مجلة الرسالة/العدد 170/حول (نبوة المتنبي)
مجلة الرسالة/العدد 170/حول (نبوة المتنبي)
للأستاذ سعيد الأفغاني
كنت عائداً من جولةٍ في قرى (البقاع) حين قرأت كلمة الأستاذ الفاضل محمود محمد شاكر في العدد (167) من الرسالة الغراء، التي كتبها رداً على حاشية بحثنا في دين المتنبي المنشور في العددين (161، 162) من المجلة المذكورة.
وكانت قراءتي لرده، بعد عشرة أيام من صدوره. فإذا تأخرت في التعليق عليه فهذا عذري أبسطه للقراء الكرام؛ وأنا عوذ بالله من الغرور والذهاب بالنفس ومن الجهل بمقدارها والمكابرة في العلم والعصبية للرأي والهوى، فما يزال الناس - ولله الحمد - يقيسون فضل المرء بخضوعه للحق وإتقانه لعمله لا بدعواه وتبجحه؛ وقد ولى زمن كان فيه الولوع بالأغراب والإتيان بالجديد - ولو تافهاً - سبيلاً إلى الشهرة وذيوع الصيت وأقبل زمان فيه للتفكير حرمة وللعقل وزن، وكفى فيه المؤلفون مؤونة الثناء على النفس والتحدث إلى القراء بمزايا آثارهم وما تفردت به من معجزات.
وهؤلاء ذوو البصيرة من القراء يقلّبون ما يطالعون كل مُقلّب؛ يقع إليهم الكتاب فيمحصونه ويفلونه ويتدبرون ما فيه حتى تنكشف لهم منه مواطن الحسن والقبح، ويلمسون فيه آثار العجلة كما يلمسون مواضع التؤدة والروية.
وفي هذا ما كاد يصرفني عن الرد، سيراً على قاعدتي في ألا أحفل نقداً ولا رداً إذا كان حقاً؛ وسبيلي حينئذ أن آخذ نفسي به وأشكر لصاحبه، وإلا فإن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس فيمكث في الأرض. وخروجي اليوم على قاعدتي إنما كن لمنزلة الكاتب الفاضل لا لما في الرد نفسه. وليس في الأمر كل ما ظنه الأستاذ شاكر: فلا إثارة ولا إغراء ولا سلاح ولا استعداد لمعارك؛ إنما هي حاشية على كلام له المحل الثاني من بحثي، لم أرد بها نقد كتاب ولا التعرض لمؤلف؛ وشتان بين أسطر علقت عرضاً في حاشية وبين كلام مطول أنشئ للنقد خاصة.
أنا أدري - والإنصاف شريعة - أن الكلام على كتاب الأستاذ شاكر لا يكفيه فصل كبير، ففي الكتاب إحسان، وفيه إصابة واجتهاد، وفيه أماكن جديرة بالثناء حظيت بجهود حالفها التوفيق مرة وأخطئها مرة.
وبعد، فإني أشكر الأستاذ على نقله كلامي بحروفه، لأن عمله هذا سمح للقراء أن ينظروا: هل بلغ الأستاذ في الجواب على أسئلتي ما يريد من إزالة الشبهات الواردة عليه أم قصر دون هذه الغاية؟ أما أنا فقد عدت إلى كتاب الأستاذ كما طلب إليّ (وأنعمت - ثانية - في تدبر الأسباب الحادية على نفي تنبؤ أبي الطيب فلم أجد فيها مقنعاً) كما لم أعثر في رده الذي تفضل به علي شيء من الحجة؛ وإليك البيان:
(1) وهّن الأستاذ رواية التنوخي لأنه صاحب الوزير المهلبي، ولأن المهلبي عدو المتنبي، فلا يبعد أن يكون التنوخي تحامل على أبي الطيب إرضاء للمهلبي. فنحن نسأله: هل يكفي هذا الاحتمال في تبرير رد رواية التنوخي وهي كما يراها المنصف تحمل في مطاويها دليل الصدق والأمانة في نقل الحديث، لا دليل الوضع والكذب؟ سأل التنوخي أبا الطيب عن معنى (المتنبي) فأجابه: (إن هذا شيء كان في الحداثة). وظاهر أنه يعني التلقيب لا التنبؤ، فجوابه غير صريح، وهو كما قال الراوي جواب مغالط، وكان في وسع التنوخي أن يحمّل المتنبي - لو أراد وضعاً وتحاملاً - جواباً صريحاً في ادعائه النبوة، ولو استقام هذا الأصل الذي بنى عليه الأستاذ رواية التنوخي لجاز لكل من أراد نفي خبر أن يورد عليه مثل هذه الاحتمالات الخيالية فيسقطه. وما أحسب أن خبراً - مهما كان صحيحاً - يستعصي إسقاطه على هذا الأصل!
