مجلة الرسالة/العدد 174/كلمة أخيرة

مجلة الرسالة/العدد 174/كلمة أخيرة

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 11 - 1936



حول (نبوة المتنبي أيضاً)

للأستاذ سعيد الأفغاني

قرأت للأخ شاكر مقاليه الأخيرين المطولين جداً في الرسالة (171، 172) فإذا ما أريد أن أقوله قد قلته سابقاً في الرسالة (170) فليرجع إليه فهو رد على مقاليه هذين أيضاً

لما عرف الأستاذ شاكر أنا (لا نحفر رداً ولا نقداً إلا إذا كان حقاً، وسبيلنا حينئذ أن نأخذ به أنفسنا ونشكر لصاحبه.) عاذ بذلك فراغ روغة عدل فيها بالكلام عن وجهه الذي يجب أن يكون فيه، فلم تظفر اعتراضاتنا - لسوء حظها - منه بجواب. وقد كنا طلبنا اليه التعرض لهذه الأخبار التي رماها جملة بالكذب فيبين وجوه بطلانها والسبب الحادي لرواتها على وضعها ببيان يزيل اللبس ويرضي الأمانة والعقل، فأبى وطفق يتعلق بتوافه الأمور: فهذا كلام شغل أربعة أعمدة من (الرسالة) في تزييف رواية اللاذقي وقد عرف القراء قيمتها عندنا، وذاك كلام يعرض لبسطي عذري في التأخر بالرد، وذلك كلام آخر طويل يدور حول ياء سقطت من كلام له نقلناه. . . الخ

استوفى الأخ ستة عشر عموداً زوى عنا فيهن حججه المزعومة ونافع بيانه وأطلق قلمه فسطر من القول النبيل ما نمر به مر الكرام؛ ولما أشرف على الختام قال: (وتعب أن أمضي على هذا الوجه في تعريف الأستاذ سعيد بوجوه بطلان كلام هؤلاء الناس الذي نقل كلامهم.) وقد علم أصلحه الله وعلم القراء أن البحث والحوار كله يدور حول هذا فقط، ففيم الهرب منه والاشتغال بغيره؟ ولست أنا الذي ادعي بطلان الروايات فأحتاج لمعرفة وجوه البطلان، وإنما نفع ذلك وغناؤه - إن تم - عائدان عليه وحده، فهو الذي ألف واستهدف، وهو الذي ادعى وأعوزه البرهان.

وقد كنت ظننت أني مع أستاذ يعينني في إزالة ما حول هذا البحث من شبه بالعلم الواسع والحجة البالغة ولطف التأني وحسن القصد، فإذا بي أمام امرئ يريدها جدلاً ومراء أو استطالة قول وحب غلبة مع معرفته من نفسه الحدة وضيق الصدر.

فما أنا - وقد عرض الأستاذ لنا أدبه عرضاً صحيحاً - بالذي يجاريه في أسلوبه. وكل ما تفضل به من غمز احتل من كلامه محل الحجة لا يحدوني على مقابلته أو مشاكلته، ولا على الخروج على قاعدتي التي أطمعته فورطته وكانت خليقة منه بغير ما فعل.

ليت الأستاذ شاكراً كان تريث قليلاً فلم يحرص على صدور رده عقب كلمتي بلا تأخر، ولم يخرج عما أخبرنا من طبعه في الإبطاء والتخلف، فإن الناس لا يقدرون الكلام بسرعة صدوره، وإنما يقدرونه بما يحمل من الحق والصواب.

ليته تريث وتدبر وأنعم في كلامه وكلام غيره، إذن لما أعجله حب الرد للرد فجعله ينقض فكرة هي له على أنها لغيره، ويستنجد لدفعها بالعربية والمنطق والأصول؛ وبيان ذلك باختصار أنه:

كان أشكل عليه في كلام أبي علي بن أبي حامد أمر الوثيقة التي كتبوها على المتنبي بعد أن استتابوه من دعوى النبوة؛ فذهبنا نحن إلى أنها في إبطال علويته لا تنبئه، وأمر علويته ورد في روايات ثانية، فكان من الأستاذ أن أورد رواية أبي علي ثم علق على كلامنا فيها بقوله: (الرسالة ص1665)

(فأنت ترى أن لا ذكر للعلوية في هذا الخبر ولا في غيره مما روي عن علي بن أبي حامد هذا، فكيف يتأتى لك أن تقحم العلوية فيه وهو لم يذكرها فيه ولم ترد عنه في خبر غيره، ثم تعمد إلى الكلام فتؤول بعضه على النبوة وبعضه على العلوية فتجعل التوبة للأولى والوثيقة للآخرة؟)

