مجلة الرسالة/العدد 169/الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية

مجلة الرسالة/العدد 169/الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية

مجلة الرسالة - العدد 169
الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية
ملاحظات: بتاريخ: 28 - 09 - 1936



للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

- 3 -

تمتاز فلسفة الفارابي بظاهرتين رئيسيتين: نزعة روحية نامية، واتجاه صوفي واضح. والمذهب الروحي والتصوف يقتربان في الواقع ويتلاقيان في نواح كثيرة. وهاتان الظاهرتان تبدوان لدى فلاسفة الإسلام بدرجات مختلفة. وقد نفذ التصوف الفارابي على الخصوص إلى أعماق المدرسة الفلسفية العربية وأثر في صوفية المسلمين بوجه عام. ولم يقف أثره عند القرون الوسطى، بل تعداها إلى التاريخ الحديث. وبما أنا أسلفنا القول في شرح نظرية السعادة الفارابية وبيان مصادرها الأرسطية والأفلوطينية فأنه يجدر بنا الآن أن نلقي نظرة على الأثر الذي أحدثته فيمن جاء بعد الفارابي من فلاسفة ومفكرين؛ وكي تكون هذه النظرة مستوفاة يحسن أن نبين من جانب إلى أي حد تأثر كبار فلاسفة الإسلام بآراء الفارابي التصوفية، كما تأثروا بأبحاثه الأخرى؛ ومن جانب آخر ينبغي أن نحدد العلاقة بين هذا التصوف الفلسفي وما ذهب إليه صوفية المسلمين المتأخرون. وحبذا لو استطعنا أخيراً أن نوازن بين نظرية السعادة الفارابية وبعض الأفكار الصوفية التي اعتنقتها طائفة من الفلاسفة المحدثين. وبالجملة سنتابع هذه النظرية في خطواتها المتتالية إلى أن نسلمها إلى العصور الحديثة، وسنحاول عرض صورة مختصرة لتاريخها العام.

إذا كان في فلاسفة الإسلام من يصح أن نسميه تلميذ الفارابي وخليفته الأعظم فهو بلا جدال ابن سينا. حقا إن التلميذ عدا على الأستاذ وأخفى اسمه وانتزع مكانته وقضى على شهرته، وأصبحنا ونحن نعزو إلى ابن سينا آراء وأفكاراً هي في الحقيقة من صنع الفارابي وابتكاره؛ بيد أن الأول يعترف للثاني بأياديه عليه، ويقر له بالسبق والأولوية، ويدين له بالخضوع والأستاذية. ولقد بلغ من تعلق ابن سينا بنظريات أستاذه أن بذل كل مجهود في تفهمها وأفاض في شرحها وتوضيحها بحيث منحها نفوذا وسلطاناً لم تنله على يدي صاحبها ومبتكرها. ورب فكرة فارابية غامضة مبهمة تبدو لدى ابن سينا، وهو صناع اليدين، في ثوب قشيب ومظهر خلاب. وإذا كان ابن رشد هو شارح أرسطو غير منازع في الفلسفة المدرسية، فإن ابن سينا هو شارح الفارابي الماهر في الفلسفة الإسلامية. وقد يؤخذ ع أحياناً أنا نحاول تحليل أفكار الفارابي على ضوء ما كتب ابن سينا، إلا أن الرجلين في رأينا متضافران ومتكاملان، يوضح كل واحد منهما صاحبه ويتممه. ولئن كان للفارابي فضل السبق، فلابن سينا فضل البيان والإيضاح. ومن ذا الذي يدعي أن في مقدوره دراسة أرسطو دراسة كاملة دون الرجوع إلى شراحه من المشائين وغيرهم؟ ولو احتفظ لنا الدهر بكل ما كتب الفارابي فلعلنا لم نستعن دائماً على تفهمه بمؤلفات أتباعه؛ فأما وما وصل إلينا من كتبه نزر يسير، فنحن مضطرون إلى توضيح غامضه بمختلف الوسائل. على أن المؤرخ الذي يعنيه أن يبين كيف نشأت فكرة ما، يلزمه كذلك أن يوضح كيف نمت وتطورت.

