مجلة الرسالة/العدد 175/الفصل في نبوة المتنبي من شعره

مجلة الرسالة/العدد 175/الفصل في نبوة المتنبي من شعره

مجلة الرسالة - العدد 175
الفصل في نبوة المتنبي من شعره
ملاحظات: بتاريخ: 09 - 11 - 1936



للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

- 2 -

وتوجد قصيدتان تنسبان إلى المتنبي في هذا العهد، إحداهما قالها وهو بأرض نخلة، وهي ديار بني كلب الذين يقال إنه تنبأ فيهم وهي هذه القصيدة:

كم قتيلٍ كما قُتِلْتُ شهيدِ ... ببياضِ الطُّلي ووَرد الخدودِ

وعيونِ المهَا ولا كعيونٍ ... فتكتْ بالُمتَيَّم المعمود

دَرَّ دَرُّ الصِّبا أأيامَ تجْرِ ... يرِ ذيولي بدار أثلة عودي

عمْرَكَ الله هل رأيتَ بدورا ... طلعتْ في براقع وعقود

رامياتٍ بأسهم رِيشُها الهُدْ ... بُ تشق القلوبَ قبل الجلود

يَترَشَّفْنَ من فَمي رشفات ... هُنَّ فيه أحلى من التوحيد

كلُّ خَمصَانَةٍ أَرَقَّ من الخم ... ر بقلبٍ أقسى من الجلمود

ذَات فرعٍ كأنما ضرب العن ... بر فيه بماء ورد وعود

حالكٍ كالْغُدَافِ جَثْلٍ دَجُوِج ... ىٍ أَثِيثٍ جَعْدٍ بلا تجعيد

تحمل المسْكَ عن غدائرها الرِّ ... يحُ وَتفْترُّ عن شتِيتٍ برود

جمعتْ بين جسم أَحمدَ والسُّقْ ... م وبين الجفون والتسهيد

هذه مهجتي لديك لَحِيْنى ... فانقصى من عذابها أو فزيدي

أهل ما بي من الضنا بطلٌ صي ... د بتصفيف طُرَّةٍ وبجيد

كلُّ شيء من الدماء حرام ... شربُه ما خلا دم العنقود

فاسقنيها فدًى لعينيك نفسي ... من غزال وطارفى وتليدي

شيبُ رأسي وذلتي ونحولي ... ودموعي على هواك شهودي

أيّ يوم سررتني بوصالٍ ... لم تَرْعُني ثلاثةً بصدود

ما مُقامي بأرض نخلةَ إلا ... كمُقام المسيح بين اليهود

مفرشي صهوة الحصان ولك (م) ... ن قميصي مسرودة من حديد

لأمةٌ فاضةٌ أضاةٌ دِلاصٌ ... أحكمت نسجها يدا داود أين فضلي إذا قنعتُ من الده ... ر بعيش مُعجَّل التنكيد

ضاق صدري وطال في طلب الرِّز ... ق قيامي وقلَّ

عنه قعودي

أبداً أقطع البلاد ونجمي ... في نحوس وهمتي في سعُود

فلعلي مؤمِّلُ بعض ما أب ... لغ باللُّطف من عزيز حميد

لِسريٍ ّلباسُهُ خشنُ القط ... ن ومرُويُّ مرْ وَليس القرود

عش عزيزا أو مت وأنت كريمٌ ... بين طعن القنا وخفق البنود

فرؤوسُ الرِّماح أذهبُ للغي ... ظ وأشفى لغلِّ صدر الحقود

لاكما قد حييتَ غير حميد ... وإذا متَّ متَّ غير فقيد

فاطلب العِزَّ في لظىً وذر الذُّ ... لَّ ولو كان في جنان الخلود

يقتلُ العاجز الجبان وقد يع ... جز عن قطع بخنق المولود

ويُوَقى الفتى المخسُّ وقد خوَّ ... ض في ماء لبَّة الصنديد

لا بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفسي فخرتُ لا بجدودي

وبهم فخر كل من نطق الضا ... د وعوذُ الجاني وغوث الطريد

إن أكن معجباً فعُجبُ عجيب ... لم يجد فوق نفسه من مزيد

أنا تربُ الندى وربّ القوافي ... وسمامُ العدى وغيظ الحسود

أنا في أمة تداركها الل ... هـ غريبٌ كصالح في ثمود

ويجب قبل أن ننظر في هذه القصيدة من جهة اتفاقها مع دعوى النبوة التي تنسب إلى المتنبي، أن ننبه إلى أن النبوة لا تتفق مع صناعة الشعر، لأن الشعر العربي إلى ذلك الوقت كان صناعة أوزان وكلام، ووظيفة النبوة أسمى من أن تتقي بقيود الشعر، أو تعني عنايته بزخرف اللفظ، أو تعتمد اعتماد على الخيال، وقد أشار إلى هذا قوله تعالى في سورة يس: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين -) كما يشير إلى ذلك وإلى بعد النبوة مما كان يلابس الشعر من اللهو والعبث قوله : لما نشأت بغضت إلى الأوثان، وبغض إلى الشعر، ولم أهم بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك، ثم ما هممت بسوء بعدهما حتى أكرمني الله برسالته. قلت ليلة لغلام كان يرعى معه لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر كما يسمر الشباب، فخرجت لذلك حتى جئت أول دار من مكة أسمع عزفاً بالدفوف والمزامير لعرس بعضهم، فجلست لذلك فضرب الله على أذني فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس، ولم أقض شيئاً. عراني مرة أخرى مثل ذلك.

