مجلة الرسالة/العدد 166/من (الكتاب الذهبي) قبل أن يطبع

مجلة الرسالة/العدد 166/من (الكتاب الذهبي) قبل أن يطبع

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 09 - 1936



لغة الأحكام والمرافعات

للأستاذ زكي عريبي

- 5 -

(أما المتهمان على الأدب الزاريان على الفضل في أشخاص المثقفين فهما. . .

وأما المجني عليه فهو. . .

ولو شئنا التوسع لقلنا إن المجني عليهم قوم كانوا في عزلة من القوة فتجرد لهم المتهمان يسطوان عليهم بالقلم المسموم والقول القاذع والعبارة التي تقطر سماً وحقداً وحفيظة.

وما علمنا أن أمة صقلتها الحضارة أو كانت على الفطرة من البداوة جعلت من فضائلها تجنيها على الوادعين الذين هم في أمن وعزلة لا يملكون لأنفسهم أمام الساطين عليهم دفعاً.

إن لهذا الإيجاز إيضاحاً ولهذه الجملة تفصيلاً).

ولغة التفصيل الموعود أروع وأمجد. اقرأ هذا البيان لما وقع من المتهمين وهذا التنويه بشناعة الجريمة.

(أقبل مديرون من ولاة الأقاليم، وما كانوا نكرة فينساهم الناس، وما كان التشيع الحزبي ليميت العواطف الكريمة، بل ما كان للنبل أن يموت، وما فقدت مصر الرجولة فراح قوم يمشون إلى هؤلاء المعزولين بالكلم الطيب ودعوهم إلى وليمة، ورأى من يحسن القول في هذا الحفل أن يتقدم بكلمة طيبة لا ينكرها إلا حقود.

وقديماً كان الناس يمشون إلى الولاة المعزولين يرفهون عنهم ويذكون لهم حميد فعالهم. . . ولكن المتهمين هاجهما أن يرضى الناس عمن غضبا هما عليهم.

ثم هاجهما أن يعيش هؤلاء الولاة وأن يرضى عنهم الناس فراحا يقولان عنهم في جريدة. . . إنهم أسفل المجرمين.

يا شرف اللغة العربية كيف طاوعت هذين الرجلين حتى جعلا من بعض الأكرمين (أسفل المجرمين).

خبروني إذا كان الوالي الذي يعزل لا لنقصية في شرف يعد (أسفل المجرمين) فمن يكو القاتل الذي يقتل صاحب الفضل عليه عند الثقة به والركون إليه، والسارق الذي يسطو على الآمنين ثم يسلب الأموال والأعراض ولا يبقي على الأطفال والنساء. هذا القاتل السارق بماذا نعرفه ومن يكون؟

(أسفل المجرمين) لا يعرف حتى تنسب إليه تهمة، وحتى يأخذه بها القضاء العادل بعد مدافعة ومطاولة. ومع هذا فأنه من المؤلم أن نصفه بأنه (أسفل المجرمين).

أما في الخصومة الحزبية هوادة ونصفة؟ أما لهذا الفجر الزاخر آخر؟ أما لهذا الظلام نهاية؟)

بل انظر إلى هذا الانفعال الحق يستولي على النائب المترافع وقد قرأ للمحكمة بعض هذا المقال القادح فراح يؤدب العادي على الأدب بعصا الأدب ولا يفل الحديد إلا الحديد.

(إني آسف كل الأسف لإيلام المجني عليه بهذا النقل ولكني أنقل هذا الكفر مكرهاً عن المتهم.

أكل هذا يقوله هذا المسكين المعدم في أدبه الفقير إلى عصا التأديب، ويتقدم صاحبه الشيخ الوقور بالتنويه به والتهليل له ويدعوه في صحيفته بالأستاذ.

المتهم. . . صاحب القلم الجارح ما منشؤه وأين من كوّنه؟

لله أبوه! ألا يكون لي الشرف فأراه لأعرف رأيه فيه وهو يغمس قلمه المسموم في دماء الوادعين كما تنفث الرقطاء الزعاف؟ بل قلمه أسفل وأقتل، فالرقطاء قد تذود عن نفسها بسلاح أعد لها، وهذا يذود عن الرذيلة بسلاح لم يخلق لرجل كريم العنصر وله ضمير حي).

