيراً من آرائهم في صور شعرية جميلة تجلى فيها القلب الإنساني في أرقى مداركه، وأصفى منازعه، وصوروا فيها خفايا النفس الإنسانية.

وفي العربية كثير من الشعر الصوفي مفرّق في الكتب. وفيها دواوين خصّت بهذا الضرب من الشعر، أسيرها ذكراً ديوان ابن الفارض، ودواوين ابن العربي، وديوان النابلسي.

ولشعراء الفارسية المقام الأسمى في الشعر الصوفي، وقد حاكاهم فيه شعراء التركية والأردية. وأعظم شعراء الفارسية في هذا مجد الدين سنائي وفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي، وهو زعيم شعراء الصوفية وفلاسفتهم جميعاً.

- 2 -

وكأن الله سبحانه أراد أن يبعث مولانا جلال الدين في هذا العصر مزوداً بفلسفته وعلومه، إلى فلسفة الصوفية، وصفاء نفوسهم، فبعثه في صورة شاعر الإسلام وفيلسوفه محمد إقبال الهنديّ.

ولإقبال منظومات كثيرة معظمها بالفارسية، وبعضها بالأردية، وقد ضمنها من الفلسفة والتصوف والأخلاق والاجتماع والسياسة ونقد المدنية ما يملأ القارئ إعجاباً. والرجل حرّ، يكره التقليد ويحذر منه، فعقله وقلبه ظاهران في كل ما يكتب. ومن منظوماته كتابان سماها (أسرر خودي) و (رموز بي خودي) أي أسرار الذاتية، ورموز اللاذاتية. ومدار البحث في الأول بيان أن العالم قائم على (الذاتية) وأن حياة الإنسان بإبراز ما أودع في فطرته من المواهب، وتقوية نفسه. ومدار البحث في الكتاب الثاني بيان ائتلاف الأفراد في الجماعة، وما تقوى به الجماعات. وقد شرح ذلك كله شرحاً مبيناً، وضرب الأمثال، واستشهد التاريخ، وسما إلى الدرجة العليا في الشعر.

وقد ترجمت في مجلة (الرسالة) صفحات من هذين الكتابين، ومن ديوانه بيام مشرق الذي جعله الشاعر جواباً للشاعر الألماني جوته.

- 3 -

وقد بدا لي أن أنشر في (الرسالة) منظومة أهديها إلى إقبال، وأجعلها صدى لكتابيه المذكورين آنفاً.

وأريد مع هذا أن أنهج بها في العربية نهجاً جديداً، وأجعلها مثالاً للمعاني السامية التي يتناولها الشعر إذا أطلق من عقاله، وحرّر من الموضوعات الضيقة التي اعتادها جمهور الشعراء، ولا سيما المعاني التي تكثر في أشعار الصوفية العظام. ثم أريد أن أجعلها مثالاً للقافية المزدوجة التي قصرها شعراء العربية على الرجز المشطور كما قصروا الرجز على نظم العلوم كالألفية والجوهر المكنون، والتاريخ كمنظومة ابن عبد ربه في أمراء بني أمية، والقصص ككتاب كليلة ودمنة، والصادح والباغم. وينبغي أن يسري هذا الضرب من التقفية إلى أبحر الشعر الأخرى حين تعالج الموضوعات الواسعة. فهذا الذي سنّى لشعراء الفارسية وغيرهم أن ينظموا عشرات الآلاف من الأبيات في قصة واحدة أو كتاب واحد.

وقد اخترت وزن الرمل ليُسره وخفته واقتداء بجلال الدين في المثنوي ومحمد إقبال في بعض كتبه ولا سيما أسرار خودي ورموز بي خودي.