إنما السبيل ن ينقّب الأستاذ عن نص صحيح صريح في تجريح الراوي التنوخي وأنه عهد منه وضع الأخبار ودسّ الروايات، أو أن يلجأ إلى حجةٍ - لا إلى احتمال - قوية يرضاها العقل والمنطق السليم.
(2) استهل الأستاذ كتابه بفرضٍ فرضه، وخلاصته أن المتنبي علوي صحيح النسب، وأنه أخذ بكتمان هذا النسب لعداوة بينه وبين العلويين زعمها الأستاذ ولم يعرفها التاريخ. ثم ذهل حضرته عن أن هذا كان منه فرضاً ودعوى فراح يعده بعد صفحات حقيقية واقعة يبني عليها ويشرح بموجبها أبيات الديوان ويكذب مستنداً إليها الروايات، ويتهم الراوين. وهو بذلك يخرج على أصول سنها هو لنفسه وأخبر عنها في رده علينا حين قال: (ولا بد لمن يريد أن ينقد ناقداً أو يكتب فيما يتناول الروايات والأخبار أن يتحقق بدءاً بمعرفة الأصول في علم الرواية، وأن يستيقن من قدرته على ضبط الفكرة حتى لا تنتشر عليه وتتفرق ويقع فيها الاختلاف والتضارب والمناقضة.) ونحن ننقل للقارئ أدلة على هذا الذهول من مواضع متفرقة من كتابه ليستبين أن الكاتب لم يتمكن من ضبط فكرته فانتشرت عليه وتفرقت. قال في ص48: (بينا لك فيما مر ما بين أبي الطيب وبين العلويين، وأن صاحبنا كان له عندهم ثأر قديم. . .) يقصد بما مر احتماله الذي لخصناه آنفاً. وقال في ص52: (وبينٌ على مذهبنا في نسب المتنبي أن الرجل حبس من أجل دعوى العلوية) وقال في ص58: (وكأني بالمتنبي في طريقه يظهر في القبائل والمدن أمر نسبه ويذيع بينهم أنه علوي الأصل شريف النسب محتالاً لذلك بالدهاء. .!) فأنت ترى أن هذا النسب العلوي وعداء العلويين كانا فرضاً أول الكتاب ثم صارا حقيقة مقررة في وسطه.
وماذا في أن يكون المتنبي علوياً حتى يهتم به العلويين هذا الاهتمام، وحتى يحتال هو لإذاعته في القبائل والمدن بالدهاء والبلاد تعج عجيجاً بالعلويين والأشراف؟
والغريب أن يتخذ الأستاذ من نظريته هذه التي افترضها برهاناً يضرب به كل الروايات والأخبار التي تحمل أمر تنبئه ويشغل الأمراء والناس والعلويين ودعاتهم بأمر فتى دون العشرين يدعي العلوية فقط، فيقول في رد رواية اللاذقي ص48: (أما اللاذقي فمجهول ولا يتيسر نقد سنده، ولكن مما لاشك فيه أن اللاذقية التي نسب إليها كانت لوقت أبي الطيب موطناً لفئة من العلويين ومحطاً لكثير من كبار الدعاة العلويين الذين حدثوا أحداثاً عظيمة في التاريخ العربي كله) هل اهتمامهم بفتى دون العشرين من عمره من الأحداث العظيمة التي أحدثوها في التاريخ العربي كله أيها الأستاذ؟! ولم لا يغتالونه مرة واحدة ويريحون أنفسهم من وضع الأخبار والدس عند الحكام؟ إن في الأمر مطامح لنفس هذا الفتى جعل سلمه إليها شيئاً آخر مع العلوية هو أكبر منها وأخطر.
