مجلة الرسالة/العدد 167/الحنين. . .

مجلة الرسالة/العدد 167/الحنين. . .

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 09 - 1936



للأستاذ محمد شوكت التوني

أخي الصديق. . .

تناولت منذ يومين رسالتك التي أثمرها صمت سنين خمس لم أتلق طوالها كلمة منك، ولا نبأ عنك - بمزيج مبهم من العواطف والأحاسيس. وأدركت - كما تدرك بعض الحقائق الخفية - أو المنكورة في بعض المناسبات - أن كثيراً مما نعتبره مبالغة قد يقع ويظهر لكل عين مجردة كحقيقة عارية، كما يصبح كثير من الوهم أو الخيال مخترعات تحس وتلمس، إذ أن محيط الحياة خفي الأمواج، وخفاء الأمواج يلد العجائب!

لقد كنت أحسبه مبالغة قول من يقول: (إن وصول خطابك قد أعاد إليّ بصري كما أعاد قميص يوسف الضوء إلى بصر يعقوب الحزين الكظيم).

فعرفت بعد ورود خطابك إليّ أن في هذا القول كثيراً من الحقيقة، وأن البصر قد يكون حاسة من الحواس الخمس وقد يكون نوراً ينبعث وهاجاً في القلب، والخاطر، والنفس، وأن بعض الانفعالات قد تسمو وترتقي فتمسى عند صاحبها أقوى من البصر، وأعظم من نفس الحياة. . .

لم ترد يا صديقي أن تكتب إليّ بالتحية، ومحوتها سلفاً من جبين كتابك مدركاً أن التحية إذا ألقيت مجاملة كانت نافلة وعملاً بين الصحاب غير نافع، وإن قصد بها التعبير عن الشوق فتحصيل حاصل. فليس بمنكر أن سنين خمساً لجديرة بأن تلهب قلبي صديقين مخلصين لم يتساقيا من كؤوس الود إلا أصفاها عنصراً وأحلاها مذاقاً وأبقاها أثراً.

ولكم كنت لبقاً وأريباً. وكانت كلماتك مؤثرة حين ذكرتني بعهدي الأدبي الخالي، وأيامه ولياليه الصافية المورد، والساعات التي كنا نمضيها باحثين في فنون الأدب، منتجين أبطال قصصنا، نراهم تحت أسماعنا وفي محيط أبصارنا يعيشون قطعاً من أكبادنا وخفقات من قلوبنا، ودمي تملؤها عواطفنا دماً وروحاً، فينبعث فينا شعور بالرضا والغبطة إن لم يصل إلى غبطة الإله بمن خلق - سبحانه - فهي تسمو وتعلو عن غبطة الوالد عند مرأى أبنائه ونماء فلذات كبده. . . لأن نظرة الأدب إلى أبنائه، وإرهاف أذنيه إلى أحاديثهم يغمرها الحنان الأبوي الغريزي فيعطل فيهما نواحي التفكير ويفسد عليهما حسن التقدير. أما أبناؤ نحن فكانوا دائماً محاطين منا بالعاطفة والفكر. . .!

. . . ولعلك يا صديقي حين تذكرني بهذا العهد السعيد الفائت لا تبغي أن تقطع نفسي ونفسك حسرات وتلهب سعير الحزن وتشعل جمرة الأسى، وإنما تقصد الهتاف للخفي المغيب في أعماقي كي تثيره للحركة بعد الخمود، فأنت تقول: (لقد انصرفت عن ميدان الأدب كي تؤدي واجباً وجب، وتقف في الصف الأمين تجاهد في سبيل بلادك وحريتها، وتناضل عن حرية الأفراد المرهقين بعسف المستبدين. والآن وقد انجلى الفجر البديع عن حياة جديدة لمصر بدأت تسفر عن وجهها وترفع النقاب عن جمالها، أما يراجعك الحنين إلى الأدب تغذي عالمه بقلمك. .؟).

أما الحنين يا صديقي فأقسم ما فارقني طوال ذلك العهد، وإنما كان معذبي ومسعدي.

فإن هوى النفس - كما تعلم - غلاب لا يقهر، نفاذ إلى مقصده لا يتقهقر، وهو أقوى من الرغبات وأشد منها عناداً، وأسبقها في النفس وجوداً، وهو - بعد - مرآتها العاكسة لعنصرها، فإذا كانت أمارة بالخير، فهواها هو الرشد، يبرز مقنعاً في صورة رأي صائب، أو حركة نافعة.

