مجلة الرسالة/العدد 173/في الأدب التحليلي

مجلة الرسالة/العدد 173/في الأدب التحليلي

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 10 - 1936



صورة. . .!

(مهداه إلى أخي الأستاذ أنور العطار)

للأستاذ علي الطنطاوي

. . . كان معروفاً بالشذوذ والخروج عن المألوف، لا يبالي إذا اتجه له الرأي ما يقول فيه الناس، ولا يحفل إذا أزمع الأمر نهى ناهٍ ولا نصيحة ناصح، وكان يعرف ذلك من نفسه ولا يغضبه أن يوصف به، بل كثيراً ما سمعناه يتحدث به ويطيل الحديث، يجد في كشف دخيلته للناس لذة وارتياحاً، كأنما هو يلقي عن عاتقه حملاً ثقيلاً. . .

يجمع في نفسه المتناقضات: فبينما هو منغمس في لج الحياة المضطربة المائجة يفزع من الوحدة، ويكره الهدوء، ويركب متن المغامرات في الأدب وفي السياسة، يحطب في المجامع، ويناقش في الصحف، وبينما هو مطمئن إلى هذه الحياة، مقبل عليها، إذا به قد استولت على نفسه (فكرة صوفية. . .)، فغمرت الكآبة روحه، وفاض اليأس على قلبه، وأحس الحاجة إلى الفرار من الناس، والرغبة في العزلة المنقطعة، وأصبح يكره أن يرى أمس أصحابه به، وأدناهم إلى فلبه، ويحب الحياة الساكنة الهادئة، ويجد الأنس في حديث قلبه ومناجاة ربه. . .

وهو أسرع الناس إلى المزاح والفكاهة، وأضيقهم بمجالس الجد، وأبعدهم عن تكلف الوقار، واتباع (الرسميات)، فلا يكون في مجلس إلا حركه بحديثه وإشاراته ونكاته، وأفاض عليه روح المرح، والود الخالص، ولكن موجة من الحزن المفاجئ، قد تطغى على قلبه في أشد الساعات سروراً، وأكثر المجالس طرباً فإذا هو حزين كئيب. قد ضاق بالناس وتبرم بمزاحهم وهزلهم، وغدا راغباً في الجد محباً للوقار، متلبساً بالصرامة والحزم، منصرفاً عما كان فيه منذ لحظة واحدة، لا يعرف الناس ولا يعرف هو، ماذا أصابه، فنقله من حال إلى حال.

تغلب عليه العاطفة حيناً فيمسي ارق الناس شعوراً، وأرهفهم حساً؛ يرى المشهد الجميل من مشاهد الكون، أو يسمع النغمة العذبة الشجية، أو يقرأ البيت الغزلي الرقيق، أو القصة العاطفية المحزنة، فتوقظ في نفسه عالماً من الذكريات، فيخفق لها قلبه، ويهفو لها فؤاده، ويحس بها تلذعه لذعاً، وتفيض على نفسه شعوراً طاغياً، بحب مبهم غامض، لا يجد طريقاً ينبعث منه، فيزلزل كيانه زلزلة، كما يزلزل البركان الأرض، إن لم يجد فوهة يندفع منها. . . ويدعه شخصاً متهافتاً، لا يقوم إلا على أعواد من العواطف الرقيقة المتداعية. . . ويسيطر عليه العقل أحياناً فيحتقر العاطفة، ويدعو إلى أدب قوي نافذ، ويسخر من الحب ويهزأ بالعاشقين، ويزدري هذه القصص وهذه الأشعار التي كان يرقص لها قلبه وتفيض لها مدامعه. . .

ويقبل على العمل بهمة عجيبة ورغبة قوية، فيطالع ويكتب، ويعمل كآلة دائبة الحركة، لا يأخذه ضعف ولا خور، ثم يشعر فجأة بكراهية العمل والنفور من المطالعة الجدية والعزوف عن الكتابة والتأليف ويستولي عليه كسل عقلي عجيب، لا يطيق معه عملاً من الأعمال. . .

عرفته في دمشق، وقد كان يعمل في مدرسة ابتدائية، نزلوا به إليها، فلا يكلفه العمل فيها جهداً ولا مشقة، ولا يشغل من تفكيره شيئاً، فكان يستمتع بوقته ونفسه كما يشاء، ويشتغل بالأدب للذة والمتعة الفنية. فيقرأ ما طابت له القراءة، ويكتب ما رغب في الكتابة، ويؤلف ما مال إلى التأليف. . . فكرة هذه الحياة وهوى الحياة العقلية المنظمة التي تضطره إلى نوع من الدرس بعينه، وتجبره على نوع من الكتابة بذاتها - وكان يعيش في أسرة رفرف عليها الحب، وسادها الإخلاص وأسبغ عليها ثوب السعادة، بين اخوة له ما رأى الراءون مثلهم في ذكائهم واستقامتهم وطاعتهم إياه، وحبهم له، وحرصهم على رضاه، وصحابة له ما فيهم إلا أريب طيب النفس، صادق الود صافي السريرة حسن السيرة، وكان له في بلده منزلة يحسده عليها من هو أكبر منه سناً وجاهاً، وأكثر علماً ومالاً، فمل هذه الحياة ومال إلى الهجرة وانتجاع أفق جديد. . . وأزمع السفر إلى بغداد، تاركاً عمله في وزارة معارف الشام، عاصياً الناصحين والناهين من الأهل والأصحاب. . . وجاء معنا إلى بغداد، فلم يكد يلقي فيها رحله حتى عراه اكتئاب وملل لا يعرف له سبباً، وأحس الحنين يحز في قلبه والشوق يدمي فؤاده، وانتابته إحدى نوباته العاطفية، فلم تدع في رأسه إلا فكرة واحدة، هي الرغبة في العودة، لا يبالي معها ماذا قيل عنه، وماذا ضاع من عقله، فصحا من نوبته، وتخلص من عاطفته، فآثر البقاء وأقبل على العمل، فلم يمض عليه يوم حتى سمع من ينشد:

فيم الإقامة بالزوراء؟ لا شكني ... بها ولا ناقتي فيها ولا جملي!

فنشطت عاطفته المكبوتة من عقالها، تصرخ في وجه العقل، أن: فيم الإقامة بالزوراء؟ فغلب العقل واستحذى وذهب يستعد لمعركة أخرى. . .

ولقد وجد في بغداد من الإكبار فوق ما كان يرجو ونرجو له، ووجد اسمه قد سبقه إليها، وحف به قراؤه والمعجبون به، وأسرعوا للسلام عليه والاجتماع به، فلم يكن أبغض إليه وأشد عليه من هذه الاجتماعات، فكان يعرض عنهم ويرتكب في هذا الباب أشد الحماقات، حتى إنه ليدع الجماعة من علية القوم في ردهة الفندق ويفر منهم، وما جاءوا إلا من أجله، فيقوم من غير استئذان ولا اعتذار، ويذهب إلى غرفته فيعتصم بها. . وإنه ليعلم ما في عمله من الجفاء، ولكنه يضطر إليه اضطراراً، فهو يشعر أن جو هذه المجالس ثقيل عليه حتى ليوشك أن يخنقه ويغدو فيه كمن سد أنفه وفمه، وإنا لنلومه ونثقل عليه الملام، فلا يدفع عن نفسه لوماً ولا يحاول إنكاراً، ويعترف بالضعف، ويقر بالعجز، فنرحمه ونكف عنه.

إنه لا يستطيع أن يحمل اسمه، لا يقدر أن يتلقى بوجهه وجسمه هذا الإعجاب الذي يزعمون أنهم يوجهونه إلى الشخص الآخر الذي ينشر في (الرسالة) كأن له شخصيتين، فهذه التي يأكل بها ويشرب ويمشي ويضحك ويمزح غير تلك التي يفكر بها ويكتب ويؤلف وليس بينهما من صلة ولا يربطهما سبب من الأسباب. والعجيب من أمره أنه يضيق بالكلام في مثل هذه المجالس ويتهيبه، وتظنه أول ما تلقاه حيياً عيياً لا يفصح ولا يبين، فإذا أنت اتصلت به وعلقت حبالك بحباله، رأيته مفوهاً طلق اللسان شديد البيان. وإن أنت خالطته وعرفت دخيلته أبصرته لا يتهيب موقفاً خطابياً مهما كان شأنه، ولا يخشاه ما يخشى الرد على ألفاظ المجاملة ويتهيب مجلس تعارف وانتساب.

كان يأمل أن يجد لذة في تدريس الأدب، ولكنه لم يكد يمارسه حتى اجتواه ومله، وعلم أن الاشتغال بالأدب للذة لا يستقيم مع هذا العمل النظامي المستمر، إنه يصبح وفي رأسه فكرة يريد أن يكتب فيها فصلاً، فيدركه وقت المدرسة، فيذهب وتذهب الفكرة في طريقها، أو يصبح وهو يكره الكلام ويميل إلى الصمت، يحب أن يفكر فيطيل التفكير، ويحلم فيغرق في الأحلام، فيراه ملزماً بالكلام خمس ساعات أو ستاً، وهو يحب الشاعر أو الكاتب ويميل إليه فيكرهه المنهج على درس شاعر آخر لا يحبه ولا يفهم أدبه، ويضطره الطلاب إلى إطالة الحديث حيث ينبغي له الإيجاز، أو إيجازه حيث تطلب الإطالة، أو لا يفهمونه ولا يسايرونه فيهبط من سماء متعته الأدبية، ليمشي مع أفهامهم وعقولهم. . .

إنه رجل شاذ الطباع متناقض العواطف، يشتاق إلى بلده فإن عاد ندم على العودة، وإن أقام هاجه الشوق، وإن لجأ إلى عقله ثارت عاطفته، وإن اتبع عاطفته أبى عقله. . .

لا يفهمه أحد، ولا يفهم هو نفسه. . مسكين! إنه أديب!

(بغداد)

علي الطنطاوي