وقد رددت أنا قسماً كبيراً من رواية اللاذقي هذا، ولكن لشيء غير ما ذهب إليه الأستاذ الكريم وسأبينه قريباً. وما أكثر ما يبين الإنسان لنقسه الخطة في البحث ثم (تنتشر عليه الفكرة) فيبنى على ير أساس. ولست أجد كلاماً في تصوير عمل الأستاذ وأصوله في بحوثه أصدق من قول الجاحظ في إبراهيم النظام وهو هذا: (وكان عيبه الذي لا يفارقه سوء ظنه وجودة قياسه على العارض والخاطر السابق الذي لا يوثق بمثله، فلو كان بدل تصحيحه القياس التمس تصحيح الأصل الذي قاس عليه لكان أمره على الخلاص، ولكنه يظن الظن ثم يقيس عليه وينسى أن بدء أمره كان ظناً).
(3) يورد الأستاذ على حديث أبي علي بن أبي حامد شبهة واحدة بعد أن يقر بأحكامه، ويقول عنه ص49: (فهو حديث محكم لا يأتيه التوهين إلا من قبل غرابته عما جرت عليه الأحكام في شأن من يدعون النبوة. . . الخ) وقد أطال في بيان وجه الغرابة بما لا فائدة بنقله هنا. والذي في كلام أبي علي هو هذا: (فاستتابه وكتب عليه وثيقة وأشهد عليه فيها ببطلان ما ادعاه ورجوعه إلى الإسلام) وجلي أنهم استتابوه من دعوى النبوة فرجع بذلك إلى الإسلام. أما الوثيقة فهي ببطلان علويته وبهذا تزول شبهة الأستاذ، فأن من المألوف أن تكتب الوثائق في إثبات الأنساب ونفيها.
(4) عرض الأستاذ لرواية الهاشمي التي فيها: (كان أبو الطيب لما خرج إلى كلب وأقام فيهم ادعى أنه علوي، ثم ادعى النبوة، ثم عاد يدعي أنه علوي إلى أن أشهد عليه في الشام بالتوبة وأطلق) وهذه الرواية تعني أنه ما تخلى عن دعوى العلوية، وحين ترك ادعاء النبوة بقي على دعواه الأولى. ومنها ومن الرواية التي قبلها نفهم أنه لما أطلق ترك الدعويين معاً، فتاب من تنبئه، وكتب وثيقة ببطلان انتسابه للعلويين. وليس في الأمر مشكلة ولا تناقض ولا داع لأن يرجح الأستاذ ص49 إقحام لفظ النبوة بين العلويتين في حديث الهاشمي، وليقول: (إن المراد بالنبوة في حديث أبي علي بن أبي حامد العلوية) فعلوية أبي الطيب التي أراد أن يفسر بها النبوة الواردة في الروايات على اختلاف مصادرها لم تسلم له من الأصل وبقي المتنبي جعفياً يمنياً. وإذا كان لا بد من إيراد احتمال فالأولى أن تجعل العلوية الثانية من زيادات النساخ وإقحامهم. على أن الرواية في غنى عن هذا الفرض أيضاً وليس فيها داع إلى الشك أو تأويل. فمن الغريب جداً أن ينكر أبو الطيب دعوى النبوة من ساعة القبض عليه وأن يظل على العلوية طول أيام سجنه حتى كتابة الوثيقة.