وهاهو ذا يهدأ بعد هذا العنف اللازم فيعرض لتعريف النقد المشروع في إحكام وحسن تعبير مدهشين فيقول:

(أساس النقد أن تعني بدرس الأمر فتتبينه جملة جملة، وترى أي أجزائه خير، وأي أجزائه لا يتسق مع باقيه في جمال الوضع وتناسق التكوين؛ على أن يكون الناقد نزيهاً لا غرض له إلا الحق. ولا تتم له ملكة النقد إلا بعد أن يكون من القوة على تمييز الأشياء بعضها من بعض في الموضع المسلم له به.

والناقد حكم، والحكم قاض، والقاضي أعلى من أن يتصف بهجر القول وإلا فليس بناقد. .

).

ولنقف عند هذا الحد في الاستعراض وإلا ساقنا هذا الإبداع وأمثاله إلى أبعد مما يريد القائمون على الكتاب الذهبي

لغة الأحكام

تمهيد ومقارنة

الحقيقة مطلب البشر منذ أن قام للبشرمدينة. طلبها في الدين، طلبها في العلم والفلسفة، وطلبها في التشريع وفي توزيع العدالة.

والأحكام هي أداة هذا التوزيع. فهي عنوان الحقيقة.

وعنوان الحقيقة يجب أن يكون جديراً بها من حيث شكله على الأقل وهو الذي يعنينا في هذا البحث.

لقد تحدثنا عما يجب توفره في لغة المرافعات فوجدناه كثيراً بل مرهقاً. يتطلب كفايات عدة ألمعنا إلى بعضها. فهل يصدق على الأحكام ما يصدق على المرافعات؟

لنتدبر طبيعة كل قبل أن نحاول الإجابة على هذا السؤال.

المرافعة نوع من الأدب الخطابي يرمي بالإقناع أو تحريك العواطف إلى خدمة مصلحة معينة.

والحكم تقرير للحقيقة كما استطاع أن يراها القاضي على ضوء عناصر الدعوى ومرافعات الخصوم.

الأولى ثمرة جهاد مقاتل يبتكر الوسائل الكلامية المؤدية إلى الظفر. والثاني عمل حكيم هادئ يتحسس مكان النصفة فيدل عليه.

يستحيل إذن أن يكون نوع اللغتين واحداً: فإحداهما متغيرة متوثبة أبداً، والأخرى ساكنة مستقرة أبدا.

ولكن أمعنى هذا أن مهمة القاضي إذا ما جلس لكتابة الحكم أيسر من مهمة المحامي إذا وقف للدفاع؟

إياك وهذا الاعتقاد! صحيح أن مهمة القاضي لا تستلزم الابتكار، وهو عمل شاق يرهق المحامي إلى آخر حدود الإرهاق ويتطلب فيه استعداداً خاصاً يرقى بالمران، وقد يصل بالمحامي النابغة إلى سماء كبار المخترعين، ولكن عمل القاضي إذ يجلس لتمييز الحق من الباطل لا يقل عن عمل زميله دقة وصعوبة.

إنه قبل كل شيء ناقد؛ والنقد يتطلب قدرة على فهم الرأي المعروض، ثم قوة على تحليله ورده إلى عناصره الأولية، ثم صحة نظر وسلامة تقدير يستطيع بهما الوقوع على الحقيقة وسط بحر زاخر من الآراء المتناقضة، وقد ينطوي كل منها على بعض الوجاهة.

جلس هنري الرابع ملك فرنسا العظيم يوماً ليفصل في قضية هامة بنفسه. وقام للمرافعة بين يديه اثنان من أعلام المحاماة في عصره، فأبدع كلاهما وأعجز إلى حد أن صاح الملك يائساً: (رباه! إن الخصمين على حق).

والخصمان في كثير من الأحوال على حق إلى حد ما. والصعوبة الكبرى، الصعوبة الهائلة، هي أن يتبين القاضي هذا الحد فيركز عليه حكمه. على أن مهمة القاضي وقد أصاب المحز لا تنتهي بإصابته، إذ عليه بعد ذلك أن يؤيد حكمه بقلمه.

وفي الحق إن الأمر ليس من السهولة بحيث يبدو. دعك من القضايا السهلة التي يزاحم فيها الحق البديهة ولا يتطلب إلا تقريره بكلمة قد يكفي فيها قلم كاتب الجلسة. ودعك من قاض يعتقد أن عبارة (حيث) تتقدم سطوراً جرى بها التقليد الراكد تكفي في إلباس رأيه ثوب الأحكام.

