مجلة الرسالة/العدد 173/تبسم!!

مجلة الرسالة/العدد 173/تبسم!!

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 10 - 1936


َّم!!

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

(تبسم!!)

(إيه!!)

(تبسم!!)

(أتبسم؟؟)

(نعم. .)

(هل تريد مني أن أتبسم؟.)

(نعم. . هذا ما أعني)

(ولكن كيف؟. أعني أني لا أريد. . . لا أشعر بحاجة إلى الابتسام؟)

(ألا تستطيع أن تتبسم؟.)

(ربما أمكن أن أتبسم بفمي فقط ولكن هذا ليس ابتساماً)

(بفمك. . . . برجلك. . . تبسم والسلام)

فقلت: (طيب هه) وتكلفت الابتسام كما أراد فقال: (حسنا. . والآن. . جرب مرة أخرى)

فنظرت إليه - حدقت في وجهه فقد خامرني الشك في عقله ولكنه كان ساكناً لا يبدو عليه غير ما ألفت منه. ولما طال نظري إليه قال: (هل فرغت؟؟ إني منتظر)

فسألته (ماذا تنتظر؟.)

قال: (أن تتبسم. . تفضل)

فلم يسعني إلا أن أضحك وأن أضرب كفاً بكف فقال: (هذا أحسن. . . ولا بد أنك تشعر أنك أحسن حالاً بعد هذه الضحكة العالية)

فأمسكت من القهقهة - أعني حبست ما كنت أريد أن أنفجر به من ذلك - وقلت له: (ما هي الحكاية. . . . لست أكتمك أني مستغرب سلوكك في هذه الليلة)

فقال: (استغرب ما بدا لك أن تستغرب. . . إنما المهم أن تتبسم)

قلت: (شيء جميل ولكن ألا ترى أن الأمر يحتاج إلى شيء من الإيضاح. . الواقع أني لست فاهماً شيئاً) قال: (لا بأس. إسمع. إنك رجل كاد ينسى الابتسام وهذا هو مرضك لا ما تتوهم أن معدتك وأمعاءك مصابة به. ليس بك شيء. كن من هذا على يقين جازم. وإنما الذي بك أنك لم تعد تعرف سرور الحياة. والذنب في هذا لك لا للحياة. لا تقل لي إن الحياة لم تعرض عليك إلا صفحاتها الدميمة التي تثير الاشمئزاز والتقزز وتغري النفس بالكآبة والجهامة فإن هذا الكلام فارغ. وأنت الذي أغريت عينك بهذه الصور القبيحة ولولا ذلك لاستطعت أن ترى الصفحات الأخرى المشرقة الوضيئة التي تنعش النفس وتحييها وتجددها. بل إن الذي تتعلق به عينك من صور القبح والدمامة لا يخلو من جمال يشرح الصدر ويفرح القلب. وليست هذه فلسفة ولكنما هي وصف للواقع من أمرك وأمر المتفلسفين الذين يقرءون ولا يفهمون. نعم لا يفهمون. . تقول إنك قرأت الأدب الإنجليزي وتوفرت عليه وأنا أعرف ذلك ولا أجهله، وأعرف أنك قرأت أديسون فلماذا لم تفهم صورته الوصفية لجبل الهموم أو تله أو ما شئت فسمه. الواقع أنك قرأت ولم تعن إلا بالجانب الذي يوافق مزاجك النفسي الذي أسمح لنفسي أن أسميه الأعور - أي الذي لا يرى إلا بعين واحدة ولا يتأثر إلا من جانب واحد. أتقول إن الأمر أمر خلقة وطباع. . لا يا سيدي. . . إننا نتعلم كيف نضبط غرائزنا وطباعنا الحيوانية، وكذلك نستطيع أن نهذب ما نظنه طباعا فطرية في نفوسنا لا تقبل التهذيب والتنقيح والصقل. على أن المسألة ليست مسألة طباع وإنما هي مسألة نظر، فلماذا تنظر إلى جانب السوء وحده ولا تنظر أيضاً إلى جانب الخير والحسن والجمال والفكاهة. . . باختصار - أنظر واضحك يا سيدي. . . ولن تعدم ما يضحك في أي أمر وأي حال، واعلم أنك حين تضحك يتأثر جسمك كله وأعصابك أيضاً. وثق أن ضحكة واحدة تطلقها كافية لتغيير حالتك النفسية. . . هذا علاجك. . فاذهب عني ولا تعد إلي فأن شفاءك في يديك).

وخرجت أقول إن هذه فلسفة جديدة لا تستحق ما غرمت في سبيلها، ومشيت أفكر في هذا ومضيت أبدي وأعيد فيه بيني وبين نفسي فاصطدمت برجل كان مقبلاً علي فصاح بي بعد أن حك أنفه كما حككت أنا أنفي (اللي واخد عقلك يتهنا به. . . مالك كده زي المسطول) فغلا دمي حين سمعت ذلك ثم ذكرت نصيحة الطبيب فضحكت فقال الرجل (وبتضحك كمان) فقلت له (يا أخي إذا كنت أنا مسطولاً فأنت مثلي، وإذا كان شيء قد أخذ عقلي فإن عقلك لم يكن على ما يظهر في مكانه. ثم إن منظرنا حين اصطدمنا لا شك يبعث على الضحك. وقد ضحك الأطفال والرجال والنساء وكادت الحيوانات تضحك حين وقعت المصادمة والتقى الأنف بالأنف فلماذا تضحك الدنيا كلها ولا يعبس فيها ويتشاجر ويتشاتم إلا أنا وأنت (فقال صدقت. . معك الحق) وصافحني ومضى عني راضياً.

