مجلة الرسالة/العدد 167/مهداة إلى الأستاذ دريني خشبة

مجلة الرسالة/العدد 167/مهداة إلى الأستاذ دريني خشبة

مجلة الرسالة - العدد 167
مهداة إلى الأستاذ دريني خشبة
ملاحظات: بتاريخ: 14 - 09 - 1936



من ذكريات زواجي

لأستاذ كبير

فوجئ قراء الرسالة منذ أيام بخبر زواج الأديب لكبير الأستاذ (د). عندما طلع عليهم بأغرودته التي جعل عنوانها (بلبلتي). فوجب على المعجبين بأدبه أن يتقدموا إليه بهدايا العرس، وكاتب هذه الكلمة واحد من هؤلاء المعجبين شعر بهذا الواجب فنهض لتنفيذه على الطريقة التي تتفق مع جهده. فهو يتقدم - على استحياء - بهذه الكلمات. وليسعد النطق إن لم تسعد الحال. . .

أذكر أني بعد أن خطبت زوجتي جلست إلى نفسي وقلت:

(اسمع يا فتى. . . ما أكثر أن تسمع الأزواج يشكون من زوجاتهم، وما أقل أن تجد من هو راض عن حالة زواجه! فهذا يشكو شدة غيرة زوجته عليه حتى إنها لتفتش جيوبه سراً كلما عاد من محل عمله لعلها تجد فيها رسالة تكشف عن سر مستور، أو ورقة تنم عن علاقة غير مشكورة. . .

وهذا يشكو شدة رقابة زوجته عليه حتى أنه لا يكاد يصل إلى مكتبه في محل عمله ساعة الصباح، وتعلم زوجته أن قد انقضت الدقائق العشر التي بين البيت والمكتب حتى تنهض إلى (تلفونها) تطلبه لتتمم عليه خشية أن يكون قد انصرف مبكراً إلى غير عمله. . .

وذلك يشكو من استعداد زوجته المدهش في إثارة الشكوك حول كل ما يعمل حتى ما ينقطع بينهما الجدال والشجار بسبب (سوء التفاهم) الذي تثيره دواما بارتيابها وعدم وثوقها فيه. . .

وذلك يشكو من أنه لا يكاد يقضي ساعة أو بعض ساعة مع إخوانه في جلسة مسائية هنيئة ثم يعود إلى بيته من بعدها راضياً منشرح الصدر حتى يلقى من عنت زوجته وعتابها له على أنه تأخر في هذا المساء عن موعده المعتاد ما يطارد من رأسه كل أثر من نشوة السرور التي أفادها في تلك الجلسة فما تلبث أن تنقلب نشوته إلى ثورة، وانشراحه إلى انقباض. ويبيت مهموماً كئيباً بعد أن كان يمني النفس بليلة سعيدة كلها بشر واغتباط).

استعرضت تلك الصور جميعها أمام عيني وعدت أقول لنفسي: (هذه يا فتى حال إخوانك ممن سبقوك إلى ما أنت مقبل عليه من هذا الزواج! فماذا أنت صانع؟ وفتاتك ليست إلا واحدة من نساء الله اللائى طبعن على غرار واحد، وصببن في قوالب متشابهة!؟ فأنت وفتاتك بين أن تندمجا في زمرة أولئك التعساء الساخطين الشاكين إذا أنت سرت معها على نهج بقية الأزواج، وبين أن تعيشا عيش السعادة والهناء إذا أنت أغضيت عما هو عيب (جنسها) في الواقع قبل أن يكون عيب شخصها).

وعاهدت نفسي في ذلك اليوم على ألا تثيرني من زوجتي نزعة من تلك النزعات التي رأيتها تعمل على تعكير صفو الأزواج من إخواني ومعارفي، وقضيت قضاء سابقاً لأوانه بأنها حماقة ما بعدها حماقة أن يغضب الإنسان من أمر هو يعرف أنه لا شك حاصل ثم هو يتوقع حدوثه قبل أن يحدث!

وتزوجت. . . . . .

