مجلة الرسالة/العدد 17/مناظر من موقعة صفين

مجلة الرسالة/العدد 17/مناظر من موقعة صفين

مجلة الرسالة - العدد 17
مناظر من موقعة صفين
ملاحظات: بتاريخ: 15 - 09 - 1933



للأستاذ محمد فريد أبو حديد

اجتمع في سهل صفين جمعان من العرب لم يشهد تاريخ ذلك الشعب اجتماع مثلهما في موقعة منذ الزمن القديم المعروف في التاريخ، فقد كانت المواقع القديمة لا تزيد على أن تكون معارك بين بضع مئات، فلما كان الإسلام سمعنا عن موقعة حنين وقد أعجبت المسلمين كثرتهم إذ كانوا عشرة آلاف. فلما خرج العرب إلى حروب الروم والفرس زاد عد الجنود فصار إلى عشرات الآلاف. فكان عدد العرب مثلا في اليرموك ستة وأربعين الفا، وكان عددهم في القادسية ثلاثين ألفا، وفي نهاوند كذلك ثلاثين ألفا. واما في صفين فلم يكن جيش علي بأقل من سبعين ألفا. ولم يكن جيش معاوية بأقل من تسعين ألفا.

وكان معاوية السابق إلى النزول في سهل صفين، فاختار لجيشه سهلا فسيحا متصلا بنهر الفرات في مكان يسهل الاستقاء منه. ولم يكن في ذلك الجزء من نهر الفرات الأعلى مكان غيره يمكن الشرب منه، إذ ان النهر يجري هناك في إقليم الجبال فيغلب على مجراه أن يكون عميقا قائم الجوانب سريع التيار.

ولعل معاوية كان يريد السبق إلى اختيار ذلك المكان ليكسب الموقعة قبل أن يلتحم الجيشان. فلما اقبل علي في جيشه رأى عدوه نازلا في خير المنازل وقابضا على ناصية الشريعة، وقد وقفت كتيبة من جيشه لتدافع عن مورد الماء إذا حاول عدوه أن يصل اليه.

كانت خطة علي في حروبه أن يأمر جنده بالكف عن القتال حتى يحاول حل الخلاف بالحجة والمسالمة. حقا لم تفده هذه الخطة في كثير من المواطن، ولكنه لم يخرج عنها مرة واحدة في حرب من حروبه. وقد كان في هذه الموقعة جاريا على عادته هذه، فانه أمر أصحابه ألا يتعرضوا لأحد من جيش معاوية حتى يراسله فيما جاء له. ولكن العطش ألح على أصحابه، فالتمسوا مكانا على النهر يستطيعون أن يشربوا منه فلم يستطيعوا، فأرسل علي إلى معاوية يطلب اليه إباحة الماء لأصحابه. فلم يكن بد من القتال على الماء قبل محاولة المفاوضة فيما جاء له الجيشان.

وكان بطل القتال في ذلك اليوم الأول رجلا أسمه الأشعث ابن قيس، كثر تردد اسمه فيما بعد في آخر الموقعة. وقد كان من قبل خلافة علي عاملا لعثمان علي أزربيجان، فلما قتل عثمان دخل في طاعة علي حتى جاء معه لمحاربة معاوية في صفين. ولكنه كان ممن ينظر إليهم بعين الريب في جيش علي. ولا يمكن أن يكون الأمر على غير ذلك لأن جيش علي كان لا يثق بأحد ممن كان يعمل لعثمان، على أن الأشعث كان يطمع في الصدارة والرياسة، وها هي فرصة تهيأت له فتقدم إليها مسارعا، فطلب إلى علي أن يخرجه لقتال القوم على الماء فأذن له علي في ذلك. واشتدت الحرب وتوالت الإمداد من الجانبين وانتصر علي وأصبحت الشريعة في يده، وارتدت جنود معاوية إلى مكان بعيد عن النهر، وتقدمت جنود علي فنزلت في ناحية من السهل الفسيح الذي كانت جيوش معاوية تحل فيه وتملك الانتقال خلاله.

كثر تحدث الجنود والقواد بعد ذلك فيما يظنونه من صنع علي عقب انتصاره، فمن قائل إنه يقابل الإساءة بمثلها، ومن قائل إنه يتفضل على عادته في النيل، وقال عمرو بن العاص: (ما أظنه يمنعنا الماء كما منعناه من قبل. انه قد جاء لغير ذلك) وكان عمرو أصدق المتوقعين، فأن علياً أبى ان يمنع أحداً ورود الماء. وقد يسائل أحدنا نفسه: (ماذا كان يجب عليه أن يفعل؟)

وقد يجيب بحسب ما يظنه الأمثل والأصلح، ولكن لا يشك أحد في وصف ما أتاه علي بأنه نبل.