اعتنق ابن سينا مختلف آراء الفارابي التصوفية وتولاها بالشرح والدرس في رسائل متعددة نخص بالذكر منها كتاب الإشارات والتنبيهات، وهذا الكتاب بين المؤلفات السينوية (نسبة إلى ابن سينا) يتيمة العقد وجوهرة التاج الثمينة وثمرة النضوج الكامل. يمتاز بسمو أسلوبه وعمق أفكاره وتعبيره عن آراء ابن سينا الخالصة التي لا تشوبها نظريات المدارس الأخرى. وقد وقف صاحبه الجزء الأخير منه على الأبحاث التصوفية، ويقع في نحو خمسين صفحة تعد من أحسن ما خلفته المدرسة الفلسفية الإسلامية في هذا الباب. فقد أخذ ابن سينا على حسب عادته أفكار الفارابي وفصل القول فيها وعرضها عرضاً مسهباً مرتباً. فهو يحدثنا عن (التجريد) و (البهجة والسعادة) و (مقامات العارفين) و (أسرار الآيات) ويشرح نظرية الاتصال شرحاً مستفيضاً. وهذا هو القدر لذي جمعه وترجمه مهرن إلى الفرنسية ونشره تحت عنوان: ' وهاكم نموذجاً من حديث ابن سينا العذب ولغته السامية التي تترجم عن معان سبقه بها الفارابي يقول: (إن للعارفين مقامات ودرجات يخصون بها في حياتهم الدنيا دون غيرهم. فكأنهم في جلاليب من أبدانهم قد نضوها وتجردوا عنها إلى عالم القدس. ولهم أمور خفية فيهم، وأمور ظاهرة عنهم، يستنكرها من ينكرها، ويستكبرها من يعرفها، ونحن نقصها عليك. . . العارف يريد الحق الأول لا لشيء غيره ولا يؤثر شيئاً على عرفانه، وتعبده له فقط؛ لأنه مستحق للعبادة ولأنها نسبة شريفة إليه، لا لرغبة أو رهبة. . . العارف هشّ بشّ بسّام يبجل الصغير من تواضعه مثل ما يبجل الكبير، وينبسط من الخامل ما ينبسط من النبيه. وكيف لا يهش وهو فرحان بالحق وبكل شيء فأنه يرى فيه الحق. وكيف لا يسوي والجميع عنده سواسية؟. . العارف لا يعنيه التجسس والتحسس، ولا يستهويه الغضب عند مشاهدة المنكر كما تعتريه الرحمة فإنه مستبصر بسر الله في القدر. وإذا أمر بالمعروف أمر برفق ناصح لا بعنف مُعَير. وإذا جسم المعروف فربما غار عليه من غير أهله. العارف شجاع، وكيف لا وهو بمعزل عن تقية الموت؟ وجواد، وكيف لا وهو بمعزل عن محبة الباطل؟ وصفَّاح، وكيف لا ونفسه أهون من أن تحرجها زلة بشر؟ ونساء للأحقاد، وكيف لا وذكره مشغول بالحق).

يصف ابن سينا كأستاذه المراحل التي تقود المرء إلى السعادة ويتكلم عن الزهد والعبادة، ثم عن العرفان الذي هو السعادة الحق. (فالمعرض عن متاع الدنيا وطيباتها يخص باسم الزاهد، والمواظب على نفل العبادات من القيام والصيام ونحوهما يخص باسم العابد، والمنصرف بفكره إلى قدس الجبروت مستديما لشروق نور الحق في سره يخص باسم العارف). وليست السعادة مجرد لذة جسيمة، بل هي غبطة روحية وسمو معنوي واتصال بالعالم العلوي؛ هي عشق وشوق مستمران، وما العشق الحقيقي إلا الابتهاج بتصور حضرة الحق؛ وما الشوق إلا الرغبة الدائمة في كمال هذا الابتهاج. (والنفوس البشرية إذا نالت الغبطة العليا في حياتها الدنيا كان أجل أحوالها أن تبقى عاشقة مشتاقة لا تخلص من علاقة الشوق، اللهم إلا في الحياة الأخرى. وتتلو هذه النفوس نفوس بشرية مترددة بين جهتي الربوبية والسفالة على درجاتها، ثم تتلوها النفوس المغموسة في عالم الطبيعة المنحوسة، التي لا مفاصل لرقابها المنكوسة). والوسيلة الأولى والرئيسية لإدراك السعادة هي الدراسة والبحث والنظر والتأمل. وأما الأعمال البدنية والحركات الجسمية ففي المرتبة الثانية، ولا يمكن أن تحل محل التهذيب الفكري والرقي العقلي بحال.

