مجلة الرسالة/العدد 168/القصص

مجلة الرسالة/العدد 168/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 09 - 1936



قصص مختارة من الأدب التركي

النارُ المُوقَدَة. . .

لمحمود يساري بك

أثبتت مرفقيها فوق المنضدة، وأسندت رأسها بكفيها وعيناها السوداوان شاخصتان نحو نقطة مجهولة وهي تفكر، وكان نظرها الحاد يرسل شعاعاً زاد لمعانه سواد المقلتين ولون الكحل والحالك.

وها قد مضت بضع دقائق بدون أن تمس شفتاها هذا القدح البلوري وتذوق هذا الشراب السائغ.

لمَ كانت غارقة في بحر عميق من التفكير؟ وما الذي كانت تفكر فيه؟ وما عسى أن يدور في هذا الرأس المتوج بالشعر الأصفر المقصوص على آخر (مودة)؟ وهل هي كاذبة حتى تفكرها العميق يا ترى؟ وهل يحاول هذا الرأس أن يخدع نفسه أيضاً؟

نظرت إليها نظرة الفاحص المدقق، فوجدتها قد غيرت شكل حاجبيها بالنقوش والتخطيط الأسود فحرمته تلك الصورة الطبيعية التي صورها الخالق فيها. أما الحمرة التي تبدو على وجنتيها فلم تكن ذلكم اللون القرمزي الذي ابتدعته يد القدرة فيها، بل كانت مفعول الأصباغ، وأضاع هذا أيضاً شكله الطبيعي. ونظرت إلى شفتيها فإذا لونهما ليس ذلك اللون القاني الذي أودعته يد القدرة في شفتي حواء!. . ثم استمعت إلى حديثها فإذا صورتها ليس ذلك الصوت الملائكي الذي كانت تناجي به أمها وهي في المهد صبية، بل يكاد يكون خشناً من تأثير الخمر والسهر.

- فيم تفكرين؟

ظلت جالسة في مكانها لا تتحرك ولا تتململ ولم تجب على سؤالي هذا بغير أنة طويلة.

- أوه. . .

ولو كان بين ذرات الهواء بارود لأشعله هذا الشهيق الذي خرج من صدرها كما يشتعل الغاز إذ تمسه نار.

- إنك تتألمين هذه الليلة.

- إني أحب. . .

- أوَ تحبين أنت؟

وكانت لا تزال محافظة على هيئتها. .

- إنك لا تصدق ذلك، أليس كذلك؟

كانت جالسة معي كي أنعم عليها بثمن شرابها، وكنت أعرفها منذ أمدٍ بعيد. . . منذ صباها، ولم تنس أن تفاتحني ساعة أن اقتعدت مقعدها بجانبي بعزمها على الشرب بقولها:

- أريد أن أشرب اليوم.

ولم أرفض رجاءها هذا فأمرت لها بقدح من الشراب لا إكراماً لسواد عينيها ولا حباً بجمالها، بل شفقة عليها ورحمة بها، فلقد كنت أراها كئيبة حزينة هذه الأيام.

- ومن تحبين؟

فرفعت رأسها من بين يديها كمن أفاق من ذهول عميق وأجابت:

- إن من أحبه (نكرة).

وكأن سؤالي هذا قد أثار منها سراً دفيناً وهاج لها ذكرى أليمة حتى راحت تحرق الأرم وتهدد الهواء بقبضتها كمن يتوعد أحداً. . . فتفرست في وجهها ملياً.

فدمدمت بكلمات غامضة. . .

- لِمَ تتفرس في وجهي هكذا كأنك تعرفه؟ أو كأنك تقول لي بأنه (معلوم) لديك! إنه (أحد النكرات)!. فلا تتعب نفسك في معرفته سدى!

قالت ذلك وأنشبت أظافرها الحادة في خديها من فرط تأثرها وابتسمت ابتسامة الحزين طفح كأس اصطباره:

(هو أحد (النكرات) أما إنه لم يكن كذلك؟ فلأن هؤلاء (النكرات) يفهمون أقوالنا ويتكلمون مثلنا ويشعرون كما نشعر. ويرون كما نرى! أما أنتم! فإن تكلمنا معكم اضطررنا إلى أن نزن كلامنا كلمة كلمة وقلوبنا تخفق رعباً، خوفاً من أن تعثر ألسنتنا وتلفظ كلمة سهواً فنصبح أضحوكة في نظركم! وإذا تكلمتم أنتم أصغينا إليكم بكل حواسنا حتى نفهم ما تقولونه. . . وترانا نعمل المستحيل حتى لا نظهر أمامكم بمظهر الجاهل الغر والأحمق البليد! ولا أقول أنتم معشر (المهذبين) المثقفين - لا تحبوننا نحن معشر النساء، كلا فأنكم تحبوننا ولكنكم تريدون من (المرأة) أن يكون شعورها وعواطفها جميلة، مصبوغة، مزينة، رقيقة كوجهها وشفتيها وأظافرها! ولا تكلفون أنفسكم مشقة فهم المرأة، وإنما تريدون من المرأة أن تفهمكم!