والذي قلناه نحن هو هذا (الرسالة 170): (وليس في الأمر مشكلة ولا تناقض ولا داع لأن يرجح الأستاذ (ص 49) من كتابه إقحام لفظ النبوة بين العلويتين في حديث الهاشمي، وليقول: (إن المراد بالنبوة (تأمل) في حديث أبي علي بن أبي حامد العلوية) فمن المقحم ومن المؤول أيها البحاثة المحقق الذي لا ينسى اليوم ما قاله أمس؟! ثم قلنا: (فعلوية أبي الطيب التي أراد أن يفسر بها النبوة الواردة في الروايات على اختلاف مصادرها لم تسلم له من الأصل، وبقي المتنبي جعفياً يمنياً، وإذا كان لابد (تدبر) من إيراد احتمال فالأولى أن تجعل العلوية الثانية من زيادات النساخ وإقحامهم. على أن الروايات في غنى عن هذا الفرض أيضاً (تأمل وتدبر) وليس فيها داع إلى شكل أو تأويل. فمن الغريب جداً أن ينكر أبو الطيب دعوى النبوة من ساعة القبض عليه وأن يظل على العلوية طول أيام سجنه حتى كتابة الوثيقة) فنظرية الإقحام أنت قلت بها أيها الأستاذ الجليل لا نحن، وكلمتنا بدئت بقولنا (إذا كان لابد من احتمال) أما كلمتك فبدئت: (إن المراد بالنبوة في حديث أبي علي. . العلوية ص 49 من كتابك القيم) وأياً كان صاحب اكتشاف الإقحام ومؤول النبوة بالعلوية فهو ونظريته خليقان بما تفضل به الأستاذ من استنكار واستبشاع.

لقد رماني الأستاذ بدائه: عدم التدبر والتحريف، وأراد أن يتناول فكرة لي كيفما اتفق له لينقدها، فوقعت يده على فكرته هو منقولة في كلامي! وقاتلك الله العجلة، فقديماً ذكروا أن تاجراً أضمر أخذ عدل من أعدال شريكه فوضع رداءه عليه ليعرفه في الظلمة؛ ثم ذهب وجاء رفيقه ليصلح أعداله فوجد رداء رفيقه على عدله وظن أنه نسيه فرفعه ووضعه على عدل شريكه. ولما كان الليل أتى الشريك بحمال واطأه ففتح الحانوت واحتمل العدل الذي عليه الرداء وأخرجه هو والرجل، وجعلا يتراوحان على حمله حتى أتى منزله ورمى نفسه تعباً، فلما أصبح افتقده فإذا هو بعض أعداله!!

فعلى القارئ المتتبع أن يرجع حيثما وجد نقلاً لكلامي إلى الأصل المنقول عنه فلست أفرغ دائماً لبيان ما حرف ولا أحتمل إلا تبعة ما قلت على ما قلته بحروفه، غير مروي بكلام من غيري. ومن أول كلامي بجمل من عنده ثم شرع في ردها فإنما رده على تأويله فحسب

كان رغب إلينا الأخ شاكر ألا نتبع ظننا في أنه من أهل الغرور والذهاب بالنفس والجهل بمقدارها، والمكابرة في العلم والجدال فيما لا جدوى منه ولا منفعة. وقبل كلمته هذه كان ادعى لنفسه تدبراً وإمعاناً وأصولاً ودراية، ثم في الأخير حلماً عند المقاتل البادية حين لمزنا بالحاجة إلى هذه الصفات، وكلام كلينا معروض لمن أراد تثبتاً، وسبحان الذي قال: (كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).

فهل أجد حرجاً في أن أقول ثانية (صحف الرسالة أحوج إلى أن تملأ بالحقائق والبرهان منها إلى الدعوى والانتقاص) وإن القراء (لا يخفى عليهم وجه الحق في كلام اثنين، ولا يصرفهم عنه نيل من صاحبه ومراوغة في الحط منه)، وحرام أن أقتل الوقت في تتبع المزالق التي زل فيها صاحبنا في مقاليه هذين، فما هي بنافعتنا فيما ظهر لتباين أسلوبينا في البحث و (اختلاف في الجبلة) على ما قال الأخ شاكر.

وما أنا بعائد إليه لأن الحقيقة لم تفد شيئاً بخوض هذا البحث معه، ولن أجاري أخي في طريقه التي سلكها فما هي لي بطريق، ولا أرب لي بتعسف المتاهات، ولولا أن يظن العجول من القراء أن نظرية الإقحام وتأويل النبوة بالعلوية التي رماني بها الأستاذ على عجلة وخطأ هي نظريتي وفكرتي لما خططت حرفاً من كلمتي هذه.

وبعد، فليس عندي لأخي الأستاذ على أقواله في غير السلام.

سعيد الأفغاني