مجلة الرسالة/العدد 168/جامعة الإسكندرية

مجلة الرسالة/العدد 168/جامعة الإسكندرية

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 09 - 1936


2 - جامعة الإسكندرية

بقلم الأديب إبراهيم جمعة

علماء الجامعة في عصرها الأول - فليتاس القوصي - زنودوتس - زيارة ميناندر الأثيني وافتتاح مسرح الإسكندرية - اكتشاف فيلون للبحر الأبيض الجنوبي - دراسة مانيتو وتيموثيوس وهيكتاتس للعقائد المصرية القديمة - اقليدس وهيروفيلوس - سوتر يكلف بالدراسة والتصنيف آخر الأمر - قيمة كتاباته - الفن - أخذ الإيطاليين عن الإسكندريين.

يميل الباحثون الألمان إلى نسبة هذه الجمهرة من العلماء إلى بطليموس الأول المعروف باسم بطليموس سوتر، وهو الذي يعتبره (سسميل) صاحب الفضل الأوفى في خلق حركة فكرية أدبية علمية في الإسكندرية قام هو بحمايتها، وترأس مجالسها، وأصغى إلى المناقشات الشديدة الاحتدام التي خلت في بعض الأحايين من الفائدة العلمية، فأصبح جدلاً شخصياً لا طائل تحته.

عهد بطليموس سوتر بتربية ابنه (فيلادلف) إلى عالم ذاع صيته في ذلك العصر هو فليتاس القوصي، وهو شاعر ينسب إليه أول مجهود أدبي عرفته الإسكندرية في الشعر الرثائي، بل أول مجهود عرفه العالم أجمع من هذا النوع من الشعر، وهو إلى هذا من أشهر علماء اللغة الإغريقية الذين صنفوا فيها، ووضعوا لها موسوعة كبرى حوت كل مصطلحاتها.

هذا وقد تابع زنودوتس البيزنطي التأليف والتصنيف في قواعد الإغريقية، وقام بجهد يشكر في مراجعة مخلفات (هوميروس).

ويحتمل أن يكون بطليموس سوتر هو المؤسس لمسرح الإسكندرية، وأن تكون دعوته (لميناندر الأثيني) بقصد حضور حفلة افتتاح المسرح الكبير وشهود بعض رواياته التي وضعها في أثينا تمثل في الإسكندرية؛ وقد كانت زيارة ميناندر للإسكندرية تطويقاً لجيد الجامعة بأثمن درر العصر، واعترافاً بالمكانة الناشئة والنجاح الظاهر الذي صحب جهود البطالسة الأوائل في توفير جو علمي من الطراز الأول لمدينتهم الجديدة.

ووكل سوتر إلى أمير البحر (فيلون) أمر التجوال في البحر الأحمر قصد الوصول إلى أطرافه الجنوبية؛ وقد وفق هذا إلى اكتشاف البحر الأحمر الجنوبي، وكان لهذا الاكتشاف أثره في عصر بطليموس فيلادلف ومن خلفه في التجارة وفي تزويد الجامعة بأبحاث عظيمة القيمة سنأتي على ذكرها في موضعها - كما عهد سوتر أيضاً إلى هيكتاتيس الأبديري، ومانيثو، وتيموثيوس أمر دراسة (الميثولوجيا) المصرية القديمة، ابتغاء تزويد الإمبراطورية البطليموسية الناشئة بما يحتاج إليه كيانها من العقائد.

والحقيقة أن كل هذه الجهود هي دون ما بلغته جامعة الإسكندرية في هذا العصر من التفوق في الهندسة على يد أستاذها الأكبر (اقليدس الإسكندري) وفي التشريح على يد أستاذه الفذ (هيروفيلوس).

وإقليدس أشهر معلمي هذا العصر إطلاقاً، وهو أبو الهندسة كما يقولون، مؤسس مذهب البحث العلمي؛ وكتابه (الأصول) أنماط في صميم المنطق أكثر منها موضوعات في الرياضة، وإليه يرجع الفضل في جعل عصر سيده بطليموس سوتر عصر تفوق رياضي عظيم الشأن، كان ولا يزال له أثره في تقدم العلم والعقل البشري.

وكان (هيروفيلوس) أبا للتشريح، كما كان (أبقراط) اليوناني أبا للطب من قبل، وبفضل هيروفيلوس سجل التاريخ لمصر السبق في دراسة (الأمعاء) دراسة دقيقة، وكانت الحكومة تمده بالمجرمين المقضي عليهم بعقوبة الإعدام ليجري فيهم تجاربه - كما أمدته حظيرة الحيوان الملحقة بالمتحف بأنواع من الحيوان شرحها ودرسها واستنبط من كل ذلك طريقة علمية للتشريح ساعدت بدورها على رفع شأن الإسكندرية في العلوم الطبية.

وتآزرت جهود هذا العالم وجهود إقليدس على خلق مكانة للإسكندرية ظلت مقترنة باسم المتحف الإسكندري حتى وقتنا هذا.