(5) بقيت رواية الناشئ القائلة: (كنت بالكوفة سنة 325 وأنا أملي شعري في المسجد الجامع بها والناس يكتبونه عني، وكان المتنبي إذ ذاك يحضر معهم وهو بعد لم يعرف ولم يلقب بالمتنبي). هذا الخبر هو مظنة أن يكون فيه بعض الحجة فلنفرضه صحيحاً ولننظر ماذا تحته: إن فيه نصاً على أن أبا الطيب لم يلقب بعد بالمتنبي ولم يعرف في الكوفة، وإذا شئنا الدقة في التعبير قلنا إنه لم يبلغ أهل الكوفة أمر هذا اللقب، فيجوز أن يكون لقب به في الشام ويجوز ألا يكون. وليس في خبر الناشئ شيء آخر غير هذا. وبيان ذلك أن أبا الطيب ادعى النبوة للأعراب ثم سجن ثم أطلق وانتهى أمره ونسيه الناس، ثم حصل في الكوفة سنة 325 وحضر مجلس الناشئ فتى في الثانية والعشرين؛ ولما عاد إلى الشعر واتصل بالأمراء وبسيف الدولة وناوش الناس وناوشوه، وصاول الشعراء وصاولوه، وتفاقم الشر بينه وبين الناس نبشوا تاريخه - وهو هناك معروف - فأذاعوا منه هذه الزلة التي كانت في حداثته وتعلقوا بها وسار له في الناس هذا اللقب: (المتنبي).
لهذه الأسباب - وهي للقارئ معروضة - لم أجد في كلام الأستاذ شاكر (مقنعاً به من القوة ما يقف لهذه الروايات الصحيحة) وأظن أني أبنت له - كما أحب هو - وجود الضعف في قوله، وسواء علي وعلى الحق: أستبرأ الأستاذ من قوله أم لا. ولا بد أن يكون القارئ شعر بحرصي على وزن كلامي حرفاً حرفاً، وأني لم أسرف ولم أرسل القول على عواهنه. وقد عجبت كل العجب من الأستاذ - وهو الناقد الأصولي الفنان - حين لم يدر لم اختصرت حديث اللاذقي؟ إذ أن الأمر ظاهر، فإن الزيادات التي أهملتها يرفضها العقل ويكذبها الواقع، ولم تكن ثمة حاجة لأدل القراء على سبب إهمالها لأن تهافتها بين. وكثير أن تجرد عليها حملة كالتي نزل بها الأستاذ الميدان فخصص لها صفحتين من كتابه القيم. وهو يعلم - حفظه الله - أن من أدلة الوضع عند المحدثين مخالفة الواقع والمعقول كما هو مستوفي يكتب مصطلح الحديث. وأنا أستحيي من شرح هذا في مجلة (الرسالة) على رغم أن الأستاذ لم يجد بأساً في أن يعرفنا أن الخبر ما يحتمل الصدق والكذب، وأن وأن. . . الخ الخ مما يدرسه الطلاب المبتدئون. وأنا قد عملت بما أعرف من أصول البحث والتمحيص من دون أن أمن على قرائي. أما أستاذنا الفاضل فقد ملأ رده من مثل هذه الألفاظ: رواية، دراية، أصول نقد. . الخ وكلامي وكلامه أمام القارئ، وله وحده أن يحكم أين الرواية والدراية والأصول حقيقة لا ادعاء، وما التهويل بمغن عن أحدنا فتيلاً.
كنت أتوقع أن يتحفنا الأستاذ بالبراهين التي سوغت له رد الروايات فلم يفعل. أقول لم يفعل لأن أقواله: (رفضناه ورددناه وأسقطنا الثقة به والاعتماد عليه)، (إن هذا الخجل الذي يزعمونه إنما هو من أباطيل الرواة)، (أخبار متداولة تهور كثير من الأدباء في التسليم بصحتها)، (أما كلمة كافور فمفتعلة) (وأسخف من هذه الرواية رواية من يروي. .) إن أقواله هذه ولو اتبع كل كلمة منها بجميع مرادفاتها ومؤكداتها اللفظية والمعنوية. . هي أليق بمظاهرها هتافية ينادي فيها بسقوط فلان وفلان منها ببحث علمي العمدة فيه الحجة والبرهان. وأي شيء في أن ينبز كاتب روايات التاريخ بالبطلان والكذب، ثم لا يكون دليله عليها إلا أنها كذب وبطلان!!