وكل من في هذا الوجود مسير بالنفس - الأمارة بالخير أو بالشر. ولكل هوى صورة كائنة حية هي ظاهرة في أعمال صاحبه تبدو لأعين الرائين من الناس. كما أن لها ناحيتها الخفية التي لا تظهر ولا تنم ولا تبين. وتلك أرق الصور وألطفها. تولد في الأعماق، وتعيش وتنمو إذا راقها المهد، ولذتها الحضانة، فتطول حتى تصاحب العمر إلى نهاية الأجل. . . تلك الصورة يا صديقي هي (الحنين). . . أثر قوي من هوى النفس وصورته الخفية، يعيش في جوانب العالم الإنساني الخفي ويسبح مع الأمل في الخيال، ويرف مع الرجاء في مسابح الروح، ولكنه أبداً لطيف لا يشف ولا يكتشف ولا يحاول غدر صاحبه فيبدو غصباً.

لا يعاند صاحبه ولا يجادله أو يخاصمه ولكنه أبداً متفق معه متسق وخياله وتفكيره، يقرب له جامحات الأماني ويهون عنده بالغات المصائب، ويذلل له شامسات المصاعب.

يناجيه ويناغيه ويغذيه في أوقات تأملاته وحين البأس، ويسعده ويبث في نفسه الترسل في العزاء في لحظات الأسى واليأس.

وصاحبك يا صديقي - كما تعرف ولا يعرف الكثيرون - فنان اتقدت شعلة الفن بين جوانحه منذ الصبى فأدرك معناها مبهمة كأنها الغريزة، واندفع في سيال مجراها يقرأ وينتج لا لمال أو شهرة، واستطاع أن يوفق بين حياة الدرس وحياة الفن، غير أن العمر قد تقدم بصاحبك إلى ميدان المسئوليات، وتوزع الجهد بين مختلف ما يطلبه الجهاد في سبيل بلاده، والجهاد في سبيل مهنته، ما يستغرق يومه كله إلا ساعات للنوم ما عرف النوم فيها إلا اسماً ورؤى! فألقى لذلك قلمه لا يكتب في الأدب ولا في الفن، وإنما يكتفي باختلاس بعض الوقت يغذي فيه بعض نهمته للقراءة والإطلاع.

وشقي صاحبك بهذا الجرمان، فقد تزاحمت عليه في حياته الجديدة موجبات للفن من حوادث ذاك الجهاد ومن ألوان ذلك العيش العتيد.

ولكم جلس إلى فكره وخياله ونفسه والشعلة متقدة والنفس راغبة، وقلمه في يده ملتهب الشوق، ويود بقطع الوتين أن يعيش في حياة الدنيا التي يرسمها ويصورها - بل يخلقها - ساعات هي من العمر إن كان بعض العمر حياة وبعضه عدم، فلا يلبث أن يناديه واجبه ولا يسعه إلا رد النداء.

ولعلك تعرف يا صديقي أن صاحبك المحامي يحيا - في مهنته - في محيط من آلام الناس وعذاب بني البشر، يعيش للمظلوم ويجاهد في سبيل الباكي الأسير.

والفنان كما تعرف أيضاً لا يعيش لنفسه وإنما يعيش للإنسانية مختزلة - في زمن حياته - في جيل معين وقوم معينين لا يستريح أو تسعده حياته إذا ظلت خواطره وأفانين إنتاجه وثمار فنه رهن محبسها - في قرارة النفس أو في مستقر الخيال والفكر - وإنما هو شقي بفنه إن لم يؤده إلى مستحقيه، فالشمعة وهي غير مضاءة فيها عناصر الضوء ولكن قيمتها عدم، فإذا أشعلت واتقد لهبها وبدأت تحترق وأعطت نفعها وهي تبذل حياتها طبقة طبقة حتى تخبو وتفنى، وحياة صاحبك - في عمله تعطي له في كل لحظة وحياً وإلهاماً. . . أولئك المظلومون يستصرخ لهم القضاء، والقضاء ظل الله في الأرض ولسان كلمته ويد قضائه وقدره، ولكنما فيه من قدسيته وتنزهه القليل اليسير، فقد ينصف المظلوم وقد ينخدع في حيلة الظالم، وكم تموت حقوق في يد قضاة الحقوق، وأولئك الأبرياء يقفون بين شاطئ الموت وشاطئ النجاة فوق موجة قلقة غير مستقرة، كلمة واحدة تقذف بالموجة إما إلى اليمين حيث الحرية والحياة، وإما إلى اليسار حيث الفناء وملاقاة رب عادل منتقم كريم. حولهم - في هول موقفهم - أهل وصحب يبكي بعضهم بدموع من قلب حزين، ويتباكى بعضهم بدموع خادعة كاذبة. تتنازع الحياة بآلامها وحسراتها - نفوسهم أضعاف ما تنازع من يبكون عليه. . .

