مجلة الرسالة/العدد 167/نهضة المرأة المصرية

مجلة الرسالة/العدد 167/نهضة المرأة المصرية

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 09 - 1936


2 - نهضة المرأة المصرية

وكيف توجه للخير العام

للأستاذ فلكس فارس

نحن في الشرق، وما أعني سوى الشرق العربي، مجلي ثقافتنا وقوميتنا، لا يهمنا سوى إيجاد الطفل، ولم نزل مسيرين بعقلية القبائل الغازية فنطمح إلى إيجاد الأطفال دون مبالاة بما تؤثر منابتهم عليهم.

إن خير ما تستثمر به المرأة للخير العام إنما هو استثمارها أطفالاً يصلحون لتكوين الأمة القوية أجساماً والسليمة عقولاً، وما النهضة المتجلية بين العدد القليل من بنات الشرق بالنهضة التي يصح أن نراها نهضة عامة متغلغلة في قلب الشعب نفسه؛ فالمجتمع لم يزل في الشرق العربي بأسره يتبع الإفراط والتفريط في تكوين الأسرة، فالمرأة عندنا اثنتان: ضحية استبداد الرجل، وضحية الضلال والغرور بنفسها لضعف الرجل إزاءها.

ليس لنا إلا إلقاء نظرة على ما حولنا ليأخذ بصرنا مشهدين هما مقتل الأمة وعلة دمارها.

المشهد الأول: شاب يفتش عن فتاة لتكون أماً لبنيه، قيل له إن في إحدى الأسر الشريفة فتاة بيضاء اللون أو سمراء، واسعة الأحداق طويلة القامة فاتنة ساحرة فسعى في أثرها متوسلاً إلى أهلها بكفاءته، فأصبح زوجاً للمجهولة، نكرة ضمت إلى نكرة. . . . فلا يطول الزمن حتى يظهر التنافر الخفي الكامن في الفطرتين فتبدأ المآسي التي تختتم على الأغلب بإهداء المجتمع أطفالاً تيتموا وآباؤهم وأمهاتهم لا يزالون على قيد الحياة. وهنالك الأسر المتعددة لرجل واحد امتنع عليه العدل المشروط فأهدى المجتمع الأخوة الأعداء، وما يبر بأبيه من كان لأخيه عدواً. . .

المشهد الثاني: فتاة في ربيع الحياة، مقصومة الشعر، غلامية تصادر وتباطن أي رجل كان، مهتوكة الستر، محولة هيكل الإنسانية إلى مهبط غواية وطيش، إن لم يتجاوز عدد مراقصيها المئات، عدت مقصرة في ميدان الثقافة، متأخرة في حلبة الحضارة والارتقاء، لا يصل قلبها إلى من تقف عنده وتختاره زوجاً لماله أو لجاهه إلا بعد أن يكون هذا القلب قد تقطعت أعشاره خفوقاً، فهي إذ ذاك كالنعجة التائهة راجعة إلى حظيرتها بعد أن تركت قطعاً من صوفها، وقد تكون تركت قطرات من دمها على أشواك الطريق. . .

هي في بيت الزوج لنفسها أولاً، وكل غيرة تبدو منه إنما تتجلى لديها كفراً بالتمدن وتقهقراً معيباً، تعودت أوتار قلبها أن تشد جواباً لكل قرار، فهي تدفع بالإيقاع الموقت مرافقة رنين أي وتر وتستعذب نغماته، روحها شاردة مضللة، فهي منبت أطفال يأتون الحياة مروعين، في أعصابهم تشوش، وفي أدمغتهم اختلال. . .

هذه خطوط كبرى لرسوم تمر مشاهدها أمامنا كل يوم في هذه البلاد الشرقية، وهذه المشاهد هي مركز العلة فينا ومصدر كل ما نشكو من تأخر وانحطاط.

إن سيادة الرجل على المرأة لا تعني قتل الحوافز الطبيعية لتضليل الانتخاب الخفي وفيه سر تحسين الأنسال، كما أنه لا يعني استضعاف الرجل أمامها لتجعل نفسها ملهاة وألعوبة بين أيدي الفاحشين من الرجال.

لقد أدخلت مدنية الفرس على الحضارة العربية بدعاً لابد من التحرر منها، وجاءت المدنية الغربية تستهوي مجتمعنا بما اتضح زيفه لدى مفكري الغرب أنفسهم لخروجه عن المحور الطبيعي للحياة، وهذا الذي يراه أنصار الطفرة خليقاً بالإعجاب من حرية المرأة، المتطرفة، إن هو في نظرنا إلا عنوان عبوديتها وذل الرجل المتساهل فيها.

إن آدم وحواء أخرجا من الجنة وكل منهما حامل ناموس حياته، وسواء أكان ما جاء في التوراة تاريخاً حقيقاً للمؤمنين أم كان أسطورة خيالية لغيرهم، فإن المفكر ليجد فيه النظام الذي لا تستقر الإنسانية على سواه.

لقد تمردت المرأة في العالم الحديث على وظيفتها الطبيعية وصاح كثيرات من الكاتبات في وجه الدنيا قائلات: لا نريد أن يحسبنا الرجل آلة للاستيلاد، نحن مساويات له في مجال التفكير والعمل. وكهربت هذه الكلمات أعصاب العدد الأوفر من النساء فتمردن على الأمومة واندفعن مطالبات بالعمل الحر استناداً إلى مبدأ الشخصية قبل النوع؛ وهكذا نشأ العراك بين الرجل والمرأة في ميدان الأعمال وفي مجال الحقوق والواجبات.

