مجلة الرسالة/العدد 166/دورة الأرض ودورة النفس

مجلة الرسالة/العدد 166/دورة الأرض ودورة النفس

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 09 - 1936



للأستاذ خليل هنداوي

كم لهذه المدنية من جنايات منكرة على الإنسان، فلقد شاءت في كل ما تضعه أن تعطيه صور الطبيعة مشاهد ممسوخة وأن تعطيه كتاب الكائنات سطوراً مبهمة.

لقد كان الإنسان في العهد الأول يوم كان يزحف إلى رحلاته على آلات تسعى كالسلحفاة أكثر اتصالاً بالطبيعة، لأنه يقف إزاءها وجهاً لوجه، يتأمل جمالها وجلالها ويتحمل مشاقها ويرى في تحمله لذة الانتصار. فالراحل رحلة قصيرة يتألب حوله من يهتف له ويعجب به ويسأله أن يحدثه عن عجائب رحلته لأنه يراها رحلة حُبلى بالغرائب. وترى صاحبها كلما تحدث عن رحلته تحدث برغبة وحماس، يصور تلك المشاهد ويحبب لسامعه لقيام بمثل رحلته حتى يطلع على جمال لا يغني الكلام عنه.

جمال هذه الرحلات طغى عليه جيل السرعة فلم يُبق لتلك المشاهد روعة، ولم يدع للرحلات البطيئة معنى. . . فالسيارة والقطار والطيارة أعداء هذه الرحلات البطيئة لأنها تجعل من مشاهد الطبيعة الغزيرة المعاني صوراً وأخيلة سينمائية لا ينفذ الناظر إلى دقائقها وائتلاف صورها. فالراحل من بيروت إلى دمشق في العهد السابق على عجلة كان يلبث ثلاثة أيام قد يقاسي فيها بعض الشدائد، ولكنه ينال مقابل هذا من جمال الطبيعة والتأمل في خفاياها ما لا ينسى روعتها أيام عمره، فهو يكاد يعي مصوراً جغرافياً بالطريق وقرى الطريق، وهو لا يكاد ينسى المواطن التي بات فيها لياليه. أما اليوم فهو لا يلبث في رحلته إلا ساعتين يقطعهما كلحظتين في قلب سيارة تحجب عنه كل شيء ولا يحس لذة في السيارة إلا لذة السرعة، وبهذا انطوت عنه آفاق وتوارت عنه مشاهد كثيرة. لقد ظفر إنسان اليوم بالسرعة وأصبح يقلب الأرض قطراً قطراً ولا يعصيه منها شيء، ولكنه يعود من أقطارها كأن لم ينظر شيئاً، لأن هذه السرعة قد محت من ذاكرته أكثر المشاهد، ربح هذه السرعة وخسر هذا الجمال المتغلغل في الأشياء والأكوان، وسرى فوق الأرض كمشاهد غريب عنها لا يتصل بها ولا يعي من مشاهدها شيئاً. وليته خسر من مشاهدها روعتها! ولكنه خسر التأمل الذي يترك أكبر الأثر في النفس. فكم درس كان يتولد من مشهد! وكم قصيدة تنشأ من تأمل في أعماق الطبيعة! أضاعت السرعة كل هذا وزادت في فص الإنسان عن الطبيعة الأمر الذي ضج له بعض الفلاسفة وخشوا على الإنسان أن يزداد انجذابه بالمادة، والمادة قاتلة فيه كل روح وضمير. وبهذا تثبت الإنسانية في أجيالها الحاضرة أنها أصبحت طائعة خاضعة للمادة، وأنها لا يستفيق فيها نداء الروح إلا حين تفشل مادتها ويضعف تعلقها بها!

أجد السائح على الآلة البطيئة يحدثني عن جمال مشاهد غاب جمالها في نفسه وأثر في قلبه وربما غير اتصاله بها وجوها كثيرة من حياته، وهذا سر كل رحلة وغايتها. وأجد السائح على الآلة السريعة فأجده سيد رحلته. انتهى منه كما بدأ بها. . . لم يضف إلى خزانة نفسه من هذه الرحلة شيئاً إلا أسماء رآها على المصور كما أراها إذا أردتُ. وما عسى تجديني رحلة طويلة أطوي الأرض من قطبها إلى قطبها وأجمع بيدي كل آفاقها، تدور بي آلة تسير كالجن تريني السماء والأرض طائرتين، أو أرى الأرض من السماء كخيال لا يتبدل ما فيه إلا قليلاً. إني لأوثر على مثل هذه الرحلة التي اختلط رأسها بذنبها رحلة قصيرة بطيئة تتصل نفسي فيها بالأرض وتسمع نداءها وتدرك جمالها وتتأمل جلالها، وإذا انتهيت من رحلتي أحسستُ شيئاً جديداً في نفسي! أليس في تبدل كل مشهد وحي جديد يهبط على نفسي؟ أليس في كل طود شامخ أجاهد النفس في اقتحامه انتصار قوي يشجع نفسي على المثابرة؟ أليس في انتصاري على كل شدة وكل نكبة ومجاهدتي بنفسي في اقتحام المخاطر ما يعينني على اقتحام مخاطر الحياة التي تشبه من وجوه عديدة هذه المخاطر؟ وكيف تريد من الغني الذي ينشأ في النعيم والنعومة أن يقوى على مجابهة الحياة حين تقابله مصاعبها؟

إن في مثل هذه الرحلات نوعاً من المقاومة - كم يفهمه الكشافون - يعين على احتمال المصاعب، وفيه نوع آخر يجب أن نسبق إلى تفهمه هو محادثة الطبيعة فماً لفم، وعناقها صدراً لصدر، والتغلغل في خفايا جمالها الرائع، وفي هذا ما يجعل قلوبنا تطفح رضاً بالحياة ونفوسنا تحبها وتتمتع بها.

حقاً لقد كسبوا كثيراً من السرعة في رحلاتهم، وكثيراً من الراحة في هذه السرعة، وكثيراً من الرحلات في هذا العصر، ولكنهم فقدوا أجمل شيء كانوا يأخذونه من الطبيعة، فقدوا الأساليب التي كانت تدخل بها الطبيعة إلى أنفسهم، والأساليب التي كانوا بها يدخلون إلى نفس الطبيعة. . . وقد أخطئوا إذ حسبوا أن قيمة الرحلة بأبعادها ومسافاتها وتعدد مشاهدها، وما عسى أن تكون قيمة رحلة مثل هذه إذا أبعدتني عن نفسي ولم تستطع أن تصل ما بيني وبين الطبيعة! على أن دورة النفس هي أكثر التفافات وتعاريج وأبعاداً - على قربها - من دورة الأرض وإن كثرت فيها التعاريج والأبعاد.

سيحوا في الأرض وطيروا في أجوائها واسبقوا الزمان على دورته، ولكن اجعلوا من سياحاتكم سياحات قصيرة تعيدكم إلى الأرض وجبالها ووديانها وجمالها، ففي تأملها حياة في قلب حياة، وفي الاتصال بها انفصال عن متاعب الحياة.

وقد كان الاتصال بالأرض الخالية علاجاً يداوي به سقيم الهوى ومريض الفؤاد والمسلول، لأن نفحاتها النقية تعيد إليه ما نزعته منه الأرض التي سممتها الشهوات وقتلت روحها الملذات.

مشاهد هذه الأرض لا تزال غنية تعطي كل قاصد مهما كانت غايته لأنها غنية. . . فما أغناك أيتها الأرض حتى عندما يظنونك فقيرة!

خليل هنداوي