مجلة الرسالة/العدد 17/العالم يجري!!

مجلة الرسالة/العدد 17/العالم يجري!!

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 09 - 1933



كل شئ يجري في هذا العصر، وكل شئ يسرع. والعالم في إسراعه للأمام، لا يكاد يتلفت يمنة ولا يسرة، وان كان يتجه إلى الخلف في أحيان قليلة، ليرى كم قطع من المسافات.

فالبخار لم يعد يستطيع تلبية هذه الحاجة الملحة للسرعة فخلفه الطيران، والطائرات نفسها تكاد تعجز عن تلبيتها، فتزيد كل يوم في سرعتها، وتقوم المسابقات العالمية لهذا الغرض.

والتليفون والبرق لم يعودا كافيين، فإذا بالراديو وإذا بالتلفزيون لنقل الأصوات ولنقل الصور، بل لنقل المناظر ذاتها لا صورتها. وإذا بالأفلام الناطقة تعرض الصوت والحركة، وتغني بالعين والسمع عن الوهم والخيال!

هذه الظاهرة السيكلوجية الغربية، قد جرفت معها الأدب أيضا، وجرفت الفنون جميعا، وكان ذلك طبيعيا، لأن الفنون هي الظاهرة للنفس الباطنة.

فالفن اليوم لمحات خاطفة، وملاحظات سريعة، لا يقف للدرس العميق، والتحليل الدقيق، لأن طبيعة العصر لا تمهله للوقوف، وإلا سبقته الحياة بآلاف الأميال.

والمجلات العلمية اليوم تكاد تنعدم، والباقي منها أخذته نشوة السرعة أيضا فلم تعد بحوثه مركزة، ومع ذلك فهي لا تجد العدد الكافي من القراء فتضمحل وتذوي، وتدرج في زوايا النسيان.

وأنا على يقين من تبدل هذه الحال، فالعالم الذي يجري الآن بكل قوته، لابد أن يدركه الكلال، ولابد أن تنقطع به هذه النشوة الطائشة، فيتمهل ليعرف ما يحيط به.

وسيضحك العالم من نفسه يومئذ على تلك الحماقة التي ارتكبها، كما يرتكب الأطفال حماقاتهم، ركضا وجريا ووثبا ثم يفيقون من هذه الغمرة عندما يكتمل نضجهم، ويتوبون إلى الرشاد

النشاط شيء، والعجلة شيء آخر؛ وإذا كان النشاط من مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، فليس للعجلة هذه المزية مطلقا، بل أن لها أضرارا، قد لا تعرف اليوم في أبان هذه النزوة الطائشة؛ وقد تعرف ولكنها لا ترد إلى أسبابها الحقيقية، ولا تعلم علاتها الأصلية!

ويقيني أن هذه الأزمات التي يعانيها العالم اليوم من مالية وسياسية وأدبية واجتماعية، انما منشؤها هذه السرعة، هذا التسابق، هذا الجنون، الذي يعمي الإنسان عما حواليه، فلا يرى إلا الإمام. دون ما على الإيمان والشمائل. . وحتى حين يصطدم بما حواليه، فهو لا يقف ليتأمل، أو ليصلح ما أصابه من الاصطدام، بل ينطلق إلى الأمام أيضا، محتملا أثر الصدمة تلو الصدمة حتى يلحقه العطب الكامل. . . فتكون هذه الأزمات!

إن السائق الذي يعرف كيف يسوق ولا يعرف كيف يقف: أو يدري كيف يسرع، ولا يدري كيف يبطيء، إنما هو سائق جاهل، غير مأمون على نفسه ولا على الركاب. وإذا كان للقيادة السريعة لذة في النفس والنشوة؛ فليس معنى هذا أنها أحسن القيادات وأولها بالاتباع

وبعد ففي مصر اليوم دعوة حارة ومخطرة معاً، إلى تقليد الغرب، والجري وراء الغرب، وإن كان الغرب نفسه لا يعرف اليوم وجهته، وهو شارد كالضال في متاهات الحياة، فكأننا سنجري وراء من يجري وهو لا يعرف مبتغاه!!!

وهذه الدعوة مفهومة من الوجهة (السيكلوجية) وقد عرف (ابن خلدون) أسبابها منذ قرون حيثما عللها. بأن المغلوب يميل بطبيعته لتقليد الغالب لاعتقاده أن غلبته له إنما كانت لخصائص فيه.

والسيكلوجية الحديثة تقر ما ذكره ابن خلدون، وتضيف إليه العقل الباطن، إذ يندفع الإنسان في بعض الأحيان، إلى أمور لا دخل لإرادته فيها، ولا لتفكيره، بحكم اندساسها في العقل الباطن، من مخلفات مشاهداته، أو ملاحظاته أو تفكيره التي يغمرها النسيان.

وهذه الدعوة مع أنها مفهومة وطبيعية. ليست مُسَلَّمة؛ ومن الواجب التحذير منها، وإبرازها للنور، بعيدا عن المؤثرات النفسية الغامضة. وإذا كانت الحرب العظمى قد أفقدت العالم الغربي اتزانه وطمأنينته؛ وبعثته من المكامن والخنادق وحفر الموت، مأخوذا، مشدوها، مجنونا. . . فليس من الواجب أن يفقد الشرق طمأنينته كذلك، ويجري وراء الغرب المأخوذ المشدوه، دون ما تأمل ولا تفكير!

إن للشرق رسالة قد يكون الآن موعدها، ورسالته هذه ستقوم على خصائصه الأصلية فيه، وستصبح واجبة بل، أصبحت لأن الغرب يكاد يتهالك ضعفا وإعياء لفرط جريه، وكثرة اصطداماته.

نحن لا نكره النشاط كما قلنا. ولكن نكره العجلة. ونريد أن يحتفظ الشرق بشيء من يقينه، ومن عمقه واتساعه، ومن سحره أيضا!، وألا يفرط في تقليد الغرب، ولا سيما والغرب يتخبط، ويئن، ويشكو من الصدمات ولم يوفق بعد لاتقائها، لأن النشوة لا تزال تطيف برأسه فيجري، وينهكه الجري، ولكنه لا يكف عن الجريان!

سيد قطب