ودخلت (قهوة) أو (مقهى) فألفيت إخواناً لي يلعبون (الورق) وهو شيء لا أحسنه ولا استعداد عندي لفهمه. وكان مع أصحابي اثنان لا أعرفهم فقدموني إليهم وسموهم لي بأسمائهم فقعدت على كرسي بعيداً عنهم، ثم ضجرت فوقفت أنظر إلى اللعب وإن كنت لا أفهم شيئاً، ولكني رأيت هذا خيراً من الوحدة. ولم أشأ أن أظهر جهلي فجعلت أتظاهر بالفهم. ولم أكن أقول شيئاً ولكني كنت أبتسم كأني فاهم. واتفق أن أحد الغريبين كان أكثرهم كسباً فنظر إلي فألفاني أتبسم فقلب الورق وأشار إلي وقال: (كلمة من فضلك) وتراجع عن الكرسي فدرت إليه ووقفنا بجانب مرآة كانت خلفه فقال - أو همس على الأصح -: (إنك تعرف بالطبع أن هذا اللعب مزاح لا جد فيه)

قلت: وأنا أستغرب هذا الكلام الذي لا أرى له داعياً (لم أكن أظن هذا) وابتسمت، فقد بدا لي أن من المستغرب بل من المضحك أن يكلف نفسه عناء التأكيد لي أن اللعب لا يراد به أكثر من تزجية الفراغ. ومالي أنا. . ما شأني بهم. . . أتراه توهمني من الشرطة. . أم ترى هذا المحل من المحلات التي لا يباح فيها لعب الورق.

كان هذا يدور في نفسي وهو يقول لي: (بالطبع مزاح. . وسيرد كل منا ما كسبه إلى إخوانه. . وقد أردنا أن يظهر كل منا براعته في. . . في. . . فاهم. . . أليس كذلك. . . . هذا لا يسمى غشاً. . . لا لا. . أستغفر الله. . . لو كنا نلعب جادين لكان غشاً ولا شك، ولكن في المزاح يجوز ما لا يجوز عند ما يجد المرء. . أليس كذلك. . . هه هه. .)

ومضت أيام فلقيت واحداً أعرفه ومعه فتاة في بعض الطريق ولم أنظر إليهما ولكني كنت أنظر إلى الناحية التي أقبلا منها، وكنت أبتسم لخاطر في نفسي فوقعت عيني في عين صاحبي هذا والابتسامة على فمي فأقبل يعدو ورائي حتى أدركني ثم تنحنح وقال: (ممممممم أظنك. . . يظهر. . . أريد أن أقول. . . الحقيقة إنها بنت عرفتها أمس. . ولكن. . أعتقد أنك. . أعني أني. . الواقع أنه لاشيء هناك بيننا. . معرفة جديدة. . . بنت حلال. . .)

وقد سقت عباراته بعضها وراء بعض ولكنه كان يتنحنح كثيراً ويمسح العرق المتصبب بمنديل كبير فلم يسعني إلا أن أضحك فما استطعت أن أفهم لماذا رأى من واجبه أن يجشم نفسه هذا البيان أو الاعتذار. . . لست أباه ولا أخاه ولا أنا وصي عليه ولا لي عليه أي سبيل. . .

وقد حال الضحك دون الكلام - أعني دون الجواب - فصافحته وتركته يمسح عرقه.

وركبت الترام مرة وكان الجالس أمامي في يده جريدة يتأمل صفحتها المصورة وكنت أنا أتسلى بالنظر إلى الطريق من النافذة التي وراءه فرأيت فتى علق ثوبه الفضفاض بدراجة ولم يستطع تخليصه منها فجعل يجري معها وراكبها لا يعني بالوقوف فابتسمت وكانت الدراجة تساير الترام فظللت أتبسم ولولا الحياء لقهقهت وإذا بجليسي يتكلف الابتسام ويتحركفي مقعده ويقول فجأة - فما كان بالي إليه بل إلى المنظر الذي وراءه - (الحقيقة أن الفن الصحفي تقدم جداً)

فتنبهت وقلت: (جداً. . صحيح) وجازيته ابتساماً بابتسام

فسعل وقال: (الإنسان معذور إذا بدأ بصفحة الصور وما فيها من المناظر الجميلة)

فاستغربت كلمة (المناظر) وسألته (المناظر)

قال: (أعني صور الفتيات الجميلات. . . ولكني لا أشتري الجريدة لهذا وحده. . . . لا لا لا أعوذ بالله. . أرجو ألا تكون جعلتني من هذا الفريق الذي لا يعنيه من الصحف إلا صور النساء لا لا لا. . . . أؤكد لك أني أقرأ. . . . أقرأ. . . . أقرأ كل شيء

قلت: (طبعاً. طبعاً. . . ظاهر يا سيدي ظاهر)

قال: (ثم إني موظف ورب عائلة. . لي زوجة وأولاد. .)

فهممت بأن أقول له إن كونه رب أسرة وذا زوجة وأولاد لا يبدو أنه منعه أن يعترف لي - وأنا غريب بما أراد أن ينفيه ولكني لم أقل شيئاً واكتفيت بالابتسام ونزلت عند أول محطة وقفنا عندها.

الحقيقة التي أعترف بها أن طبيبي هذا لم يكن مخرفاً فقد أفادني الابتسام صحة وعافية وانشراحاً وزاد فعلمني ما لم أكن أعلم، وإذا كان القارئ في شك مما أقول فما عليه إلا أن يجرب فعل الابتسام لأمر أو خاطر لا علاقة له بجليسه مقترناً بسقوط النظرة في عينه عفواً. وليخبرني بعد ذلك بالنتيجة إذا شاء، فما أشك أنا في أنها ستدهشه وتكشف له عن كثير من أسرار النفوس لم يكن يخطر له على بال.

إبراهيم عبد القادر المازني