إن الطبيعة نفسها قد قسمت العمل بين الرجل والمرأة فألصقت كفه بالمحراث وألصقت صدرها بالمهد. فحسبت المرأة أن في موضعها كل العبودية، وخيل لها أن في مركض جهود الرجل كل الحرية، فسلخت صدرها عن مستقر الطفل واندفعت إلى المحراث، فتعطل الحرث العميق في الأرض منابت القوت، وساد الظلام على البيت منابت الأطفال.

إننا نسمع المعترضات يصرخن قائلات: إننا لا ننازع الفلاح محراثه، بل ننازع الرجل حقنا في الاشتراك في الأعمال التي تقوم المدنية عليها؛ نريد التغلغل في دوائر الحكم والإدارات والمصالح فإن الله لم يحرمنا القوة الفكرية التي جاد بمثلها على الرجل. ونحن نجيب السيدات بحقيقة إن أنكرها العاملات منهن كنّ كاذبات مكابرات، فنقول وهل هذه الأعمال على اختلاف مظاهرها سوى محراث يحتك بالأرض القاسية وهو يرتوي بعرق العبودية والشقاء؟ أليس الرجل في الحكم والإدارة والتجارة والصناعة مرتبطاً بمحراث العبودية لهذا التراب يعالجه لاستخراج الخبز بعرق الجبين؟ وهل الأم تملأ البيت نوراً وحكمة وشعراً مستندة إلى ذراع زوجها ومنحنية على سرير طفلها أقل مجداً أمام الحياة من أكبر رئيس لأعظم مصلحة من مصالح الشعوب؟

ليس في العالم رجل عامل، أيا كان عمله لا يخضع إرادته لمن فوقه ولمن حوله، بل ولمن دونه في مراتب الهيئات العاملة، فليس ما تتوهمه المرأة حرية في أعمال الرجال إلا عبودية لهم. على أنه إذا تسنى للرجل أن يحتفظ بشيء من الكرامة لنفسه في هذه العبودية، فإنه ليمتنع على المرأة ألا تصطدم في مواقفه بإهانات أخف منها أثقل ما يمكن أن يلحقها من القيمين عليها، آباء أو أخوة أو أزواج.

لقد كان حق المرأة في جميع العصور تابعاً لحق الرجل وهو يسود عليها، إلى أن طرأ على أوربا انقلابها المعروف في بداية القرن التاسع عشر، فنشأ في المجتمع حق جديد غريب في عناصره، هو حق المرأة منفصلاً عن حق الأسرة التي يرأسها الرجل، وهكذا شاهدت الشمس ما لم تشهد مثله في أي عصر من العصور الغابرة: شاهدت النوع البشري منشقاً إلى فريقين متناظرين يتناطحان في الميادين العامة، بعد أن كان هذا النوع لبشري إنساناً واحداً من جسدين مندغمين ينبثق من اندغامهما فجر الحياة.

أما منشأ هذا التطور فانقلاب خطير لم يصور فجائعه أحد كما صوره الشاعر الخالد الفرد دي ميسيه، فإذا ما اقتطفنا بعض عباراته لا نخرج عن دائرة الموضوع الذي نحاول الإلمام بأطرافه.

قال: (في إبان الحروب الإمبراطورية، بينما كان الآباء والأخوة في بلاد الألمان قذفت الأمهات المضطربات بسلالة شاحبة جاءت الوجود عنيفة مستعرة الأحشاء.

تلك سلالة تمخضت بها الحياة بين حربين، وربيت في المدارس على دوي الطبول، فكان إذ ذاك ألوف من الأولاد يحدج بعضهم البعض الآخر شزراً وهم يمرنون على القوة عضلاتهم الضعيفة، وكان الآباء الملطخون بالدم يلوحون للأبناء من حين إلى حين فيرفعونهم لحظة إلى صدورهم المحلاة بالذهب ثم يتركونهم إلى الأرض ويعودون ممتطين صهوات الجياد).

وبعد أن وصف ميسيه سقوط نابليون مدفوعاً بجناحي القدر إلى أغوار الأوقيانوس البعيد، قال:

(وجرت في مجتمعات باريس أمور مروّعة، إذ انشق الرجال عن النساء، فلبس النساء البياض كالعرائس، واتشح الرجال السواد كالأيتام، ووقفت الفئتان تحدج إحداهما الأخرى بنظرات العداء. انفصل الرجال عن النساء فتولد عن هذه الانفصال شيء أشبه بالنصل القاطع لا شفاء لجرحه، وما ذلك النصل إلا عاطفة الاحتقار.

فقد الرجل حبّ المرأة، فاندفع إلى الخمر ليستعيض عما فقد، ونظر الناس إلى الحب نظرهم إلى الدين كأن كليهما توهم واغترار، وغصت المواخير بالرجال فأصبحت الفتاة مهملة بعد أن كانت تغذي الشبيبة بحبها الطاهر السامي، وعندما احتاجت هذه الفتاة إلى غذاء ورداء باعت نفسها وبذلت عرضها لتعيش. إن الشاب الذي ترك الفتات وكان يمكنه أن يستنير وإياها بأنوار شمس الله، ذلك الشاب الذي كان في وسعه أن يقتسم مع حبيبته لقمة الخبز مبللة بعرق جبينه ويتمتع بحبها في فقره، أصبح مستفرشاً لدمن الإنسانية في مواخير الفسق حيث يتلاقى بالفتاة التي تركها وهي مثقلة بالأوصاب، شاحبة مضعضعة، يجول على فمها الجوع ويرعى قلبها التبذل والفساد. .).

(يتبع)

فلكس فارس