ويجدر بنا أن نذكر أنه بينما كان الإسكندريون مشغوفين بمباحث العلم البحت في الرياضة والطب وما شاكلهما، كان الأثينيون مشغولين بدراسة الفلسفة من رواقية وأبيقورية، أما اشتغال الإسكندرية بالفلسفة فقد جاء متأخراً حين أسس فلاسفتها مذاهبها الخاصة التي أشهرها الأفلاطونية الحديثة وسنعرض لها في بحثنا هذا بكثير من التفصيل.

كانت لبطليموس سوتر شواغل سياسية إلى جانب انهماكه في رفع شأن الإسكندرية، وأهم تلك الشواغل منافسته لديمتريوس ملك مقدونية، لانتزاع السلطة البحرية على البحر الأبيض الشرقي من يده، وما لبث حتى انتزع قبرص من الملك المقدوني وجعلها مركزاً لأسطوله، وغدت له بهذا سيطرة غير منازعة على المياه الشرقية من البحر الأبيض. وكان من شواغله أيضاً رغبته الملحة في نقل جثمان سيده (الإسكندر) إلى مصر، ابتغاء الفخر بحيازة جثمان العاهل العظيم، ولم يهدأ لسوتر بال حتى تم له ذلك، وبهذا خلا نهائياً من مشاغله الخارجية، وخصص كل عنايته بعد ذلك للمكتبة والمتحف اللذين نالا من ماله وانتباهه الشيء الكبير. ومن أمره أنه شغف مع المشغوفين بالدراسة والتصنيف؛ ومن المعروف عنه أنه وضع مصنفاً في حروب الإسكندر الأكبر التي ساهم فيها كأحد قوادها. ويصف (أريان) مؤلَّف سوتر بأنه من أدق المراجع وأوفاها في هذا الشأن، ويضعه في رأس كتب المراجع التي صدر عنها تاريخه، وقد يكون هذا حقاً، كما قد يكون ملقاً للملك المؤلف.

والمذكرات الخاصة التي يضعها القواد عن أعمالهم في الحروب يغلب عليها المبالغة، وحسن تقدير تلك الأعمال وتعظيم نتائجها مما قد يكون إغراقاً وتورطاً في الباطل، وهي لهذا لا يصح أن تتخذ سنداً من أسانيد التاريخ إلا بكثير من الحيطة والحذر. وينسب إلى نابليون الأول شيء من هذا في مذكراته التي كتبها عن نفسه، ولم يتحرر يوليوس قيصر من مثل ما ينسب إلى نابليون في مذكراته عن (الحرب الغالية).

ويذكرون أن سوتر كتب أيضاً عدة رسائل عن الشؤون العامة في عصره نشرها (ديونيسودورس) أحد تلاميذ (أرستاكاس) العالم الإسكندري، يؤسفنا أننا لم نعثر على شيء منها حتى الآن.

وفي أواخر أيام سوتر كان لا بد له من تسوية مسألة وراثة العرش، إذ كان له أكثر من وريث، وكان أكثر هؤلاء الوراث خطراً على العرش البطليموسي (بطليموس) ابن له من يونانية، أحذ ديمتريوس ملك مقدونية الموتور يشد أزره ويناصره على بطليموس (فيلادلف). وكان النزاع بين هذين الوريثين نزاعاً بين روحين مختلفتين: روح مصرية، وروح يونانية؛ وكان انتصار إحداهما على الأخرى انتصاراً لإحدى الروحين، وتحديداً لمستقبل البلاد. وكان ميل الملك الأب مع أبنه فيلادلف، وكان هوى الشعب مع الأخير إذكاء للروح القومية الجديدة التي بدأها وارث ملك الإسكندر في مصر سوتر العظيم، وإنهاضاً لمدينة هلينية الأصل حقاً، ولكنها من حق الإسكندرية، ومن جهدها وإحيائها. كان الملك الأول يأنس في الملك الابن فيلادلف سياسة مشابهة لسياسته، أساسها المحافظة على الصبغة المشتركة التي جمعت بين اليونانية الهلينية والمصرية الفرعونية، والتي حرص البطالسة على التمسك بها كأساس لملكهم الجديد، لا مناص منه، إبقاء على دولتهم من أن تبيد.

والذي يتأمل كيف عنى سوتر بتربية ابنه فيلادلف على أيدي خير الأساتذة، يرى كيف كان يحرص على أن ينتهي ملكه إلى هذا الوريث دون سواه، وقد كان أن نزل سوتر لابنه فيلادلف عن العرش، ولكنه ظل يظهر في بلاط ابنه مدة عامين كأحد الرعايا، ومات عام 283 ق. م مخلفاً على الزمن سجلاً حافلاً بالحوادث الجسام قَلَّ أن تتوفر لحاكم.