قد يخيل للقارئ بعد هذا التحليل أن ابن سينا أميل من أستاذه إلى متصوفة القرن العاشر أمثال الجنيد والحلاج. ولا سيما وكتاباته مملوءة بمصطلحات الصوفية وألفاظهم الفنية. فهو يردد كلمة الزهد والوجد والقوت، ويبين حقيقة المريد والعارف والعابد، ويحلل بعض العواطف النفسية كالعشق والشوق التي شغلت كبار متصوفي المسلمين. غير أنه على الرغم من كل هذا لا يزال ابن سينا وفياً لأستاذه في نظرياته التصوفية كما وفي له في كل مذهبه الفلسفي، ولا أدل على هذا من إعراضه عن فكرة الاتحاد التي زعمها الجنيد والحلاج ونقده نقداً فيه دقة وتعمق. فهو يرى أن غاية السعادة ليست إلا مجرد اتصال بين العبد وربه يحظى فيه الإنسان بضرب من الإشراق لا يصدران عن الله مباشرة، بل بواسطة العقل الفعال. وأما الاتحاد المزعوم الذي يقضي بأن يندمج الخلق في الخالق فغير مقبول عقلاً، لأنه يستلزم أن يكون الشيء واحداً ومتعدداً في آن واحد. ذلك لأنا لا نقبل أن نعد العقل الفعال فرداً واحداً في الوقت الذي نقرر فيه أنه محتو على كل النفوس الواصلة، كما لا نستطيع أن نسلم بفردية العارف في حين أنا نعترف باشتماله على حقيقة أخرى خارجة عنه. وانظر كيف يصوغ ابن سينا هذا الدليل. (قد يقولون إن النفس الناطقة إذا عقلت شيئاً فإنما تعقل ذلك الشيء باتصالها بالعقل الفعال وهذا حق. قالوا واتصالها بالعقل الفعال هو أن تصير هي نفس العقل الفعال، لأنها تصير العقل المستفاد، والعقل الفعال هو نفسه يتصل بالنفس فيكون العقل المستفاد، وهؤلاء بين أن يجعلوا العقل الفعال متجزئاً قد يتصل منه شيء دون شيء، أو يجعلوه متصلاً بكليته بحيث يصير النفس كاملة واصلة إلى كل معقول (وكلا الغرضين باطل)، على أن الإحالة في قولهم إن النفس الناطقة هي العقل المستفاد حينما يتصورونه قائمة). ويضيف ابن سينا إلى هذا: (إن قول القائل إن شيئاً ما يصير شيئاً آخر لا على سبيل الاستحالة من حال إلى حال ولا على سبيل التركيب مع شيء آخر ليحدث شيء ثالث بل على أنه كان شيئاً واحداً فصار واحداً آخر، قول شعري غير معقول، فإنه إن كان كل واحد من الأمرين موجوداً فهما اثنان متميزان، وإن كان أحدهما غير موجود فقد بطل الذي كان موجوداً).

فتصوف ابن سينا لا يختلف إذن عن تصوف الفارابي في شيء، وسيلتهما وغايتهما متحدتان. يقول البارون كارادي فو: (لا يبدو التصوف عند ابن سينا إلا في آخر المذهب كتاج له، وهو متميز تماماً من الأجزاء الأخرى؛ وابن سينا يدرسه دراسة فنية كأنه فصل من الفلسفة يشرحه شرحاً موضوعياً، وبالعكس ينفذ تصوف الفارابي إلى كل شيء، والألفاظ الصوفية منتشرة في كل ناحية من مؤلفاته؛ ونشعر جيداً أن التصوف ليس مجرد نظرية اعتنقها، بل حالاً نفسية). ونحن نسلم مع البارون أن تصوف الفارابي - على عكس ابن سينا - يعبر عن عاطفة صادرة من القلب، وحياة الرجلين تشهد بذلك، ولكنا نرفض من الناحية النظرية أن يكون ثمة فرق بين تصوف التلميذ وتصوف الأستاذ، كلاهما يعتمد على أساس واحد، ويشغل مكاناً متعادلاً في مذهبيهما؛ وكل ما هنالك من تباين هو وضوح ابن سينا وطريقته التعليمية المنظمة التي يدرس بها المسائل على اختلافها. وأما الألفاظ الصوفية فقد لاحظنا آنفاً أنها أكثر لدى ابن سينا منها عند أستاذه.

