مجلة الرسالة/العدد 169/نزهات في الخريف

مجلة الرسالة/العدد 169/نزهات في الخريف

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 09 - 1936



للكاتب الفرنسي جوستاف دروز

ترجمة السيد حسين رفعت

اطَّلعت على الخريف في حقوله الوسيعة، وعواصفه المريعة وتنهداته الذاهبة في الفضاء، وأوراقه الذابلة الصفراء، وهي تترنح بين أنفاس الجو ونسمات الريح؟؟

أعرفت مخارفه المبتلة، وشمسه المعتلة، وأشعتها الواهنة، الواهنة في مثل بسمة العليل وضحكة المضني؟

أبصرت بضحضاحه الراكد ومائه الراقد في جنبات الطريق؟ أعرفت كل هذا؟

إن كنت علمته فأنت غير خال من التعصب له، أو التحامل عليه، كما أحبه بعضهم فجنوا به، وكرهه آخرون فتطوعوا لسبه. أما أنا - علم الله - فهو أثير عندي، حبيب إليْ. ولخريف واحد أثمن عندي من صيفين وأجمل. فأنا أهيم بقطع اللهب الكبيرة، وأستريح بمقربة المدفأة المتواضعة، وكلبي ممدد ساكن بين دزلكي المبلل الرطب، ومقعدي الدافئ الوثير.

وكم يحلو لك التأمل في سعير اللهب المضطرب، يلعق بأنيابه الدقيقة قطع الحديد العتيقة، ويضيء الظلمات النائية البعيدة.

وتسمع زفيف الريح في أهراء القمح، ويطرق أذنك صرير الأبواب ونباح الكلاب، وقد تمردت على سلاسلها الحديدية ومقاودها المعدنية. وتميز برغم دوي الغابة الملاصقة وهي تزمجر بظهرها المقصوف صراخ الأغربة القاتم، وهي تصارع العاصفة وتنازل الرياح القاصفة.

وتشهد الوسمي يقرع ألواح الزجاج الصغيرة، فتفكر في هؤلاء الذين هم في الخارج وأنت تمدد رجليك نحو المصطلى.

أجل أنا جد مفتون بالخريف، وصغيري العزيز يهواه كما أهواه. وليس مظهر جماله ومبعث جلاله في اجتماع العائلة حول الموقد، ينعمون بدفئه المثير، ولآلائه الكثير، وإنما له أيضاً من عواصفه الهوج، ورياحه الداوية، وأورقه الذاوية ما يحبب إلى النفس المجازفة بين هذه الأنواء الصاخبة، وتلك الرياح الغاضبة.

وكم من المرات ذهبنا كلانا نرود الحقول والمزارع، بين سفعات القر، وتلبدات السحب، وقد أحسنا الكساء، وأثقلنا الرداء، ولبسنا أحذيتنا الضخمة المتينة، فكنت أرتفق سعده وآخذ عضده، ثم نسير دون اتجاه معين ولا غرض مقصود.

وكان حينئذ لم يتجاوز الخامسة من عمره، ولكنه يخب في مشيته خبب الرجال؛ فكنا نأخذ الطريق الضيقة المفروشة بالأعشاب النضرة السوداء، خلال أشجار الحور الرمادية التي كانت تسمح للعين بأن تخلص إلى ما وراءها من الأفق، وتخترق ما دونها إلى بسمات البرق، فتلمح في قرارة البعد تحت السماء البنفسجية صفحة من العصائب الصفر الباردة، وتشاهد سقوف الأكواخ المتهدمة، ورؤوس المداخن المتداعية، تتصاعد منها سحب رهوة في زرقة لطيفة كأن الريح تطاردها بعنف وتصاعدها بقسوة.

وكان طفلي الصغير يطفر من المرح وقد أمسك بيده قبعته حذراً من أن تطير، وكان يحدجني بعينيه الرجراجتين تحت فيض المدامع وقد ضرج البرد وجنته، وفي مؤخر أنفه لؤلؤة صافية قد أشرفت على السقوط، وكان على ما به فرحاً مسروراً. وكنا نقطع السهل الرطب وقد حفت جوانبه بنمير النهر العذب، وزينت شواطئه بالقصب المتشابك، وعرائس النيل المتلاحمة وزهور النهر المتنوعة.

وكنا نشاهد قطعاناً من البقر وقد غاصت حتى أعالي سوقها بين الأعشاب السامقة، وهي ترعى في سكون واطمئنان، وفي حفرة صغيرة عند جذور شجرة من الحور تجثم طفلتان متناظرتان في جلستهما في ظل معطف كبير، وقد لفهما إليه وجذبهما عليه؛ وهما ترعيان رعيلهما والرجلان نصف عاريتين في الحذاء الممزق، والوجهان المرتجفان قد برزا من واقية المطر.

وكان يقتطع علينا سيرنا المجد - في الفينة بعد الفينة - غدران واسعة قد عكست عليهما صفحة السماء الخافتة، فكنا نتريث برهة على ضفاف هذه البحيرات، وقد داعبت صفحتها ريح الشمال ونشاهد الأوراق الطافية وهي تساقط من أعالي الأشجار، وتسبح في مهاوي الريح، وتثوي على وجه المستنقع، فأحمل طفلي الحبيب بين ذراعي ونجوز العدوة الأخرى فنشاهد في أطراف الحقول السمراء الخاوية المحراث المقلوب، والوتد المنصوب، وعسالج الكرم المعراة قد امتدت على الأرض، والحمائل الصلبة الرطبة قد تجمعت أكواماً، وتكدست أقساماً.

(حلب)

حسين رفعت