مجلة الرسالة/العدد 171/مشرقيات

مجلة الرسالة/العدد 171/مشرقيات

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 10 - 1936



في الأدب العربي الحديث

للأستاذ أغناطيوس كراتشقويفسكي

للأستاذ بجامعة ليننجراد

- 2 -

ويعد كل من الشيخ محمد عبده (1843 - 1905) وجورجي زيدان (1861 - 1914) في مقدمة الكتاب الذين امتاز بهم هذا العصر. نعم إن أولهما لم ينتج شيئاً من المؤلفات الأدبية، لكن ذلك لا يدعو إلى إنكار الدور الهام الذي لعبه، فبفضل جهوده استقر رأي المسلمين في طريق التجديد، وازداد نفوذ الحركة الأدبية شيئاً فشيئاً، بحيث أثر الشطر الأكبر من المصريين. وظهرت في خلال ذلك أنواع أدبية جديدة كالرواية التاريخية. واصطبغت هذه الأنواع بصبغة خاصة تختلف كل الاختلاف عن نظيراتها، فكان الكاتب يوجه جل اهتمامه إلى تنسيق الألفاظ، إلى أن جاء المنفلوطي (1876 - 1924) فاتجه بهذا النوع إلى طريقه الكمالي.

أما المدرسة السورية المتأمركة فقد برزت إلى الميدان في خلال السنوات العشر الأولى من القرن العشرين، وهي على ما نظن كانت أقوى المدارس الأدبية العربية الحديثة من حيث استقلال شخصيتها. وزعماؤها: أمين الريحاني (1879) وجبران خليل جبران (1883 - 1931) الذي يمثل طابع جهودها. فقد رأس بمدينة نيويورك جماعة (الرابطة القلمية)، وكانت تلك الجماعة الأدبية تنشر دعوتها على صفحات مجلة (الصائح) التي تولى إدارتها عبد المسيح حداد. ومن أهم الصفات المميزة لهذه المدرسة، أنها قطعت كل صلة بأساليب الأدب القديم وبطريقة الكتابة العادية، واصطفت الأساليب القلمية المتطورة، أساليب الرسائل النثرية، والشعر المنثور المنمق إلى حد التكلف. وقد نال كثيرون من أنصار هذه المدرسة شهرة ذائعة في العالم العربي (حتى تونس والحجاز) فتأثر الكتاب بأسلوبهم. ومنهم أيضاً الشاعر الروائي ميخائيل نعيمة (1889) والشاعر رشيد أيوب (1862) وإيليا أبو ماضي (1889) ونسيب عريضة. . . الخ. وللمدرسة السورية الأمريكية بالبرازيل مركز خاص وأهمية محلية لا تأثير لها في البلاد العربية. والشعر هو المفضل المختار عند أنصار هذه المدرسة التي قوامها: الياس فرحات (1891)، ورشيد سليم خوري (1887)؛ وفوزي المعلوف (1899 - 1930). وقد شرع شكري الخوري (1871) في محاولة طريفة، هي استعمال اللهجة السورية الدارجة في الكتابة الأدبية، ولكن أحداً لم ينسج على منواله.

وقد انتهت سيطرة المدرسة السورية المتأمركة بانتهاء الحرب العظمى، فانقطعت الصلة بين روادها وبين الحياة الراهنة في العالم العربي، ورجع بعض زعمائها (كالريحاني ونعيمه) إلى وطنهم الأول. وقد عادت الآن زعامة الأدب إلى مصر وتركزت في المدرسة الموسومة بمدرسة العصريين. وترجع بوادر هذه الزعامة إلى عام 1907 حين تألف حزب الأمة وأنشأ (الجريدة) وتولى رياسة تحريرها أحمد لطفي السيد مترجم (الأخلاق) لأرسطو ومدير الجامعة المصرية الآن. وفي عام 1922 التف الكتاب المجددون حول جريدة (السياسة) التي يتولى إدارتها أحد الكتاب العصريين الذائعي الشهرة: محمد حسين هيكل بك (1888)، وأهم ما تمتاز به هذه المدرسة التعمق في فكرة الأدب وفي حاجات رجاله المتزايدة يوماً بعد يوم، وهي تختلف عن المدرسة السورية المتأمركة في أنها توجه جل جهودها إلى الأدب العربي القديم، وتبدي شغفاً خاصاً بالنقد وبتاريخ الأدب. وفي مؤلفات أنصار هذه المدرسة، نلاحظ للمرة الأولى أن روح الوطنية المصرية الخالصة تحل - عن عمد وإدراك - محل القومية العربية. وقد وجهت هذه المدرسة عناية خاصة إلى (الأقصوصة المصرية)، كما استطاعت شهرة ذائعة وأنصارا مخلصين متحمسين في سائر الأقطار العربية، بفضل اتساع نطاق الصحافة وانتشارها. وهكذا عادت مصر فتولت الزعامة للمرة الثانية في تاريخ الأدب العربي الجديد، وستظل محتفظة بهذه الزعامة، مرتكزة على دعائمها بثبات أعظم مما كانت عليه في نهاية القرن الماضي.