إذا كان الفارابي وابن سينا بطلي الدراسة الفلسفية في الشرق، فابن باجة وابن طفيل وابن رشد هم أعلامها في الغرب. وبما أن البحث العلمي في الشرق أسبق منه في الغرب فإن أهل الأندلس مدينون لإخوانهم المشارقة بكثير من آرائهم ونظرياتهم. لذلك لم يكن بدعاً أن تقتفي المدرسة الفلسفية الأسبانية أثر المدرسة الشرقية، وأن نرى ابن باجة وابن طفيل مثلاً يتبعان خطى الفارابي وابن سينا. وكم يسوءنا أنا لا نعرف حتى الآن عن ابن باجة الشيء الكثير، فإن معظم كتبه قد باد، وما بقي منها لا يزال مخطوطاً وموزعاً بين المكاتب الأوربية. وكتابه الرئيسي وهو تدبير المتوحد لم يصلنا عن طريق عربي، ولو لم تحتفظ لنا المترجمات العبرية بأجزائه الهامة ما وقفنا على خبره. ويرجع الفضل في استكشافه إلى مستشرق إسرائيلي من رجال القرن التاسع عشر هو سلمون منك صاحب الفلسفة اليهودية والعربية ومترجم دلالة الحائرين إلى الفرنسية. وإذا اعتمدنا على ما نقله (منك) أمكننا أن نقرر أن نظرية الاتصال الفارابية قد نالت حظوة كبيرة لدى ابن باجة. وكتابه تدبير المتوحد قائم على إثبات أن الإنسان يستطيع الاتصال بالعقل الفعال بواسطة العلم وتنمية القوى الإنسانية. والفضائل والأعمال الخلقية جميعاً ترمي إلى سيادة النفس العاملة واستيلائها على النفس الحيوانية. وبالجملة يجب على المرء أن يسعى جهده إلى الاتصال بالعالم العلوي مشتركاً مع الجمعية أو منعزلاً عنها، فإن كانت الجمعية صالحة قاسمها في مختلف شؤونها، وإن كانت طالحة لازم الخلوة والانفراد. وهنا يبدو ابن باجة متأثراً بالصوفية المسلمين فوق تأثره بالفارابي، فإن الأخير لم يدع إلى الوحدة قط؛ ومن شرائط المدينة الفاضلة في رأيه أن تقود الأفراد إلى السعادة إن لم تصل بهم إليها. وكتاب تدبير المتوحد في جملته مستقى من مؤلفات الفارابي وابن سينا، اللهم إلا الجزء الخاص بنظام العزلة والانفراد فهذا تغلب عليه نزعة صوفية بحتة.

