مجلة الرسالة/العدد 167/بعد المعاهدة

مجلة الرسالة/العدد 167/بعد المعاهدة

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 09 - 1936


من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر

للدكتور عبد الوهاب عزام

يروي بعض الصوفية أن الرسول صلوات الله عليه وسلامه كان إذا قفل من غزاة قال: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)؛ ويقولون إن الجهاد الأصغر قتال الأعداء وخوض المعامع وقراع المنايا، والجهاد الأكبر تقويم النفس وتطهيرها وإعدادها للرقابة على أعمالها والقيام بالعدل فيما بينها وبين الناس، ثم مجاهدة الأنفس الأخرى بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالرغبة والرهبة واللين والشدة، حتى تستقيم على السنن القويم، وتحتمل كل ما يحمّلها الواجب، وتأخذ كل ما يعطيها الحق؛ وحتى يجتمع الناس على شَرع لا تفرّقهم الأهواء، ولا تثور بينهم البغضاء؛ ثم النظر بعد هذا فيما يصلح الجماعة ويسعدها في معايشها.

صدق هؤلاء القائلون، فحرب العدوّ جهاد بّين لا تقعد عنه الأنفس العزيزة ولا تختلف فيه الكلمة؛ تدعو إليه العزة والكبرياء، والذود عن الأنفس والحرمات، ويصمد فيه المجاهد إلى عدو مرئي في معترك محدود. ولكن جهاد النفس، وإصلاح الجماعة وإسعادها، خفّي المسالك غامض الجوانب، تعترك به في النفس الواحدة منازع مختلفة، وتفترق بالجماعة أهواء متشاكسة، ويطول فيه المدى، وتمتحن العقول والعزائم.

فإن تكن الأمة المصرية قد مشت في عزتها إلى غايتها أو أشرفت على الغاية، إن تكن قد بلغت بالإباء والكبرياء والدأب والصبر ما أمّلت أو بعض ما أمّلت، إن تكن فرغت من الثورة والعداء إلى السلم والمودة، فإنما قفلت من جهادها الأصغر إلى جهادها الأكبر - الجهاد الذي ينظر في أحوال الأمة ما بطن منها وما ظهر، ليربّيها على الخير والحق، وينشئها على الخلق القويم، ويردّها جماعة صالحة متآخية، تجمعها المودّة ويعدل بينها الإنصاف، تلقى الخير والشر بقلوب موحدة وعزائم مجتمعة وآراء متناصرة - الجهاد الذي يعني بالجهلاء فيعلمهم، وبالمرضى فيأسوهم، وبالبائسين من الزراع والصناع فيأخذ بأيديهم إلى العيشة الراضية، ويقارب بين طبقات الأمة حتى يجمع شملها الخيرُ العام والمصلحة الشاملة - الجهاد الذي يهيئ للأمة وُلاة ينشرون السلام والأمان، ويقومون بين الناس بالقسط في كل كبيرة وصغيرة، حتى تعمّ النصَفةُ القويَّ والضعيف، والنصير والمخالف، والمحبّ والمبغض؛ وتقوم للأمة حكومة يحمل كل واحد فيها قانوناً في الخلق، يكفل ألا يحيد قيد شعرة عن القانون الذي في الورق؛ ويتنزّل فيها المثل الصالح من الرؤساء إلى من دونهم حتى يشعر كل عامل أنه يتلقى العدل من فوقه يوحيه إلى من دونه، وأنه حين يعدل لا يتبرع ولا يمن على أحد، وإنما هو الحق والواجب لا محيد عنهما ولا مفر منهما، ولا يسع الأمر غيرهما؛ وحتى لا يُقضي في أمر إلا بما يقضي به عمر بن الخطاب لو عرض هذا الأمر عليه، لا محاباة ولا حيف ولا هوادة؛ القويّ ضعيف حتى يؤخذ الحق منه، والضعيف قوي حتى يؤخذ الحق له؛ وحتى يكون العامل الصغير في أقصى الأرض نائلاً آمناً عليه، كالحاكم الكبير في دواوين القاهرة؛ وحتى ييأس أكبر الموظفين وأقرب المقّربين من المحاباة يأس أصغرهم وأبعدهم. لكلٍّ حقه، وعلى كل واجبه، وفوق الناس جميعاً قانون الأمة وعدل الله - الجهاد الأكبر الذي يذهب بهذه المساوئ البادية في أنفسنا وأجسامنا وأزيائنا وطرقنا وأنديتنا ودواويننا ودورنا، والذي يأخذ الأمة بيد رحيمة حازمة لتوفي به على النجاة غير مبالية بصيحات المرضى الذين يكرهون الدواء، والمفسدين الذين ينفرون من الإصلاح الخ الخ.

لست أقول إن أمتنا ابتليت بالشر والفساد من بين الأمم، ولكنني أريد لها أن تكون (خير أمة أخرجت للناس) وأن تصير مضرب المثل بين الأمم في أخلاق أفرادها، ونظم جماعاتها، وسعادة أولادها.

سيقول الضعفاء: هذا مطلب عسير! وأنا أقول إنما تَطمح عزائمنا إلى المطالب العسيرة، وإنما يكافئ هممنا لمقاصد البعيدة. وسيقول الذين في قلوبهم زيغ: هذا هذيان! وينسون أن هذا الهذيان تنطق به القوانين كلها. فإن لم يكن عملنا مصدقا قوانيننا فما جدوى هذه القوانين؟. ليس في الأمر عسر، وليس في الأمر هذيان، ولكنه حق يسير إذا برئت النفوس من يأسها، وخرست الألسن عن هذيانها؛ وحسبنا أن يقوم على رأس الأمة (عُمر) واحد يضرب المثل ولا يتهاون في إنفاذه فإذا الناس كلهم رغبةً ورهبة يقتدون به، ويحاول كل منهم أن يجعل نفسه عُمَر آخر. إن نفوس هذه الأمة معمورة بالخير، وإنما أضرّ بنا أن رفعت في كنف العدو رايات للشر انحاز إليها كل شرير، وأشفق منها كل خير فازداد المسيئون إساءة، وضعفت نوازع الإحسان في نفوس المحسنين. فاليوم نريد أن تُرفع في هذا البلد للخير رايات، ويُهاب بما في الأمة من أخلاق ليزداد المحسن إحساناً، ويكف المسيء عن إساءته، فإذا الناس أعوان على الخير أنصار له، فرحون به مغتبطون سعداء.

ذلكم الجهاد الأكبر تضطلع به هذه الأمة الكريمة، وتقودها إليه حكومتها الرشيدة مؤيدة موفقة مسددة إن شاء الله.

عبد الوهاب عزام