نزلت جنود علي في سهل صفين في أواخر ذي الحجة، فلما دخل المحرم اتفق الجيشان على الموادعة مدة الشهر الحرام، وكان علي يرجو أن يستطيع في أثنائه حسم الشر والوصول إلى توحيد كلمة المسلمين بغير حرب، غير أنه كان يعلم أن معاوية لا يقصد غير الملك، وما كانت الحجج لتستطيع أن تحوله عن مثل ذلك القصد. غير أنه كان يطمع في أن يستميل بالحجة أهل الرأي ممن مع معاوية، فكانت رسله تختلف إلى معاوية تحمل من الحجج ما هو أشبه بالدعاية السياسية منه بالمراسلة المعتادة بين رئيسي حزبين متعاديين، وكان ينتهز فرصة وفود رسل معاوية لكي يحاول أن يستميلهم بالحجة، وكان إذا وجد من هؤلاء الرسل انصرافا عن حجته وتمسكا بمعاوية أظهر أشد الأسف حتى ليقول مثلا: (انك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، وما أنت بهادي العمى عن ضلالتهم أن تسمع الا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون) فلما رأى المحرم قد مضى وأيقن أن تلك المحاولات لم تفده شيئا، أمر أحد قواده أن يعلن استئناف القتال، ولم يرض أن يهاجم أعداءه حتى يعلن إليهم عزمه. فلما غربت شمس آخر يوم من المحرم نادى مناديه بإعلان الحرب معتذرا بأنهم أبوا الإذعان للحجة ولم يلبوا الدعوة إلى الإسلام. وابتدأت المصادمة على شكل مواقع جزئية، وذلك بأن ترسل كتيبة من جيش علي فتلقاها كتيبة من جيش معاوية فتتجاولان مدة نهار حتى يحجز بينهما الليل، وكانت القتلى في مثل هذه المجاولات قليلة العدد. وكان الناس إذا أقبل الليل يضعون السلاح ويدخل بعضهم إلى مخيم بعض فيتحادثون ويتسامرون ويسمع بعضهم قول بعض في غير قتال حتى تستأنف المعركة سيرها في اليوم التالي. وقد استمر الحال على ذلك مدة الأسبوع الاول من المعركة، ثم عزم على المقاتلة بكل جيشه في يوم الأربعاء الثاني مهن شهر صفر سنة سبع وثلاثين للهجرة.

وكان الجيشان مرتبين حسب النظام المتبع حين ذلك. وهو أن يجعل لكل منهما قلب وجناحان، وكان الهجوم يحدث من الجناحين أو من أحدهما ويكون القائد في القلب ومعه أوثق جنوده يهجم بهم وقت الضرورة، أو يمد بهم من يحتاج إلى المدد من الجناحين. وقد بدأ علي الهجوم بجناحه الأيمن وجل جنوده من أهل اليمن، فهبطوا على جناح معاوية الأيسر، وكان قائد ميمنة علي أحد شجعان العرب وقرائهم وهو عبد الله بن بديل، فكانت الحملة الأولى تيارا قويا تزعزعت له ميسرة معاوية حتى اضطر إلى إمدادها بالشجعان الذين معه في القلب وهم الذين بايعوه على الموت، وعند ذلك قويت ميسرة معاوية وكرت على ميمنة علي حتى ردتها، ولم يبق ثابتا الا القائد مع مائتين أو يزيدون استماتوا في القتال أمام الجموع المتزايدة الجرارة التي تدفقت عليهم، فلما رأى علي أن ميمنته ارتدت هذا الارتداد السريع الذي لم يكن متوقعا عقب الانتصار الأول حاول أن يقابل الهجوم بمن معه في القلب وكانوا من مضر. فلم يستطيع أن يرد بهم ذلك التيار واضطر إلى أن ينحاز إلى ميسرته وكان جنودها من ربيعة. فلما رأت الميسرة ما حاق بالميمنة والقلب وانحياز الخليفة إليها ثارت فيها الحمية وثبتت ثباتاً عظيماً ووقف علي معهم يحارب بنفسه.