2 - أنواع خاصة

أ - الشعر:

لا يزال الشعر أكثر الأنواع انتشارا وأدقها محافظة، شأنه في عصور الأدب العربي القديم.

ففي جميع الأقطار العربية نجد شعراء لا عداد لهم. لكن تاريخ الشعر في القرن التاسع عشر والقرن العشرين ليس إلا تاريخ تجديد شباب الشعر القديم بطرق معدلة كل التعديل. فبينما كان الشعراء في الماضي يقلدون شعر عصور الانحطاط نراهم الآن ينسجون على منوال المتنبي والشعراء العباسيين وأحياناً شعراء الجاهلية. وقد لعب ناصيف اليازجي (1800 - 1876) دوراً هاماً في سوريا، إذ ظل محافظاً دقيقاً، لكنه كان مالكاً لناصية اللغة. وظهرت بوادر الأثر الأوربي في دوائر أخرى ظهوراً واضحاً، فرأينا فرنسيس مراش (1836 - 1873) الشاعر الحلبي، يحاول التعبير عن أفكار فلسفية اجتماعية في قصائد يسودها روح التشاؤم. أما في مصر فقد جاء تجديد شباب الشعر العربي متأخراً نوعاً، فاستهل الحركة محمود سامي البارودي (1839 - 1904) وإسماعيل صبري (1854 - 1923)، وقصائد كل منهما تطابق كل المطابقة أسلوب الشعر العباسي أو القديم، بل إنهما كانا يشيران أحياناً بوضوح إلى القصائد الأصلية المعارضة، ونلاحظ أن الحياة تدب بقوة في مؤلفات الشعراء المصريين المتعاقبين أمثال شوقي (1868 - 1932)، ومحمد حافظ إبراهيم (1871 - 1932).

قبل الحرب العظمى كان شوقي شاعراً بالمعية (شاعر الأمير) وكان من نوع ممتاز، قديراً في صناعة اللغة وصياغة الألفاظ، لكنه حصر شعره في دائرة الأسلوب التقليدي. وبعد الهدنة أخذت شهرته تتطاير في أنحاء العالم العربي وأطلق عليه لقب (أمير الشعراء). وقد حاول شوقي في السنوات الأخيرة أن يخلق المأساة (التراجيدي) في الأدب العربي. أما حافظ إبراهيم فهو من أبناء الشعب ولذا انحصر ميله في المواضيع السياسية والاجتماعية مع النسج على منوال المتقدمين من وجهة الأسلوب. وثالث الشعراء المصريين المعروفين هو خليل مطران، وقد ولد ببعلبك بسوريا حوالي سنة 1871 وأبدى نبوغاً ممتازاً في المصنفات الغنائية والروائية ذات الأسلوب الطليق الحر والمنوع (خصوصاً في القافية والوزن). وهنالك كتاب من الجيل الجديد نشر دواوين طلية كعباس محمود العقاد المولود في سنة 1889، وإبراهيم عبد القادر المازني المولود في سنة 1877، وأحمد محرم المولود في سنة 1877، وأحمد رامي المولود في سنة 1892. ومصطفى صادق الرافعي المولود في سنة 1880، وأحمد نسيم المولود في سنة 1878. وفي الأيام الأخيرة أظهر الجمهور ميلاً إلى تذوق شعر أحمد زكي أبي شادي. ومن الصعب أن نتكهن بالشاعر الذي سوف يحمل زعامة الشعر العربي بعد شوقي وحافظ.