ليس هذه القضايا ولا ذلك القاضي نعني، وإنما نريد القضية العصية يتسابق فيها لسانان أو قلمان لعلمين من أعلام البيان. فيخضع كل منهما لرأيه طائفة من الحجج الدامغة والأدلة القوية. ويقف القاضي بين هذين السيلين فيصلا للملحمة، ثم يقول أخيراً كلمته الحاسمة. كيف يقولها؟ ليس القاضي بمحلف يكفيه أن يجيب بنعم أو لا.

كلا الخصمين - كاسب الدعوى وخاسرها - بل وجمهور الناس يتطلع إلى أسباب حكمه ليحكم له أو عليه. لذا وجب أن تكون هذه الأسباب مقنعة. وليس الإقناع في مكنتها إلا أن يكون كاتبها من المقدرة بحيث يستطيع أن يعالج بقلمه القضية من جميع نواحيها؛ يبين وقائعها بجلاء، ويستعرض مختلف الآراء فيها بدقة وإيجاز؛ يناهض ما يرى مناهضته ويؤيد ما يرى تأييده، ثم يقف عند الرأي الذي يعتقد صحته موقفاً له قوته وله جلاله.

تلك هي مهمة القاضي ككاتب. وليس يستسهلها إلا جاهل بأعباء الكتابة ومشاقها.

خصائص لغة الأحكام

لكل قلم قوته، ولكل كاتب طريقته، فمن العبث أن نضع قواعد مطلقة لصياغة الأحكام. الأمر قبل كل شيء حسن ذوق وحسن تصرف، ولكن للغة الأحكام مع ذلك مميزات يجب التنويه بها.

حسن اختيار اللفظ ودقة الأداء

المفهوم في الأحكام أنها نتيجة أعمال فكرة وتمعن، يصيغها القاضي وهو جالس إلى مكتبه لا تواجهه أنظار شاخصة ولا تتعجله وجوه مستحثة. فليس يغتفر له ما قد يغتفر للمترافع المندفع من تساهل في اختيار اللفظ ودقة الأداء. ليست المسألة مسألة أدب فحسب. فإن الحكم الذي تصدره محكمة ابتدائية هو سفيرها أمام محكمة الدرجة الثانية، وحكم محكمة الاستئناف عنوان جهودها أمام محكمة النقض، وقد ينبني على سوء تعبير أو غموض يعتور أسباب الحكم تشويه الرأي كله أو إضعاف حجته أمام المحكمة العليا.

الابتعاد عن التعمل

على أن الإحسان في التحرير لا يستلزم التعمل ولا التزيد، وليس أبعد عن كرامة القاضي من سعيه وراء الإعلان بأحكام تتبين فيها صنعة الأعداد للنشر والرغبة في استجلاب الثناء.

الوقار في لغة الأحكام

كذلك يكره في لغة الأحكام العنف والشدة وجموح العاطفة. فالقضاء وقور بطبعه وبالمهمة السامية التي يؤديها وبالاسم العالي الذي يتوج به أحكامه. فليس يليق به إذا ما تبين الحق في جانب خصم من الخصمين أن يحمل على الخصم الآخر فيصفه بما لا يجب. صحيح أن مهمة القضاء في بعض الأحايين التأديب والزجر: ولكن للزجر مواضعه في القليل من الأحوال. أما على العموم وفي القضاء المدني على الخصوص فيجب أن يكون الحكم عنوان الاعتدال والحشمة والتهذيب.

ويجب على القاضي أن يذكر إذا ما ناقش دفاعاً لمحام أو رأياً قانونيا أبداه أنه إنما يناقش زميلا له في السعي وراء الحقيقة فليس جميلاً منه ولا كريماً أن يسفه رأيه بمثل هذه العبارة التي قرأناها في حكم جنائي: (أما ما ذهب إليه الدفاع من أن عقلية المتهم غير ناضجة ويجب أن نصدقه لهذا السبب، فهو من لغو القول ولا تلتفت إليه المحكمة).

وقد يبدو لك ما في هذا القول من إساءة إذا قارنته بتصرف محكمة النقض وقد عرضت لأسباب تقرير مقدم من النيابة، فعركتها عرك الرحا وأطارتها هباء ثم ختمت بحثها بهذه التحية الجميلة (وإن المحكمة لتقدر للنيابة ما قامت به من المجهود الفني العظيم في سبيل تأييد نظريتها).

وقد جرت على هذه السنة عينها مع الدفاع إذا أحسن.

لغة الأحكام قديماً وحديثاً في مصر

وليس يبقى لاختتام هذا البحث إلا إشارة موجزة إلى تاريخ لغة الأحكام في مصر.

