مجلة الرسالة/العدد 170/الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية

مجلة الرسالة/العدد 170/الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية

مجلة الرسالة - العدد 170
الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية
ملاحظات: بتاريخ: 05 - 10 - 1936



للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

مدرس الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب

- 4 -

لم يقف تصوف الفارابي عند المدرسة الفلسفية، بل تعداها إلى مدارس أخرى صوفية في الإسلام. وعلى رأس هذه المدارس يجب أن نضع مدرسة الإشراقيين التي عاشت في بلاد الفرس إلى القرن السابع عشر. ومؤسس هذه المدرسة هو السهروردي أو الشيخ المقتول المتوفى سنة 1191م. وكان ذا اطلاع واسع وخبرة تامة بالفرق الفلسفية التي تأثر بها عامة وبرجال مدرسة الإسكندرية وفلاسفة الإسلام السابقين بوجه خاص. ويظهر ن سعة اطلاعه ولدت فيه رغبة التوفيق بين الفلسفات والفلاسفة المختلفين. فالفلاسفة عنده رجال أسرة واحدة وفروع شجرة مباركة تمد الإنسانية بما فيها من ثمار وخيرات. أميدوقل وفيثاغورس وأفلاطون وأرسطو طاليس وبوذا وهرمس ومزدك وماني، وإن انتسبوا إلى شعوب مختلفة، هم أبناء الإنسانية أولاً وبالذات ورسل السلام والإصلاح. وعلى الجملة زهاد الهند وفلاسفة الإغريق وحكماء العراق يسعون وراء غاية واحدة، ويعملون على نشر نظرية ثابتة، وينطوون تحت لواء فلسفة واحدة، هي الفلسفة اإأشراقية. ومبدأ هذه الفلسفة وأساسها الأول أن الله نور الأنوار ومصدر جميع الكائنات. فمن نوره خرجت أنوار أخرى هي عماد العالم المادي والوحي. والعقول المفارقة ليست إلا وحدات من هذه الأنوار تحرك الأفلاك وتشرف على نظامها. فالفلسفة الإشراقية تعتمد إذن على نظرية العقول العشرة الفارابية مختلطة بعناصر مزدكية ومانوية.

وإذا كان العالم في جملته قد برز من إشراق الله وفيضه، فالنفس تصل كذلك إلى بهجتها بواسطة الفيض والإشراق. فإذا ما تجردنا عن الملذات الجسمية تجلى علينا نور إلهي لا ينقطع مدده عنا. وهذا النور صادر عن كائن منزلته منا كمنزلة الأب والسيد الأعظم للنوع الإنساني؛ وهو الواهب لجميع الصور ومصدر النفوس على اختلافها. ويسمى الروح المقدسة أو على لغة الفلاسفة العقل الفعال. ومتى ارتبطنا به أدركنا المعلومات المخت واتصلت أرواحنا بالنفوس السماوية التي تعيننا على كشف الغيب في حال اليقظة والنوم. وليس للتصوف من غاية إلا هذا الارتباط؛ والإشراقييون يسعون إليه ما استطاعوا وكثيراً ما ينعمون به. أما لأنبياء فهم في اتصال دائم وسعادة مستمرة. يقول السهروردي: (إن النفوس الناطقة من جوهر الملكوت، وإنما يشغلها عن عالمها هذا القوي البدنية ومشاغلها، فإذا قويت النفس بالفضائل الروحانية وضعف سلطان القوي البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر تتخلص أحياناً إلى عالم القدس، وتتصل بأبيها المقدس وتتلقى منه المعارف، وتتصل بالنفوس الفلكية العالمة بحركاتها وبلوازم حركاتها، وتتلقى منها المغيبات في نومها ويقظتها كمرآة تنتقش بمقابلة ذي نفس).

فالفلسفة الإشراقية التي دعا إليها السهروردي متأثرة في بدئها ونهايتها بتعاليم الفارابي، ذلك لأنها مؤسسة على نظرية الفيض الفارابية ونزَّاعة إلى العالم العلوي؛ غير أن هذه الفلسفة صوفية كلها أو التصوف هو كل شيء فيها، في حين أنه لدى الفارابي ليس إلا قطعة من مذهب متنوع الأجزاء. هذا إلى أن الإشراقي لا يقنع بالاتصال بالعقل الفعال وحده، بل يطمع في الاتحاد بالله مباشرة والامتزاج بنور الأنوار؛ فكأن السهروردي حين دعي للاختيار بين تصوف الحلاج وتصوف الفارابي رأى أن يجمع بينهما، وأن يقول بالاتصال والاتحاد معاً؛ وهذه نزعة توفيق أخرى تتفق مع روحه العامة.