استطاع سوتر أن يركز دراسة العلوم والآداب والفلسفة والطب في عاصمة ملكه، ولكن هل استطاع أن يجعل الإسكندرية كعبة الفنون في هذا العصر؟

إذا كان لنا أن نحكم بالشواهد التي بين أيدينا وهي تلك النقوش البديعة التي ترى فوق العملة المتخلفة عن هذا العصر في دور العاديات، لما تأخرنا عن الحكم قطعاً بتقدم الفن في ذلك العصر؛ غير أنه لا يجب أن يغيب عن بالنا ونحن في هذا الصدد أن الفن الإغريقي كان عليه أن يغالب فناً من أقوى الفنون التي عرفها تاريخ العمارة هو الفن الفرعوني. والمشاهد بوجه عام أن المباني التي أقامها البطالسة خارج الإسكندرية روعي فيها أن تكون فرعونية الصبغة، ولكنها لم تخل من التأثر بالفن الإغريقي؛ ولم يكن للبطالسة من ذلك مناص، تشبهاً بالفراعنة وإرضاء لذوق الشعب المصري الذي لم تنسه الأحداث السياسية قوميته، ولم يمجد على مرور الزمن أبطالاً غير أبطاله، ولم يعرف عنه أنه أسلم القياد كله للمدنية الدخيلة، ولاسيما للجانب الديني منها، بل بقي محافظاً على دين أجداده محافظة تامة. لهذا ظلت المباني ذات الصبغة الدينية على النمط الفرعوني.

تأثر البطالسة بالديانة المصرية أكثر مما تأثر المصريون بالفن الإغريقي، ولذلك بقيت الصبغة المصرية كما أسلفنا ظاهرة في الفن الذي عرف عن العصر البطليموسي، إلا في الإسكندرية ذاتها، حيث كان كل شيء يونانياً صرفاً؛ فأقيم في الإسكندرية في هذا العصر المتحف والملعب والمسرح والسينما حيث دفن الإسكندر، وكانت كلها من غير جدال آية في إبداع الصنعة الإغريقية، رغم ما يحاول البعض إشاعته من تأخر الفن في هذه الفترة من الزمن.

والأدلة المادية على تقدم الفن الإغريقي في مصر في هذا الزمن ما أبدعته يد نحات لتابوت من الرخام البديع الصنع ما يزال محفوظاً في متحف القسطنطينية لملك مجهول الاسم من ملوك صيدا، هو تحفة من تحف الحفر وحذق الألوان، وتلك المشاهد التاريخية التي ترى محفورة على الأحجار تمثل المعارك بين الفرس والإغريق، إلى تلك الصور الرمزية التي قصد بها الإشارة إلى امتزاج الشرق والغرب عن طريق الحضارة الإغريقية، إلى مناظر الصيد وغير ذلك مما لا يفوقه سوى (البارثنون) في أثينا.

وأغلب الظن أن الإسكندرية بما توفر لها من سمو المكانة لا بد أن تكون قد استهوت أمهر البناءين، ورجال الفنون حيث بلاط سوتر وفيلادلف وعطاؤهما المغدق لكل من برز في ناحية من النواحي؛ ولا شك أن الإسكندرية عروس البحر الأبيض المتوسط لم تكن إلا من خلق هؤلاء الفنانين وإبداعهم.

وقد كتب م. شريبر مقالاً ممتعاً عن فن نشأ بالإسكندرية وتقدم فيها، وانفردت به، هو صناعة الأواني الذهبية والفضية التي تتخذ عادة مقياساً لتقدم الحرف اليدوية، والتي لا تزال شاهدة على قولنا بين محتويات دور الآثار. ويحاول هو أن يثبت أن الإسكندريين كانوا الأساتذة في هذا المضمار وفي غيره. ففي رأيه أن أسلاف (بنفنتو سليني) الإيطالي، والمدرسة الإيطالية التي زعيمها هذا الأخير حاكت فن الإسكندرية في الشعر والفن. وهو يدلل بقوة على حب الإسكندريين للطبيعة وتقديرهم لروائعها، وعلى أن الإسكندرية كانت حلقة الاتصال بين العلم والفن، وبين القديم والحديث، وبين الشرق والغرب. . . الخ.

ليس الفن في ذاته ناحية من نواحي نشاط جامعة الإسكندرية، ولا هو عادة يتصل بالدراسة الجامعية اتصالاً مباشراً، ولكنا سقنا هذه الكلمة القصيرة عن الفن الإغريقي الإسكندري، لأنه جانب من جوانب المدنية، كان يستلزم من الإسكندريين ولا شك إلماماً بالأصول الهندسية التي لا غنى لفن العمارة عنها. ونحن وإن كنا لم نحصل على ما نقطع الرأي به من أن الهندسة التي اشتهرت بها الإسكندرية منذ عهد اقليدس كانت تطبق ويستفاد منها عملياً في فن العمارة، إلا أننا نرجح إمكان استفادة الفن من هندسة إقليدس استفادة كبرى.

ولنا في بعض مقالاتنا التالية عود إلى نقل إيطاليا وخاصة جامعة (بدوا) في العصور الوسطى عن جامعة الإسكندرية نظامها والكثير من تراثها الفكري حيث شاع منها إلى أوربا من قطر إلى قطر ومن عصر إلى عصر.

(حقوق النقل محفوظة لصاحب المقال)

إبراهيم جمعة