- 4 -

ثم التفعيلة الثالثة في الرمل تأتي تامة (فاعلاتن) ومقطوعة (فاعلاتْ) ومحذوفة (فاعلا). والقافية المزدوجة تجعل كل شطرين متفقين في الروي منفصلين بعض الانفصال عن غيرهما. فينبغي أن يسوّغ الجمع في المنظومة الواحدة بين أبيات على فاعلاتن وأخرى على فاعلاتْ أو فاعلا تيسيرا للناظم. ولكن الجمع بين فاعلا، وفاعلاتْ حسن لا عيب فيه لأن الحرف الأخير في فاعلاتْ لا يأتي إلا بعد مدّ. وبهذا المدّ يتم الوزن فيأتي الحرف بعد المدّ نهاية للصوت فلا يشعر المنشد باختلاف النغمة بين فاعلا وفاعلاتْ. مثال هذا البيتان الآتيان: رُبَّ معنى في ضمير يكتُم ... ليس في الناس عليه محرمُ

وقلوب رمسها هذي الصدور ... أتراني مسمعاً من في القبورْ

البيت الأول بني على فاعلا، والثاني على فاعلات لكن الراء في كلمتي الصدور والقبور واقعتان بعد مد فتأتيان في نهاية لصوت كأنهما لا تحسبان في وزن البيت. وليس الأمر كذلك في الجمع بين فاعلاتن وغيرها، ففي البيتين الآتيين:

كان لي الليل مداداً فنفدْ ... وطغى قلبي بمدّ بعد مدّ

جاشت الظلماء موجاً بعد موج ... وغزاني الوجد فوجاً بعد فوج

إذا سكَنت الجيم في موج وفوج يبنى البت على فاعلاتْ فتجده قريباً جداً مما قبله. وإذا حركت الجيم يبنى على فاعلاتن فيبعد عما قبله بعض البعد. فينبغي ن يجتهد الناظم ألا يجمع بين فاعلا أو فاعلاتْ وبين فاعلاتن في منظومة واحدة رعاية لانسجام النغمات.

وإني أدعو أدباء العربية إلى العناية بهذا المثال الذي أقدمه في المعاني والقوافي ليقبلوه على بينة أو يردوه بالحجة. والله ولي التيسير.

أيها الليل إليك المفزعُ ... كم حنت منك علينا أضلع

كم خفينا في غيابات الدجى ... وملأنا الليل هماً وشجى

كم ألِفتُ الليل أُماً حانية ... وكرهت النجم عيناً رانيه

كم ألفت الليل وحشاً راقبا ... في شعاع الصبح سهماً صائبا

كم بثثت الليل سراً كِتما ... فوعاه الليل عني ألما

كانت الظلماء لوحاً للألمْ ... خطّتْ الآهات فيه كالقلمْ

كان لي الليل مداداً فنفد ... وطغى قلبي بمدّ بعد مدّ

جاشت الظلماء موجاً بعد موجْ ... وغزاني الوجد فوجاً بعد فوجْ

فنيت هذي وهذا زاخرُ ... وانجلت هذي، وهذا غامرُ

خلتني في الليل جمراً سُعّرا ... ونجوم الليل منه شررا

إرَة قد وقدت في أضلعي ... وسحاب هاطل من أدمعي

كنت سطراً لم يفسره أحدْ ... خطَّه في غيبه الله الصمد

في ضميري كل معنى مُنبَهِمْ ... حرت في الأعراب عنه بالكِلم قد ثوى العالم في قلبي وما ... خُطَّ شيء فيه إلا الحرف (ما)

جلّ قلبي أن أراه جامَ جم ... صُور الأقطار فيه تنتظم

إنما الأقطار في قلبي العميدْ ... أحرف أوحت إلى معنى بعيد

ربّ معنى في ضمير يكتمُ ... ليس في الناس عليه مَحرَمُ

وقلوب رمسها هذي الصدورْ ... أتراني مسمعاً من في القبور

أنا في الناس فصيح أعجمُ ... ناطق فيهم كأني أبكم

صمّت الآذان عن هذا البيان ... ضاع في ضوضائهم هذا الأذان

كيف يجدي القوم هذا النغمُ ... وعلى الآذان رن الصممُ؟

كيف يجدي القدح في هذا الحجر؟ ... قلبه رخو خليّ من شرر

إن خفق القلب قدحُ مُجهِدُ ... بعضه يورى وبعضٌ يصلد

كيف يجدي النفخ في هذا الرمادْ ... طفئ الجمر ولم تور الزناد

(يتبع)

عبد الوهاب عزام