هذا التصوف العقلي المبني على فكرة الفيض يبدو كذلك عند صوفي وفيلسوف آخر من رجال القرن الثالث عشر. ونعني به ابن سبعين المفكر النقادة الذي لم يُدرس بعد دراسة كافية، ولا ثقة به على الرغم مما في آرائه من حصافة وفي أفكاره من عمق ودقة. وعل أكبر مصدر نعتمد عليه في تعرف نظرياته هو المراسلات التي دارت بينه وبين فردريك الثاني ملك ألمانيا وإمبراطورها المتوفى سنة 1250. وقد بقيت هذه المراسلات مجهولة إلى أن اهتدى إليها المستشرق الإيطالي أَمرِي سنة 1853 في مخطوطة من مخطوطات أكسفورد تحت عنوان: الرسائل الصقلية. وبعده بنحو عشرين سنة قام بتحليلها في الصحيفة الأسيوية الفرنسية المستشرق الدنمركي المشهور مهرن. وقد وقفنا بأنفسنا على هذه المخطوطة فوجدناها مملوءة بالعلامات والملاحظات الدقيقة، وما أجدرها بأن تطبع وتنشر. وكلنا يعلم ما كان عليه فردريك الثاني من رغبة في العلم وحب للأدب والفلسفة العربية. لهذا وجه إلى ابن سبعين عالم صقلية وفيلسوفها في ذلك العهد أربعة أسئلة متعلقة بقدم العالم، والمقولات العشر وما وراء الطبيعة في غايته ومبادئه، وطبيعة النفس. وهذه الأسئلة تلخص تماماً المشاكل الهامة التي كانت تشغل المفكرين عامة وتلاميذ أرسطو على الخصوص في ذلك العصر. وقد أجاب عليها ابن سبعين إجابة موسعة مستفيضة بحيث ضمنها كل مذهبه وآرائه الخاصة؛ وفي مقدور من يرجع إليها معتمداً على بعض المصادر الأخرى أن يكوِّن فكرة كاملة عن نظرياته الصوفية والفلسفية. ولسنا هنا بصدد هذا العرض المطول؛ وسنكتفي بأن نشير إلى ما يتصل منه بموضوعنا. فالله في رأي ابن سبعين أصل العقول المنصرفة في الكون، صدرت عنه بمحض الفيض والأنعام، والعقل الفعال وهو أحدها يدير شؤون الأرض ويمد الكائنات بصورها النباتية، فهو مصدر النفوس البشرية على الإطلاق؛ وإذا كانت النفوس صادرة عنه فهي ميالة دائماً إلى الاتصال به؛ ولا يحول دونها وذلك إلا أدران الجسم وشهواته. فإذا ما تفرغ الإنسان للدراسة والنظر فاز بالمعرفة الكاملة والحقيقة المجردة، وسما إلى درجة العقل الفعال.

هذه النظرية، كما نرى، تكرار حرفي لما قاله الفارابي وابن سينا، وصاحبها نفسه يصرح بأنه أرسطي كسابقيه من فلاسفة الإسلام وإن كان ينقدهم نقداً مراً. وقد بنى تصوفاً عقلياً على أساس فلسفي فهو على طريقة الفلاسفة؛ وفيما يتعلق بمشكلة الجذب والإلهام يخيل إلينا أنه أميل إلى الفلاسفة منه إلى الصوفية؛ فهو يرفض الحلول والاتحاد اللذين ذهب إليهما الحلاج ويقصر السعادة على مجرد اتصالنا بالعقل الفعال وارتباطنا به ارتباطاً روحيا معنوياً.

فتصوف السهروردي وابن سبعين مؤسس على دعائم فلسفية. وفي رأيهما أن الكائن الممكن يستلزم كائناً آخر واجب الوجود بذاته ليمنحه الوجود ويفيض عليه بالخلق والإبداع. وهذا الكائن الواجب الوجود هو لله جل شأنه؛ فهو موجود أزلاً بنفسه ودون حاجة إلى أي موجد آخر وإلا امتدت السلسلة إلى ما لا نهاية. والكائنات الأخرى جميعها مظاهر لعلمه وإرادته، ومنه تستمد الحياة والوجود؛ فوجودها إذن عرضي وبالتبع. وعلى هذا ليس ثمة إلا كائن واحد موجود حقيقة وضرورة، بل هو الوجود كله، والكائنات الأخرى لا تسمى موجودات إلا بضرب من التوسع والمجاز. هذه هي نظرية وحدة الوجود التي اعتنقها جماعة من الصوفية بعد انحطاط الدراسات الفلسفية في الإسلام. وقد تكونت في أوائل القرن الثاني عشر الميلادي، وانتشرت بعد ذلك في بلاد الأندلس والمشرق. ومن أكبر أنصارها محي الدين بن العربي المتوفى سنة 1240 ميلادية، وجلال الدين الرومي المتوفى سنة 1273، وشعراء آخرون من متصوفة الفرس. ويصعد مذهب الوحدة هذا كما لاحظ ابن تيمية إلى ابن سينا، أو كما نلاحظ نحن إلى الفارابي. وإذا كان الله هو الموجود الحق وجب أن تتلاشى فيه سائر الموجودات الأخرى. وهنا يختلط التصوف بالفلسفة اختلاطاً كبيراً. فكأن مذهب المشائين من العرب لما حورب في شخص الفلسفة وجد ملجأ لدى الصوفية. وكثير من الأفكار الفلسفية الممقوتة تبناه الصوفية وأبرزوه في صور أخرى مقبولة ولو إلى حين. وفي رأينا أنه لا يمكن ن يدرس تاريخ التفكير الفلسفي الإسلامي في العصور الأخيرة دراسة كاملة منعزلاً عما كتبه المتصوفة وعلماء الكلام.

بيد أن الصوفية بدورهم لم يسلموا من شرور الفلسفة وويلاتها، وما أن تفلسفوا حتى أضحوا عرضة للمحاربة والانتقام. فالسهروردي قتل بأمر صلاح الدين؛ وابن سبعين انتحر في مكة بسبب مهاجمات وجهت إليه في الغالب؛ واتهم معاصره ابن العربي بالإلحاد والزندقة من كثير من أهل السنة.

(يتبع)

إبراهيم مدكور