وذلك الأب قتل في سبيل دفع عار عن آله وأبنائه وأحفاده أو في سبيل الحصول على طعام يرد عن أولاده شر المسغبة، تقسو عليه الحياة فيقف في القفص الحديدي ينصت إلى شهادة ولده الصغير وهو يقص على القضاة ما رأى من جريمة أبيه. . .

وتلك الأم الحانية الرؤوم حاول ولدها قتلها عن غواية وطيش، فتدلف محطمة إلى ساحة القضاء تطلب البراءة له وتسترحم في مصيره من بيدهم المصير.

وذلك الزوج أعز زوجه ودللها ومهد لها نعيم الحياة فبادلته بالحب غواية وبالإخلاص خيانة، فأرداها وفقد نعيمها وهو يسير في أغلاله إلى جحيمه، وبذلك فقد النعيمين. . . في الدنيا وفي الآخرة!

ثم أولئك المجرمون - الباغون السفاكون فعلوا فعلتهم - في غاشية، ثم ردت إليهم إنسانيتهم فوقفوا أمام القضاء في ساعة الهول يوقنون بالنهاية المحتومة ويفزعون بالوهم إلى الأمل ويمدون - بأيديهم - حبل أعمارهم. . . بنظرة باسمة من محاميهم!

. . . هؤلاء وغيرهم، وحياتهم تلك اللحظات هي مختصر لكل محيط الحياة يعيش صاحبك في وسطهم ويحيا لهم ومن أجلهم يوحون إليه الرثاء للإنسانية والبكاء على أطلال الفانين وأشباح المعذبين. . . ويحاول فنه أن يقوم بواجبه كفنان، ولكن واجباً آخر أقوى جذباً وأشد فعلاً يطغى ولا يرضى إلا أن يكون وحده صاحب الحق على شؤون صاحبك الذي يعمل ويعمل، والحنين ماثل في عالمه الخفي يسعده ويعذبه. . . ذلك الحنين الذي ولدته العواطف المحبوسة والآلام الطائفة كل يوم - بل كل لحظة - بالنفس والقلب، ثم كبر ونما وطال واستطال على كل منزع، وركب كل منفذ، وصعد مع الروح إلى أعلى سبحاتها، وجرى مع الدم إلى أقصى شوط من شرايينه، وغاص إلى أعمق أعماق النفس وسبح في ظلماتها وتراوح في أمواج ضوئها وجاب أنحاء القلب وارتقى صخوره واتأد فوق لينه وامتطى متون غيومه. . حتى أصبحت أحسه كياناً في جوار كياني، أراه في بعض الأحيان ممثلاً إلى جانبي في صورة طيف أو خيال، وقد أسمعه يناديني ويناجيني، وقد أضطر إلى أن أجيبه فأحدثه وأقارضه نداء بجواب ومناجاة بنجوى. . يسير معي - كالصديق الوفي - في النهار فيكاد يعزلني عن سائر الناس، وفي الليل. . . في الليل الأخير حيث تنام الناس وترقد الأعمال فأبقى في الوحدة والسكون. . . أنا وهو. . . والله ثالثنا. . .

ولكم حاولت أن أفلت من زمامه وأنجو من إساره وأفك عقالي من يديه فما زدت إلا تعلقاً به وتشبثاً بأردانه وأطرافه. . .

لقد غلبني على أمري ونزع شأني من إرادتي فرضيت أسره ولذت لي غلبته. . . وبات كما كان. . . مسعدي ومعذبي. . .

أما اليوم يا صديقي وقد انجلت الغمرة وهدأ ميدان المعركة، وبسم الشهداء في عليين وترنحت النفوس طرباً، ورقصت القلوب فرحاً، وآن للمجاهد في سبيل لحرية أن يغمد سيف جهاده، ويولي وجهه شطر إصلاح بلاده، فقد توفر لي من الوقت نصفه أو يزيد.

وسأراجع عهدي القديم وأحاول أن أفك إسار الحنين وأشفي داءه وأروي صداه وأتحرر أنا من أغلاله. . . لعله لا يبقى معذبي ويظل مسعدي وحسب.

سأمسك قلمي وأكتب للأدب والفن. لا أريد مالاً ولا شهرة، فحسبي من الثانية ما نلت، وحسبي من غنى شبع وري. . . وإنما لوجه الحق في صوره السامية: الله والوطن. نجاهد في ميدان الأدب والفن، وعذاب الجهاد في سبيل الحق أسمى مراتب اللذات.

محمد شوكت التوني