وهذا كله لم يكن المتنبي ليجهله، وما كان له أن يقدم على دعوى النبوة معه. ولعل الذين نسبوا إليه هذه الدعوى قد شعروا شيء من هذا حينما جعلوا له قرأنا يعارض به القرآن الكريم، لأنهم رأوا أن الشعر وحده لا يصح أن يستقل بأمر النبوة، أو لا يلتئم معها. ومن ذلك الذي نسبوه إليه وذكروا أنه زعم أنه قرآن أنزل عليه: والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي أخطار، امض على سنتك، واقف أثر من كان قبلك من المرسلين، فان الله قامع بك زيغ من ألحد في الدين، وضل عن السبيل.

وكم يكون الشعر أبعد من وظيفة النبوة إذا كان صاحبه يتكسب به كصاحبنا المتنبي، فإنه نشأ شاعراً مداحاً يتكسب بشعره، ويسأل به، ومن هذا قصيدته في مدح محمد بن عبيد الله العلوي، ومطلعها:

أهلاً بدارٍ سباك أغيدُها ... أبعدُ ما بان عنكَ خردَّها

وقد ذكر فيها أن ناقته حملته إلى هذا الممدوح:

إلى فَتَى يُصدر الرماحَ وقد ... أنهلها في القلوب مُوردُها

له أَياد إليَّ سالفةٌ ... أعُدُ منها ولا أُعَدِّدُها

ثم طفق يمدحه إلى أن قال:

وكم وكم نعمة مُجَلَّلةٍ ... ربيتها كان منك مولدُها

وكم وكم حاجةٍ سمحت بها ... أقرب مني إليّ موعدُها

ومكرمات مشت على قدم ال ... بر إلى منزلي تَردُّدُها

أقرّ جلدي بها عليّ فلا ... أقدرُ حتى الممات أجحدُها

فعد بها لا عدمتُها أبداً ... خيرِ صلات الكريم أعودُها

وقد عذله أبو سعيد المجيمري في ذلك العهد على تركه لقاء الملوك وامتداحهم، فقال له:

أبا سعيدٍ جَنِّب العتابا ... فرُبَّ رأى أخطأ الصوابا فانهم قد أكثروا الحجَّابا ... واستوقفوا لردَّنا البوابا

وإن حَدَّ الصارِم القرضابا ... والذّابلات السُّمر والعرابا

ترَفعُ فيما بيننا الحجابا

ولاشك أن طبقة الشعراء المتكسبين أدنى طبقات الشعراء نفوساً، وأبعدها عن الصلاح والتقوى، وهي طائفة تتخذ الشعر وسيلة لجمع المال، ولا يهمها في دنياه غيره، ولا تطمح نفوسها إلى وظيفة كوظيفة النبوة تكليفاً من الكمال الروحي ما ليس في طبيعتها.

وإن هذه الحادثة لتدل على مقدار ما بلغ إليه المتنبي في ذلك قال: أذكر وقد وردت في صباي من الكوفة إلى بغداد، فأخذت بجانب منديلي خمسة دراهم، وخرجت أمشي في أسواق بغداد، فمررت بصاحب دكان يبيع الفاكهة فاستحسنتها ونويت أن أشتريها بالدراهم التي معي، فتقدمت إليه وقلت: بكم تبيع هذه الخمسة بطاطيخ! فقال بغير اكتراث: أذهب فليس هذا من أكلك، فتماسكت معه وقلت: يا هذا دع ما يغيظ واقصد الثمن، فقال ثمنها عشرة دراهم، فلشدة ما جبهني ما استطعت أن أخاطبه في المساومة، فوقفت حائراً، ودفعت له خمسة دراهم فلم يقبل، وإذا بشيخ من التجار قد خرج من الخان ذاهبا إلى داره، فوثب إليه صاحب البطيخ من الدكان ودعا إليه وقال: يا مولاي بطيخ باكور، بإجازتك أحمله إلى البيت فقال الشيخ: ويحك بكم هذا؟ قال بخمسة دراهم، قال بل بدرهمين، فباعة الخمسة بدرهمين وحمله إلى داره، وعاد إلى دكانه مسروراً بما فعل، فقلت له: يا هذا ما رأيت أعجب من جهلك! استمت على في هذا البطيخ، وفعلت فعلتك التي فعلت، وكنت أعطيتك في ثمنه خمسة دراهم فبعته بدرهمين محمولاً! فقال: أسكت. هذا يملك مائة ألف دينار، قال المتنبي: فعلمت أن الناس لا يكرمون أحدا إكرامهم من يعتقدون أنه يملك مائة ألف دينار، وأنا لا أزال على ما تراه حتى أسمع الناس يقولوا إن أبا الطيب قد ملك مائة ألف دينار.

(يتبع)

عبد المتعال الصعيدي