مجلة الرسالة/العدد 172/النظرية العامة للالتزامات

مجلة الرسالة/العدد 172/النظرية العامة للالتزامات

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 10 - 1936



في الشريعة الإسلامية

للدكتور شفيق شحاتة

إن صرح القانون مشيد على فكرة الالتزام. وقد ارتدت هذه الفكرة في القانون الخاص رداء خاصاً، حيث ظهرت في صورة الحق الشخصي، المقابل للحق العيني. ثم هي فيه، تخضع لقواعد عامة، تحكم مختلف المسائل التي تعرض للالتزام. وقد استخلص هذه القواعد فقهاء الرومان، ونقلت عنهم في القوانين المستمدة من التشريع الروماني. وجمعت هذه القواعد، النظرية المعروفة بالنظرية العامة للالتزامات، وهي نظرية أجمعت الآراء على أنها من خير ما أنتجت قريحة الرومان القانونية.

أما في الشريعة الإسلامية، فقد وجه الفقهاء جهودهم نحو الحلول الفرعية، ولم يحاولوا وضع قواعد عامة تحكم الالتزام في مصادره، وفي آثاره، وفي طرق انقضائه. على أن بالشريعة الإسلامية كنوزاً من الأفكار والآراء والتصويرات القانونية، فإذا نحن أردنا الانتفاع بها يتحتم علينا أولاً الوصول إلى القواعد العامة التي تحكمها جميعاً، إذ لا يقوم العلم إلا على أساس من القواعد العامة.

ثم إن الفقه الإسلامي، قام وترعرع في مدى أجيال عديدة، وساد في مختلف الأقطار التي جمعتها المدنية العربية، تلك المدنية التي تركت آثاراً خالدة في جميع مناحي العلوم والفنون. فليس من الغريب أن يكون أثرها كذلك في ناحية التفكير القانوني. وفي الواقع قد ظهر هذا التفكير في صورة من أبهى صوره، ولا تزال آثار هذا التفكير من أنفس ما يدخر الشرق من التراث العلمي.

فمن العقوق إذن أن يهمل هذا التراث؛ ومن العناية به أن يعمد إلى التأليف بين فروعه. ففي جميع الأمم وفي مختلف العلوم عمد العلماء إلى التركيب بعد التحليل؛ وقد قام الفقهاء بقسطهم الوافر من التحليل، فيتعين البدء من حيث انتهوا، وبهذا العمل نكون قد وصلنا ما كان قد انقطع. فعسى أن يكون الاهتمام بالآثار القانونية لفقهاء المسلمين على هذا الوجه فاتحة عصر إحياء لتشريع لا يمكن أن يكون ملائماً مثله في بلاد كانت مهداً له ومرتعاً.

وإن في هذا العمل تحقيقاً كذلك لغرض من أغراض التشريع المقارن، وقد أعلن المؤ الدولي المنعقد بلاهاي في سنة 1932، ما يعلقه من الأهمية على التشريع الإسلامي، كمصدر من مصادر التشريع المقارن.

1 - طريقة البحث

1 - الطريقة الموضوعية

لا يخفى أن القيام بهذا العمل يقتضي من الباحث اعتماد خطة معينة، فقد لوحظ أن الخطة التي اتبعت للآن لم تكن مما ترتضيه دائماً القواعد العلمية.

فإنا نجد من جهة أن من تصدى من العلماء الغربيين لمعالجة هذه المسائل لم يصل أبداً إلى تفهم روح النصوص، وهم في الغالب، يجهلون أيضاً اللغة التي وردت بها هذه النصوص. أما المستشرقون، فلا نجد بينهم القانوني الفقيه الذي سرعان ما يلحظ ما للنص من خطر.

ومن جهة أخرى، نرى المؤلفين الشرقيين تنقصهم الروح العلمية، ومؤلف (سافاس باشا) على شهرته مثل ناطق لهذا النقص.

وكذلك الأمر في الرسائل والمؤلفات التي حاول فيها مؤلفوها التقريب بين الفقه الإسلامي وبين آخر ما وصلت إليه اتجاهات المحاكم في عصورنا هذه، فما كان من تأثير حماسهم الصبياني إلا مسخ الشريعة الإسلامية.