وفي العراق جمع الشعر في القرن التاسع عشر والقرن العشرين أغرب الصفات على اختلافها وتباينها. فقد ازدهرت التقاليد الأدبية القديمة في المدن الكبرى كبغداد والموصل. وقاد حركتها شعراء أفذاذ أمثال عبد الغفار الأخرس (1873 - 1805) وعبد الباقي العمري الفاروقي (1789 - 1861) كما أن أسرة الألوسي لعبت دوراً هاماً في هذا الميدان. وفي النجف الأشرف وكربلاء، مدينتي الشيعة المقدستين، ازدهر الشعر العباسي وشعر البادية الصحيح في الأوساط الأدبية الشيعية. ولم نصل إلى معرفة أصول هذه المدرسة إلا بفضل ما نشره أحمد عارف الزين زعيم الطائفة الشيعية يصيدا (سوريا). وكان أبرز زعمائها إبراهيم الطباطبائي (1832 - 1901). وفي العراق كما في مصر - حاول المجددون إعادة الشباب إلى الشعر العربي القديم. وأتيح لنا أن نقتبس هذه الظاهرة بوضوح في شعر عبد المحسن الكاظمي (1865 - 1934). وبالنظر إلى أنه يقيم في مصر منذ نهاية القرن الماضي فقد خصص بعض قصائده لسرد الحوادث المصرية. وهنالك شاعران آخران جديران بالذكر وهما يمثلان الاتجاه الجديد خير تمثيل، أولهما جميل صدقي الزهاوي (1869 - 1936) ومعروف الرصافي (1875). وقد كان الزهاوي مشرباً إلى أقصى حد بالروح الفلسفية، وكان يطلق لنفسه الحرية التامة فيما يتعلق بالأسلوب. ولم يتردد مطلقاً في ابتكار الأوزان والقوافي المختلطة. وكثيراً ما نظم الشعر المرسل حيث يسير على الوزن دون القافية. بعكس الرصافي إذ حصر شعره في دائرة الأسلوب التقليدي، لكنه يمتاز بعبقرية الشاعر الواقعي، سواء في شعره الغنائي والوصفي، أو السياسي والاجتماعي؛ وقد جاوزت شهرة هذين الشاعرين حدود بلادهما. أما في سائر الأقطار العربية، فالشعر رغم وفرته وكثرة إنتاجه، لا تتعدى أهميته الحدود المحلية.

ومن شعراء سوريا عنحوري (1855) وهو شيخ مسن على اتصال دائم بمصر ومتشبع بالآراء العصرية إلى حد بعيد، وعيسى اسكندر المعلوف (1869) شاعر وعالم من نوع وحيد، وهنالك طبقة من كتاب الجيل الحديث اشتهروا الآن في الأوساط الأدبية، نخص بالذكر منهم: شفيق جبري (1895) وخليل مردم (1895) وحليم دموس (1888) وأحمد عبيد، ومحمد البزم (1887)، ومحمد الشريقي (1896) وسليمان الأحمد المعروف باسم (بدوي الجبل) الخ.

وفي المهجر كثير من الشعراء الذين تطبع مؤلفاتهم وتذاع في بلاد أخرى، بخلاف الأمر في سائر الأقطار العربية حيث لا تتعدى شهرة الشعراء النطاق المحلي ولا يقدر مؤلفاتهم سوى مواطنيهم (مثال ذلك محمد الشاذلي خازندار بتونس). أجل، إن الشعر الغنائي العصري منوع المقاصد، مشبع بروح الفن الناضج الدقيق، ولكن المجال لا يزال متسعاً لابتكار أساليب أرحب مدى. وقد ظهرت ترجمة (الإلياذة) للبستاني في عام 1904 لكنها لم تسفر إلا عن بعض محاولات تقليدية، أما الشعر الشعبي (الزجل) الذي تستعمل فيه العامية بدلاً من الفصحى، فالواقع أنه لم ينتج سوى مؤلفات فكاهية انتقادية، شأنه كما كان في الأزمنة السالفة (أسعد رستم بأمريكا)، وأكثرها يرمي إلى أغراض سياسية (عمر الزعني بسوريا).

ب - القصة والأقصوصة:

لم تنشأ القصة أو الأقصوصة من أصل عربي كالمقامات والقصص الحماسية بل ترعرعا بتأثير الأدب الأوربي المباشر. وقد ظهرت أولاً القصة التاريخية التي لم تصل إلى شأو الكمال من الوجهة الأدبية. كان أول بزوغ هذا النوع في محيط البستاني بسوريا، وعني به ابنه سليم (1848 - 1884) بقصد اتخاذه وسيلة في التربية والتعليم. وفي عام 1884 وضع جميل المدور (1862 - 1907) أخبار أيام هارون الرشيد (؟) فارتفع بهذا النوع إلى مكانة أسمى، وإن كانت تلك (الأخبار) أقرب إلى الآثار منها إلى الأدب، وقد بلغت القصة التاريخية ذروتها في مؤلفات جورجي زيدان، حيث كان يطالع القراء بقصة في كل سنة تقريباً، قصة جديدة من سلسلة تاريخية طويلة الحلقات.

ولقد ولد زيدان مؤرخاً بطبعه، فأراد أن يتخذ من قصصه وسيلة لجعل التاريخ في متناول العامة، وأن يهيئ للجمهور مطالعات طريفة سهلة، فالغرض الذي كان يرمي إليه هو التعليم والتثقيف، ولذا تراه لا يعلق أهمية تذكر على المسائل الأدبية البحتة. وقد نالت مؤلفاته إقبالاً منقطع النظير، بل إنها كانت فاتحة عهد جديد في الأدب العربي الحديث.

(يتبع) ترجمة محمد أمين حسونة