هذا وقد حمل الأستاذ أقوالي ما ليس تحمل: فأنا لم أدع للمعري تنزهاً عن الخطأ، ولم أقل بأن (ورود خبر في كتب العلماء هو الدليل الذي لا دليل غيره)، وما جعلت قرب الزمن دليلاً على الصحة بل هو مما ييسر للمحقق وسائله. كما أني لم أسلم بكل الروايات ولم أعدها صحيحة ابتداء، فقد رددت منها ما وجدت فيه إلى الرد سبيلاً، ونقدت حكماً أدرج في مصدر من أمهات المصادر وأجلها وهو خزانة الأدب حين وجدت للنقد مجالاً؛ ولكل من النقد والرد والتسليم مواطن. وكيف تريدني أن أقنع قرائي بأمر لم أقتنع به، وإلى أشياء أخرى يتحقق من رجع إلى مقالي أني لم أذهب إليها؟
ونحن لم نتهم الأستاذ بالعصبية للمتنبي ولكنه هو هو قدم لنا في رده دليلاً على عصبيته لرأيه، وليس لنا في هذا الأمر يدان. ولما قلت عن كافور: (وكافور ليس من الذين يختلقون على شاعر، ولا ممن يروّج الاختلاق) خُيِّل للأستاذ أن ثمة نصراً مؤزراً فقال: (إن الأستاذ قد حكم على كافور حكماً لم يرد له ذكر في كتاب، فهل يستطيع أن يؤيد هذا الحكم بالدليل التاريخي والبرهان العقلي أن كافوراً لم يكن يختلق على الناس ولا يروج الاختلاق؟ لقد أتينا نحن (بارك الله) بالروايات ونقضناها بالدليل - ضعيفاً أو قوياً - أم أستاذنا فقد حكم على رجل بغير دليل ولا بينة من التاريخ أو غيره) اهـ. وعلى رغم أن الدليل على المثبت لا النافي - كما لا يخفى على الأستاذ الأصولي - وأن على من يدعي على كافور الاختلاق وترويجه أن يقيم البينة، على رغم هذا نحيل الأستاذ على الذهبي الذي وصف دينه وتواضعه فقال: (وكان يداوم الجلوس غدوة وعشية لقضاء حوائج الناس، وكان يتهجد ويمرغ وجهه ساجداً ويقول: اللهم لا تسلط علي مخلوقاً)، و (كان يرسل كل ليلة عيد وقر بغل دراهم في صرر بأسماء من أرسلت إليهم من العلماء والزهاد والفقراء. .) ونحيله أيضاً على الذهبي وغيره من المؤرخين الذين أجمعوا على وفور عقله وحسن تدبيره وصلاحه. . ويرى الأستاذ معنا أن فقه هذه الروايات - وهو الخبير بالرواية والدراية - يجعل كافوراً بمنجاة من النزول إلى هذا الدرك، وإن في أمور ملكه وبعد غوره ما يشغله عن الاختلاق على شاعر تكفي إشارة منه لتذهب برأسه. إن ما يسبغه المؤرخون على كافور من الصفات يكفي ليقول ببعده عن جميع السفاسف جملة وحدة. ففي التاريخ بينة وفيه دليل ولكن للعجلة في الحكم آفات.