- أو تحبين؟!

وكان صوتها اضطراباً كلما ازدادت حزناً

- (لقد أصبت في سؤالك هذا!

- وكيف أصبتُ في سؤالي؟

- لأنك عنيت به الحقيقة. . أيمكن أن أحبّ أنا، أو نحب نحن؟ حقاً أنحب نحن؟ أو تصدق أنت ذلك؟ لقد سألت نفسي مراراً. . فلقد تمرّ من أدمغتنا أفكار عوجاء وهوجاء، وترينا الأيام حوادث عصيبة رهيبة تدك أعصابنا دكا فتجعلها واهنة القوى ضعيفة التفكير معدومة المقاومة تفقد معها خاصة التفريق بين الشعور الذي نشعر به من صميم القلب، وبين الإحساس الذي نحس به لمجرد اللهو والعبث، وفي أيهما نحن صادقون. . . ومن ثم أنتم!. . . آه منكم!! قالت ذلك وصرت أسنانها وضربت الأرض بقدميها كمن يحاول أن يسحق شيئاً سحقاً، أو يقطعه إرباً إرباً. نحن نخدعكم ما دمتم على وجه البسيطة ونسيء إليكم دواماً. أليس كذلك؟ ولكن ماذا تقولون في الإساءة التي تسيئون إلينا بها أنتم معشر الرجال؟

أكبر الإساءة التي تُرتكب نحونا هي إساءتكم. . نصدُق لكم قولاً وفعلاً فلا تثقون فينا! وإذا ما أحببناكم فلا تصدقوننا! نقسم لكم الأيمان المغلظة فلا تؤمنون بنا!! وتشتبهون حتى في طعامنا وشرابنا! والشبهة مرض يسري أيضاً وينشب أظفاره فينا، ونأخذ نشتبه حتى في أنفسنا فنحب، فتأتي الشبهة على بالنا فتحملنا على الشك في حبنا هذا! وتنغص منا العيش. . وتتسع دائرة الشبهة هذه فلا نثق حتى في أنفسنا!

تحسبون أننا نحب من أجل المال. أو يظهر أننا نحب من أجل المال! وأضرب لك مثلاً. . أنا ذلك المثال. فأنا أيضاً امرأة أحب من أجل المال، أليس كذلك؟

قالت ذلك وتوقفت عن الكلام ومدت يدها إلى القدح الذي كان أمامها فشربته إلى الثمالة.

لم يصدقوا أنني أحب حقاً. . . وهذا الرجل الذي أحبه أيضاً يعطيني كل ما يربحه من عمله وأرد له عطاءه. فيصرّ هو أيضاً. . . يظن أنني ما أحببته إلا من أجل المال! هو أيضاً. . . هو أيضاً. . .

وكانت أكتافها تهتز من شدة انفعالها.

حيث أننا لا نحب. . وأن قلوبنا قدت من صخر. . أو أنها لا تعرف للصدق معنى وحبنا كاذب. . وأن أساسنا كاذب. . .).

وكانت عيناها تنظران نحو الباب. . وما كادت تلفظ الكلمة الأخيرة من كلامها حتى هبت مذعورة تطلب مني السماح لها بالذهاب.

- أستميحك عذراً، هاهو قد جاء. قالت ذلك ومدت يدها تصافحني وعيناها شاخصتان نحوه، فودعتها وأنا أنظر إلى القادم أتفحصه. . نظرت ملياً فرأيت (الخطاط) الأسود قد كسا حاجبيها لوناً غير اللون الطبيعي، ولعب (المنقاش) فيه فأضاع بلعبه ذلك الشكل الطبيعي الإلهي. . .

وهذا اللون القرمزي الذي يعلو خديها ليس ذلك اللون الذي أودعه الله في الوجنات. . .

ونظرت إلى شفتيها فما رأيت فيهما تلك الحمرة الطبيعية التي تحاكي الدم القاني. . واستمعت إلى صوتها فإذا به قد فقد حلاوته، وليس بذلك الصوت الملائكي الساحر الذي كانت تنادي به أمها وهي في المهد.

وشيء واحد لم يتغير فيها، ذلك هو عيناها!. . .

لقد كانت عيناها تشتعلان بنار الحرص كما اشتعلت عينا حواء حينما نظرت إلى آدم لأول مرة. .

محمود يساري