ومهما يكن فقد وضع ابن باجة الحجر الأساسي في بناء المدرسة الفلسفية الأسبانية وسار على نهجه ابن طفيل. وحياة ابن طفيل غامضة غموض حياة ابن باجة، ومؤلفاته ليست أعظم حظاً من مؤلفات سابقه فقد باد معظمها ولم يبق منها إلا شذرات متفرقة. بيد أن روايته الفلسفية المشهورة (حي بن يقظان) التي وصلت إلينا تشتمل على مذهبه عامة في أسلوب جذاب وخيال بديع، وتعد هذه الرواية من أطرف ما خلف فلاسفة الإسلام، وقد ترجمت إلى لغات عدة، وكانت في غالب الظن نموذجاً نسج على منواله روبنسون كروزو. وابن طفيل يحاول أن يثبت فيها أن القوى الإنسانية تستطيع وحدها الاتصال بالله. فقد تصور شخصاً نشأ منعزلاً عن الناس ولم يتأثر بالجمعية قط ومع هذا تمكن بعقله الفردي إدراك الحقائق الكونية والتدرج منها إلى حقيقة الحقائق التي أفاضت عليه بالنور والمعرفة، وهذا الشخص هو (حي بن يقظان) الذي ولد في جزيرة قرب خط الاستواء ولم ير أباً ولا أماً، وإنما منحته الطبيعة غزالة تولت إرضاعه وتغذيته. ولم يكد يشب ويترعرع حتى اتجه نظره إلى ما حوله، فبحث في الظواهر الكونية وسر تغيرها، وانتهى إلى أن وراءها أسباباً خفية تتصرف فيها وصوراً تشكلها، وهذه الصور صادرة عن كائن قديم يسميه الفلاسفة العقل الفعال. ولم يزل يبحث ويعلل حتى أدرك أن سعادة الإنسان وشقاءه راجعان إلى قربه من ربه وبعده عنه. ووسيلة القرب والصعود إلى عالم النور والملائكة هي النظر والتأمل. سواء أكان هذا الفرض مقبولاً أم مرفوضاً لدى علماء الاجتماع المحدثين فإنه يبين لنا أولاً كيف تأثر ابن طفيل بفيلسوف الأندلس الأول ابن باجة، فأن (حي بن يقظان) يحمل في ثناياه كثيراً من خصائص (التوحيد) الذي أشرنا إليه من قبل. وثانياً في لغة (حي) الخيالية وصوره المجازية ما يعبر تعبيراً صادقاً عن نظريات الفارابي في السعادة والاتصال.

أما ابن رشد فلم ينح هذا النحو الخيالي الفرضي، بل درس مشكلة الاتصال بالعقل الفعال دراسة علمية منظمة، مبيناً أن هذا الاتصال في ذاته لا يتنافى مع أصول علم النفس المعروفة. وقد وضع في هذا الموضوع ثلاث رسائل مستقلة احتفظت لنا المصادر العبرية باثنتين منها. وهو يرى أن الطفل يولد وفيه استعداد لتقبل المعلومات العامة، فإذا ما أخذ في الدراسة والتعلم تحول هذا الاستعداد إلى عقل بالفعل، ولا يزال هذا العقل ينمو ويرقى حتى يتصل بالعقول المفارقة ويستمد منها الفيض والإلهام، وهذا هو الكمال الأسمى الذي نطمح إليه جميعاً؛ والطريق الموصلة إليه هي تنمية المعلومات وترقية المدارك الإنسانية، فالعلم وحده سبيل السعادة والاتصال بعالم العقول والأرواح. أما ما يذهب إليه المتصوفة من أن الإنسان يستطيع الصعود إلى هذه المرتبة دون علم ولا بحث فادعاء باطل وقول هراء. وعل في هذا الذي قدمنا ما يكفي لإثبات أن ابن رشد اعتنق كزملائه فلاسفة الأندلس الآخرين - وإن يكن أقلهم تصوفاً - نظرية السعادة الفارابية. ومن الغريب أنه لم يدخر وسعاً في نقد الفارابي وابن سينا وتجريحهما، ولا سيما إذا أحس منهما انحرافاً عن سنة أرسطو، ومع ذلك لم ينج من أثرهما، ولم يستطع أن يكوِّن لنفسه مذهباً مستقلاً يخالف مذهبهما، وهو أشد ما يكون تأثراً بهما في المسائل التصوفية. فهو يعلن مثلهما أن العلم سبيل الوصول والسعادة الروحية، وأن أسمى درجات الكمال أن يخترق المرء الحجب ويرى نفسه وجهاً لوجه أمام الحقائق العلوية، ويرفض رفضاً باتاً أن يكون تقشف الصوفية وزهدهم وسيلة التجرد والاتصال؛ فمن الفارابي إلى ابن رشد اعتنق فلاسفة الإسلام بلا استثناء نظرية السعادة. والفارابي وابن سينا يدعمان هذه السعادة رأساً على الدراسة والنظر، مع الاحتفاظ بمكان للعقل العملي والحركات الجسمية؛ وابن باجة وابن طفيل يوسعان الجانب العملي؛ وابن رشد يعود أخيراً فيقرر مع أرسطو أن الخير الأسمى لا يتم إلا بالعلم والتأمل.

(يتبع)

إبراهيم بيومي مدكور

مدرس الفلسفة بكلية الآداب