فمن المتعين إذن أن نضع في مواجهة هؤلاء وهؤلاء الطريقة التي نرى وجوب اتباعها، وقد سميناها الطريقة الموضوعية التاريخية لأنها تتناول موضوعات البحث وتقررها كما وردت في النصوص مراعية في ذلك منتهى الأمانة، ثم هي تتتبع هذه النصوص على مدى الأجيال لتتلمس تطورها التاريخي. فهي قائمة على فكرة أساسية، ألا وهي أن التشريع كائن حي وليد الهيئة الاجتماعية، ينمو بها ولها، ويتطور معها، ويجمد عند جمودها.

وهذه الطريقة تعمد لذلك إلى المسائل. فقد رأينا أن التشريع الإسلامي لم يعن إلا بالمسائل، فإذا أردنا تفهمه على حقيقته، وجب أن نتقصى المسائل ونستوعب ما ورد عليها من الحلول، فتكون هي الحجارة التي بها يتم بناء هيكل النظريات بصرف النظر عما حشر في الكتب حشراً لتفسير هذه الحلول إذا كانت هذه التفسيرات لا تتفق والواقع.

فمن يتصفح كتب الفقه يتبين أن التفسير الذي يرد على الحلول لا يكون صادراً دائماً عن مبادئ عامة، متمشية في جميع أجزاء الجسم الواحد، بل هو يرمي إلى تبرير الحل الذي ورد بشأنه فقط، تبريراً يستند سواء إلى فكرة مقبولة عقلاً، أو إلى أن حلولاً مشابهة قد جاءت في مناسبات أخرى.

ولكن هذا التبرير المباشر لا يمكن اعتباره كافياً، إذ قد تكون هناك مسائل أخرى مماثلة أيضاً ولم تحل على نفس الشكل. فالتفسير الصحيح يكون بإيراد التعليل الذي ينطبق على أكثر المسائل المتشابهة، مع ذكر ما دعا إلى الأخذ بغير ما يقضي به في مسائل معينة أخرى.

وهذه الطريقة تصل بنا إلى العلل الرئيسية والأخيرة للحلول، وهذه العلل وحدها هي التي يقبلها العلم، ويجب اعتبارها دون غيرها وإحلالها محل ما استبعد من التعليلات.

وقد تتعدد في كتب الفقه الطرق لتبرير الحل الواحد. أما تعدد الأدلة فأمر لا شائبة فيه لو كانت الأدلة جميعها تتضافر لتكوين مبدأ واحد يقضي بالحل موضوع النظر.

ولكنا نجد في الغالب الطرق لا الأدلة تتعدد، وكل طريق منها صادر عن فكرة قد تكون متنافرة مع الفكرة التي أوحت بالطريق الآخر.

ففي الخطة التي نقول بها تلزم الاستعانة بالروح العامة للتشريع، لاستبعاد ما يتبين فضوله من الطرق. فإذا ما اكتفى بأحدها وجب الاحتفاظ به في جميع المناسبات، حتى إذا ما اضطر الباحث اضطراراً إلى الرجوع إلى الطريق الآخر في حالات أخرى معينة وجب اعتبار هذه الحالات استثناءات لما سبق تقريره كمبدأ عام، وقد تنم هذه الحالات عن اتجاه التطور في التفكير.

وكذلك التكييف القانوني النظري لا يخضع دائماً عند الفقهاء لفكرة واحدة. صحيح أن تعقد الظاهرة القانونية قد يحول في بعض الأحوال دون تصويرها على أساس الفكرة والواحدة. ولكن في هذه الأحوال يقتضي منا المنطق أن نغلب العنصر المسيطر على هذه الظاهرة؛ وعند تصويرنا لها نلاحظ ما شذ على تكييفنا القانوني من الحلول؛ ولا يلجأ إلى ذلك إلا إذا لم يعثر في التشريع الإسلامي نفسه على تصوير ينتظم النظرية بما حوته من الحلول جميعاً.

يتضح مما تقدم أنه إذا كان تقيدنا بالحلول وثيق العرى فالأمر بخلاف ذلك بالنسبة للشروح؛ ولا يخشى من هذا التحرر على صحة تفهم روح التشريع، فقد قلنا إن التشريع الإسلامي قائم على هذه الحلول، وروحه فيها وحدها.

على أن هناك محظوراً آخر. فأنا إذا نحن فرضنا على التشريع الإسلامي أفكاراً غريبة، اقتضتها أساليب التشريعات التي نشأت فيها نكون قد مسخنا هذا التشريع بالفعل.