رأى أحد قواد علي وهو الأشتر النخعي ما حاق بالميمنة من الهزيمة وكان يمنيا. فتارت روحه القوية وجاشت نفسه الباسلة فأسرع نحو المنهزمين وتمكن بقوة نفسه وشجاعة قلبه وفصاحة لسانه من أن يرجع كثيرا منهم ويذمرهم ويثير فيهم الحماسة حتى التف حوله عدد عظيم ممن كان انهزم من الميمنة. فعطف بهم إلى القتال فأدرك عبد الله بن بديل وهو بآخر رمق من الجهد يقاتل مع أصحابه القلائل المستميتين. فأعاد الكفة إلى الرجحان وما زال يقاتل حتى صار القتال متكافئا بين الفريقين، ولما رأى علي ذلك عاد إلى الميمنة وجعل يشجعهم ويذمرهم.

وأقبل الليل والكفتان متراجحتان بعد، ولم يشأ أحد من الفريقين أن يقف القتال أثناء الليل إذ كان كل منهما يعض على النواجذ من أجل النصر.

وأصبح الصباح فإذا بجنود علي في الميمنة لا يزالون منتصرين مع الأشتر النخعي حتى صرعوا صفوف المعقلين الذين التفوا حول معاوية وقد بايعوه على الموت وعقلوا أنفسهم بالعمائم حتى لا يستطيعوا الانصراف من حوله، وكانت الميسرة كذلك منتصرة قد أوشكت أن تبلغ إلى قلب جيش معاوية وجعلته يفكر في الفرار، وفيما كان الأمر على ذلك ارتفعت صيحة من ميمنة جيش معاوية وما زالت تتزايد حتى بلغت ميسرة جيش علي، فإذا الصيحة ترتفع فيها حتى تبلغ عليا ويأخذ قواده في المجادلة فيما بينهم، ثم تنتقل المجادلة حتى تصبح بينهم وبين الخليفة. وتلك هي صيحة تحكيم القرآن إذ رفع جند الشام المصاحف على الرماح وقالوا: (قفوا تلك الحرب الطاحنة، إلى متى يتطاحن المسلمون؟ لقد قرب المسلمون من التفاني. ومن يكون لحرب الفرس ومن يكون لحرب الروم إذا نحن تفانينا وقتل بعضنا بعضا؟)

تردد عليّ في وقف الحرب وعلم أن تلك خدعة لجأ إليها عدوه عندما رأى كفة النصر تنصرف عنه. ولكن بعض قواده هدده بالثورة عليه. وكان أشدهم في ذلك الأشعث بن قيس صاحب الانتصار العظيم يوم الشريعة. فاضطر علي أن يبعث إلى ميمنته المنتصرة لوقف الحرب. وتردد الأشتر في ترك الحرب وقد وشك أن ينتصر. فأعاد الإمام أمره إلى الأشتر بوقف الحرب وأفضى اليه بنبأ ثورة قواد ميسرته، فاضطر إلى أن يرفع يده وعاد إلى علي محنقا ثائرا ساخطا على إفلات النصر من يده وكان قد ظنه قريبا.

ولم يمض بعد ذلك زمن طويل حتى كتبت صحيفة التحكيم وانصرف الجيشان أولهما إلى الشام وهم فرحون اذ أفلتوا من هزيمة محقة، وثانيهما إلى العراق وهم يتلاومون ويتجادلون ويختلفون وفي قلوبهم أشد الأسى على ما أصابهم من الخذلان بعد وشك الانتصار.

وإنا نسائل النفس عن علة هذا الفشل العجيب ولا نستطيع أن نقنع النفس بأن الحوادث الظاهرة كانت كافية لأحداثه. فأن أمر هذه الهزيمة كان شبيها بعود من الثقاب أشعلته فرأيت من إشعاله انفجارا مدمرا لم يكن ليخطر لأحد ببال. فإذا عزى الانفجار إلى عود الثقاب كان ذلك إهمالا لذلك الغاز الملتهب الذي كان خفيا عن الأعين فأحدث الانفجار المروع عندما اشتعل فيه ذلك العود الضئيل. إن الحرب هي الجهد الأعظم الذي ينتهي اليه الخصام بين حزبين. وفيه يبذل كل جانب أقصى ما عنده من الهمة ليفوز. وقد لا يتورع المحارب عن الكيد بالكذب والدس والتجسس، وقديما أباح الناس أمثال هذه

الدنايا في الحروب مع تحريمهم إياها في المعاملة المعتادة.