ورأيت أن نقضي شهرنا الأول في رمل الإسكندرية، فسافرنا على أجنحة الطائر الميمون الذي يقول الشعراء إن السعداء من الناس يسافرون عليه، وكنت في زيارتي السابقة القصيرة لثغر الإسكندرية قد عرفت أن بجهة الشاطئ توجد سلسلة من الحدائق البديعة التي تليق بعروسين أن يقضيا بين خمائلها بعض سويعاتهما الوردية اللون، ولكني لم أكن أعلم أين تقع بالضبط تلك الحدائق من محطة الشاطئ، ولم أشأ أن أتأبط ذراع فتاتي وأذهب أتخبط بها وأتسكع حتى أهتدي إلى موقع تلك الحدائق. وكان من عادتي أن أصحبها كل مساء لقضاء الوقت في مغنى من مغاني الثغر وملاهيه، ورأيت في ذلك المساء أن أفاجئها بارتياد تلك الحدائق دون أن أخبرها بوجهتي حين أخرج بها في نزهة المساء لكي تكون الزيارة أمتع لها وأوقع في نفسها. فانتهزت فرصة القيلولة وأنها غلبها النعاس وتسللت أنا من الفراش فوضعت ملابسي في عجلة وتلصص وخرجت من المنزل في هدوء وحذر أطير إلى جهة الشاطئ لأرى كيف يكون وصولنا إلى تلك الحدائق، وأي مواقف الترام أقرب إليها، وأي مداخلها أمتع منظراً، وأي طرقاتها أشهى مسلكاً، وأي أركانها أهنأ جلسة وأنعم مقاماً.

ووفقني الله في مهمتي فلم أغب عن منزلي أكثر من ساعة عدت بعدها وأنا أكاد أطير بجناحين لألقى عروسي فأحتملها إلى هذه المفاجأة السارة التي خبأتها لها. . . . . .

ودخلت الغرفة عليها، فوجدت وجهاً مربداً، ونظرات شزراء، وعينين حمراوين فيهما أثر الدموع ووقدة الشر. وأشهد لقد كانت مفاجأتها التي أعدتها هي لي أقوى ألف مرة من تلك المفاجأة الفاترة التي كنت جهدت في أن أعدها لها. . . . . .

- كفى الله الشر! مالك؟

-!؟

- خير إن شاء الله؟

-!؟

- هل حضر أحد بعد خروجي أو حدث حادث؟

-!؟

- تكلمي يا (ستي!).

-!؟

وأخيراً وبعد مناورات أعفي القارئ من سردها تبينت جلية الأمر فإذا هي غضبى لأني خرجت: أولاً - بغير علمها. . . . وثانياً - إلى مكان لا تعرفه هي. . . . وثالثاً - لأن هذا الخروج حدث في وقت لم يخلقه الله لخروج الرجل البريء. . . ورابعاً - لأني تغفلتها وهي نائمة وأتيت كل هذه الآثام؛ كل ذلك ولما ينقض على زواجنا أسبوع! أفلم يكن من الأليق تصفية هذه (الرنديفوهات) قبل الزواج؟ أم هي مقابلة عارضة حصلت في الصباح فتم ترتيب الموعد ليكون في هذا الوقت من المساء؟ وهل يليق. . .؟ وهل يجوز. . .؟ وهل يصح. . .؟ وما إلى ذلك من طوفان الأسئلة التي ليس أسهل من توجيهها بصرامة مدهشة عند النساء وليس أسهل من الغرق فيها باستسلام غريب عند الرجال!

يا سبحان الله! أبهذه البساطة تنعكس الآمال؟ وهل يمكن أن يغمر الإنسان كل هذا الخير فلا يلقى إلا كل هذا الشر؟! وماذا يكون من أمر زوجتي إذا أنا هفوت حقيقة كما قد يهفو الإنسان ما دام أنه ليس بمبرأ ولا معصوم!؟ وما فضل الحب إذا لم تكن دولة الحلم فيه غالبة على دولة الجهل، وساحة الغفران فيه أرحب من ساحة القصاص!؟

منذ ذلك اليوم بدأت أشعر بصعوبة قيامي بتعهداتي التي كنت عاهدت نفسي عليها من الاحتفاظ بهدوء الجو في بيتي وبصفاء العلاقات التي تقوم فيه. وأدركت أن الزوج مهما سعى لرفع مستوى حياته الزوجية إلى درجة مناسبة من السعادة فإنه لن يوفق إلى شيء من ذلك ما دام مبدأ الزوجة هو أن تتهم زوجها قبل أن تستمع إليه، وتحكم عليه قبل أن تحاكمه! وعرفت أن الزواج الموفق هو الذي يجمع بين (صديقين) يتحابان في الله ويدخل كلاهما هذه الشركة العاطفية بذخيرة صالحة من التسامح وبعقيدة ثابتة في أن الهفوة الزوجية ينميها العقاب ويؤكدها الانتقام - وتقتلها المغفرة ويمحو أثرها الصفح الجميل، وأن (المثل الأعلى) سواء للزوج أو للزوجة لم يتم خلقه بعد فلا ينبغي لأحد الزوجين أن يطالب زوجه بأن يكونه!

(زوج سعيد)