هذا وفي نفسي مما أورده الأستاذ المحقق شيئ؛ فهل يسمح لي أن أطالبه بالدليل العلمي على قوله الجازم: (أعلم أن أكثر ما يروى في ترجمة هذا الرجل (المتنبي) وغيره من الرجال، إنما كان من الأحاديث التي تتناقلها مجالس الأدباء ولا يراد بها التحقيق، ولا ينظر فيها إلى صدق الرواية وسياق التاريخ وما إلى ذلك، بل إن كثيراً مما يروى في تراجم رجالنا كان مما يراد به مضغ الكلام في مجالس الأمراء أو في سامر الأدباء. . . الخ) وهل يتفضل فيبين لنا البرهان القاطع في قوله جواباً على سؤالي: (إن هذا الخجل الذي يزعمونه إنما هو من أباطيل الرواة الخ) فمن هم هؤلاء الرواة الذين لفقوا الأباطيل؟ إني متى أعرفهم يسهل علي من دون شك أن أسأل عن الأسباب الحادية لهم على التلفيق.
وأنا غير مطمئن إلى قول ابن جني في سبب تلقيب أبي الطيب بالمتنبي، فإن جني مفرط في حبه لصاحبه والدفاع عنه وهو متهم فيه. فهل لأستاذنا أن يعزز قوله بروايات أخرى سبيلها على غير ابن جني وعلى غير ما حوله؟ فإن تعذر هذا فلا عليه أن يؤيدها بأدلة لا اعتراض للفكر السليم عليها. ولا بأس أن نقول له وقد قرأنا ختام رده الذي أثنى فيه على نفسه وعلى كتابه بما هو له أهل: أنت كما أثنيت على نفسك، ولكن إذا كان كتابك قد اتخذه - كما زعمت - بعض الكتاب (مصدراً استنبطوا به أصول النقد) فلسنا بالذين نسمي الطعن المجرد للروايات أصولاً في النقد، وما لهذا أيضاً علاقة بالبحث. وهلا إذ ذكرت ذلك دللتنا على أسماء هؤلاء الكتاب والمجلات التي نشورا بها والمواطن التي قلدوك فيها لنهنئك على شيوع مذهبك وكثرة المؤمنين به؟ ولعلك فاعل عن قريب إن شاء الله.
أما أنا فما كنت أظن قط أن أسطراً تذكر عرضاً في رد فكرة، تثير مثل هذا الفاضل فيحمل منها هماً يجد وقره وعنته اثنين وأربعين يوماً ثم ينفثه في رده الذي تكرم به على مثل هذا الشكل.
لقد وددت والله لو أن الأستاذ شاكراً نقّب عن الحجة وتحرى الحق لأعترف له به وأرجع إلى قوله. وصحف (الرسالة) أحوج إلى أن تملأ بالحقائق والبرهان منها إلى الدعوى والانتقاض. وأتمنى للأستاذ أن يهجر هذا الأسلوب في الجدال، فما هو بمغنيه عن الحق شيئاً كما لم يغن طنين الأستاذ صروف بالإشادة بمزايا الكتاب في مقدمته. والمأمول من الله أن يأخذ بيد الأستاذ شاكر فيتمم لنا كتابه الضخم عن المتنبي الذي قُدِّرَ بأربعة مجلدات؛ وأتمنى أن أراه قريباً، وأن أرى فيه حقائق الرواية والدراية وأصول النقد لا ألفاظها فقط. وليس بمهم بعد ذلك أن تكون هذه الأصول حديثة يخترعها الأستاذ أو قديمة على غرار ما تألف عقول هذا الناس، إنما المهم أن تكون صحيحة سوية.
وسأكون سعيداً حقاً يوم ينقد الأستاذ الأخبار خبراً خبراً، فيعارض بينها ويقابل، ويمحصها تمحيصاً يرضيه هو ويستفيد منه القراء الذين لا يخفى عليهم وجه الحق في كلام اثنين، ولا يصرفهم عنه نيلٌ من صاحبه ومراوغة في الحط منه؛ فإن هذا هو الأشكل بالأستاذ الكريم والأليق بفضله والأولى بسجاياه، وله - في الختام - شكري وخالص تقديري والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.
(دمشق)
سعيد الأفغاني