فيلزمنا إذن التجرد من أساليب هذه التشريعات، وإذا نحن حاولنا الوصول إلى المبادئ الأولية، فلن تكون إلا تلك التي يتطلبها كل تشريع لمجرد كونه وليد العقل البشري، وهو واحد مهما اختلفت الأمكنة والأزمنة.

وذلك كله لا يحول دون الاستعانة في عرض المسائل بما جربنا عليه في بحث قوانيننا الحديثة على أن يكون هذا إطاراً خارجياً، وعرضة للتحوير وفقاً لمقتضيات التشريع الإسلامي.

لذلك لن نعير كثيراً من الاهتمام ما حوته الكتب الفقهية من الأمثال والأصول، فهي في الغالب عبارة عن مبادئ يقضي بها المنطق أو العدل، لا نفس النصوص التي وردت بمناسبتها. ونذكر هنا أن مما استنفد نصيباً من نشاط الفقهاء مقارنة الحلول بعضها ببعض لإظهار الفروق والأشباه، على أنهم في هذا كله قلما يرتقون إلى المبادئ الأولية العامة.

أما علم أصول الفقه فهو شديد الاتصال بعلم الكلام، ولا يفيد في دراسة موضوعية للنصوص، فهو أشبه بفلسفة القانون منه بالقانون.

وقد قرب فقهاء الحنفية بينه وبين الفروع، ومع ذلك يقول (الحموي) (أنظر (الغمز) ج1، ص245) إنه: (لا عبرة بما في كتب الأصول إذا خالف ما ذكر في كتب الفروع كما صرحوا به).

وكذلك لا يلتفت في دراستنا الموضوعية إلى مصادر التشريع، ذلك أن (القرآن الكريم)، لم يأت إلا بقليل من الآيات في موضوع الالتزامات، وهي في الغالب من قبيل القواعد الأخلاقية.

أما (الأحاديث النبوية)، فهي أيضاً قليلة العدد، وسيؤخذ بها على أنها نصوص إذا جاءت بحلول معينة لبعض المسائل. ولن نتعرض لما وجه من الطعون إلى بعض هذه الأحاديث، فهي لمجرد ورودها تنم عن اتجاه خاص في التفكير.

فالعبرة إذن دائماً بالمسائل وأحكامها. ومما يؤيد وجهة النظر هذه أن في عقد البيع قد وردت أحاديث متعددة في صيغة النهي، وقد فرع الفقهاء عليها البطلان في بعض الأحوال، ومجرد الكراهية في البعض الآخر بالرغم من اتحاد الصيغة في جميع الأحوال.

يتضح من ذلك أن التشريع الإسلامي في موضوع الالتزامات يفقد صبغته الدينية.

ونذكر هنا أن هذا التشريع لا يمنع مصدره الديني من اعتباره تشريعاً بالمعنى الصحيح، ذلك أنا إذا نظرنا إلى ماهية القاعدة القانونية في هذا التشريع ألفيناها تتضمن جميع العناصر التي تلاحظ في القواعد القانونية.

من ذلك ابتناؤها على المظّان، وابتعادها عن التوغل في الدوافع النفسية؛ ومن ذلك أيضاً الجزاء المترتب على مخالفتها، فقد فرق الفقهاء بجلاء بين ما هو واجب قضاء، وما هو واجب ديانة.

أما (القياس) وقد اعتبروه مصدراً من مصادر التشريع، فهو، في الواقع، عملية من عمليات الاستدلال يقوم بها العقل، إذا أراد الوصول إلى حكم عن طريق الاستنتاج.

وهذه العمليات العقلية تؤدي إلى وضع حدود وتقسيمات، وشأن علم الفقه منها شأن سائر العلوم الأخرى.

وإذا استعمل العقل في مهمة استنباط الأحكام، فقد يؤدي به منطقه الجامد إلى حلول قد تتعارض مع فكرة العدالة المطلقة أو مع بعض الأحاديث الصريحة فيلجأ الفقهاء عندئذ إلى ما يسمونه (الاستحسان).

فالحكم الذي يقضي به الاستحسان ليس في الواقع إلا استثناء اقتضته قواعد العدل والإنصاف أو أسباب أخرى.

وقد يستعمل الاستحسان لإدخال ما استقر عليه (الإجماع) في التشريع.

وقد يتعين اعتباره كالعادة والعرف، عاملاً من عوامل التطور، إذا تبين أن التشريع الإسلامي قد تأثر بالفعل بواسطته. وهذا هو موضوع الطريقة التاريخية.

(يتبع)

شفيق شحاتة