من عبث التحدث عما قبل عهد منشئ مصر الحديثة، فالمؤكد أنه لم يكن بمصر إلا قضاء شرعي غير محدود الاختصاص. بل لقد استمرت الحال فوضى قضائية في العهد المسمى بعهد المجالس الملغاة، فلم يكن هناك محاكم بالمعنى الصحيح المفهوم اليوم، بل كان رجال يجلسون للقضاء وليس لهم من مؤهلاته إلا الاسم. يقوم بين أيديهم وكلاء دعاوى يسعون إلى كسب قضاياهم بجميع الوسائل. وكانت اللغة في ذلك الوسط من أحط ما عرف في تاريخ العربية: كانت نوعاً من العامية الجوفاء يعتورها تعقيد متعمل ينطوي في نظر أصحاب ذلك اللسان على أروع الأدب. أنظر إلى رواية الوقائع في هذا الحكم الذي أورده محررو الوقائع الرسمية سنة 1881 نموذجاً للغموض والتعقيد المتمشيين في أحكام ذلك العهد، وفك رموزها إن استطعت وقل ما شئت.

(وفي ليلة الجمعة 22 شعبان سنة 294 صار قتل شخص يدعى شعبان نجم من كفر سعودن غربية بالغيط تعلقه وورثاه حصروا شبهتهم في شخص بلديه يدعا (يدعى) أحمد شوره، وبما أن المذكور لم يقر على ذلك وأنسب سيد أحمد عبد الدايم رئيس المشيخة أغرى الورثة ومن سئلوا في القضية على تهمته وما قيل فيحقه (في حقه) بسبب مطاعنته فيحق (في حق) الرئيس المذكور مما أبداه من المعادات (ة) في ذلك قد أخذت الحكومة في أسباب الفحص والتدقيق في هذه المسألة ولما تبين براءة أحمد الشورة المذكور وعدم صحة تهمته كونها بأغرى ذلك العمدة وشبهة العمدة المذكور بما حل بشعبان نجم وما اتضح من بعد شخص يدعى أبو السعود إبراهيم من كفر أبو جندي تابع إسماعيل الفار صهر سيد أحمد المذكور ليلة قتل شعبان المذكور وما توري بالتحريات التي جرت عن ذلك من أن فقده بمعرفة إبراهيم الفار لعدم إفشا أم شعبان نجم الذي قتلوه ليلتها مراعاة لخاطر سيد أحمد عبد الدايم بقصد نسبة قتله لأحمد الشورى المحكي عنه بسبب مطاعنته فيحقه قد حكم من الاستئناف ببراءة أحمد المذكور ومجازاة سيد أحمد عبد الدايم بليمان إسكندرية مدة سنة ونصف الخ).

على أن لغة محرر الوقائع الرسمية الذي شهَّر بهذا الحكم وسخر منه وقام يدعو إلى الإصلاح تستحق الإثبات هي أيضاً لطرافتها:

(منذ أيام جرى قلم النصيحة بمداد حب المنفعة على قرطاس المقصد الجميل فرقم كلمات في الإنشاء وبيان مراتبه وتفصيل الممدوح منه وغير الممدوح، وتقسيم أرباب القلم في ديارنا المصرية، وختمها بنداء عمومي صادر عن سليم القلب وصميم الفؤاد.

(ولقد كانت الآمال ترسل في مخيلتي بأقلام الرجاء أن سيكون لتلك الكلمات عند أهل الديار وقع جميل فتنفعل عنها النفوس ويظهر لها أثر يذكر في عالم المحسوسات، فكنت لذلك كالواقف على أقدام الانتظار، لانتهاز الفرصة في لقاء المحبوب يقلقه الضجر ويضنيه الاصطبار، فإذا مضى اليوم الطويل ولم أر فيه من أثر يذكر على نوال المطلوب رددت أنفاس الأسف ومنيت النفس باليوم الثاني عساه يسفر فجره عما يسكن الروع ويدفع الوسواس شأن المحب يتعلل بالأماني ويعتذر بتوارد الأيام؛ ولما طال بي المدى وتطاولت الأزمان. . .).

وقد يطول بنا وبك المدى وتطاول الأزمان قبل أن ننتهي من هذه المقدمة التي لا تحوي فائدة ولا تؤدي غرضاً فلنتركها ونترك عهدها السعيد إلى العهد التالي.

(التتمة في العدد القادم)

زكي عريبي

المحامي أمام محكمة النقض والإبرام