مجلة الرسالة/العدد 175/صديق!

مجلة الرسالة/العدد 175/صديق!

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 11 - 1936



للأستاذ علي الطنطاوي

أستأذن أستاذنا المازني فأستعير منه تلك الكليشيه المعهودة التي كان يصدر بها مقالات ذات الثوب الأرجواني، لأقول: إن المقالة خيالية لا حقيقة، وأؤكد هذا للقراء!

(علي)

قال:

. . . لا أدري كيف عرفته، ولا أعلم السبيل التي دخل منها إلى قلبي؛ فاحتل فيه هذه المنزلة، ولم أنتبه له إلا وهو ملء سمعي وبصري وعقلي. . .

وإنني لأعرفه منذ عشرين يوماً، ولكني أحاول عبثاً حين أحاول ادكار بدايتي معه، لأنه عماد حياتي؛ لا أستطيع أن أتصور لصلتي به بداية؛ عرفته يوم عرفت الدنيا؛ لم أجهله قط ولم أنفرد عنه ساعة؛ وهو دنياي، إن لقيته لقيت الحياة، وإن نأى عني وجدت كل شيء في الحياة ميتا.

ولست أدري أي صلة هذه، ولا أعرف لها تحديداً مضبوطاً، ولكن الذي أدريه وأعرفه أنه ليس له في أعماق قلبي إلا الصداقة. إنني لم أنظر إلا إلى روحه، بل أنا لا أقدر أبداً أن أتخيله بشراً من لحم ودم. إنني أراه فكرة سامية، صورة شعرية بارعة، معنى من المعاني العبقرية. . . إنني أراه وحده معنى كلمة الوجود. . . لقد ضاعت معه حدود شخصيتي، ومحيت معالمها، فلم أعد أعرف أين أنتهي (أنا)، وأين يبدأ (هو)، وامتزجت نفسي بنفسه، فكأني (أنا من أهوى ومن أهوى أنا. . .)، وكدت أقول بالحلول، وأرتكب هذه الحماقة الكبرى، التي لا يقول بها ذو عقل. . . حين رأيتني أضحك إذا سر (هو)، وأحزن إذا تألم، وأشبع إذا أكل، وإذا أصابه الصداع وجعني رأسه، وإذا رأى (هو) حلماً هنيئاً تبسمت وأنا غارق في منامي، أجد اللذة الكبرى في رفاهيته وراحته، وآلم لشقائه أكثر مما آلم لشقائي، وأريد أن أمنحه صحتي وحياتي وكل ما أملك؛ أريد أن أفني فيه ولا أجد في شيء من ذلك عملاً كبيراً، ولا أحس أني مقدم على تضحية، لأنه اندمج في أعمق عاطفة من عواطفي، ونزل إلى أبعد غور من نفسي، وسيطر على قواي كلها، فلم يبق لي عاطفة مستقلة أو حاسة حرة أفكر بها فيه، وأزن صلتي به. . .

اختلف نظري إلى الحياة، وتبدلت المشاهد في عيني، فكأن الدنيا كانت في ظلام، حتى طلع في سمائه بدراً منيراً فأصبحت أرى كل شيء جميلاً في بصري: هذا السطح المشرف على الفضاء الرحيب، سطح دارنا في (الأعظمية)، وهذا النخيل الممتد إلى غير ما نهاية، وبغداد التي تلوح منائرها وقبابها كأنها معلقة في السماء حيال الأفق، ودجلة التي تبدو من خلال الأغصان لامعة كصفحة المرآة المجلوة تشق عبابها الزوارق، تتمايل شرعها البيض مع نسيم المساء الناعش الخفيف، والبدر الذي طلع من الشرق يبدو منه حاجب ويختفي حاجب وراء نقاب من الغيوم. . . وهذا الطريق الذي لم تمتد إليه يد الحكومة بالتعبيد فبقى على فطرته وجماله لم تشوهه كف الإنسان، يظهر تارة، ويلتوي تارات، ويضيع بين النخيل ويضل الطريق. . . والفلاحين الذي يرجعون إلى دورهم حين تعود الشمس إلى خدرها، ويزدحمون على هذا الطريق الشعري الضيق، هم ودوابهم ومواشيهم تطنطن الأجراس في أعناقها والقطعان يسوقها الرعاة الذين تنكبوا عصيهم ثم ساروا وراءها يزمرون أو يغنون، وهؤلاء الأطفال من تلاميذ المدارس الذين يلعبون في هذه الرحبة، يتقاذفون الكرة يتصايحون ويتراكضون، فإذا أمسك أحدهم بها ضربها برجله فانطلقت تشق الفضاء كأنها القنبلة، ووقف الصبية صامتين قد علقوا أنفاسهم وتبعتها عيونهم، تبصر مسيرها، فإذا هبطت واستقرت على الأرض عادوا يركضون ويصيحون.

أصبحت أرى كل شيء جميلاً في عيني حبيباً إلي: الفلاحين الآوين إلى بيوتهم، والأطفال العاكفين على كرتهم، والدواب والمواشي. . . وأسمع في كل صوت أغنية عذبة، أسمعها في حفيف الأوراق، وزقزقة العصافير، ونباح الكلاب، ودوي الرعد. . . وأرى الجمال في ظلام الليل الدامس، كما أراه في صفحة البدر المنير، وأبصره في الصحراء المقفرة، كما أبصره في الروضة المزهرة، وأسمعه في صفير الرياح الرعب، كما أسمعه في تغريد البلبل المطرب، وألمسه في الخريف كما ألمسه في الربيع؛ بل إني لأعجب من هؤلاء النظامين المتشاعرين الذين يسميهم الناس شعراء، كيف يعمون عن صفحة الكون، ثم يذهبون فيحدقون في صفحات الكتب، وينظرون فيها بالمجهر: هؤلاء المقلدين الذين يظنون أن الخريف معناه الوحشة أبداً والموت والكآبة، وأن معنى الربيع الأنس دائماً والبهجة والسرور، كأن العواطف البشرية تسير على التقويم الفلكي، وتدور مع الأيام. . . فليس على الشاعر إلا أن ينظر في التقويم حتى يرى أيوم حزن هو، أم يوم سرور؟! وكأن في وجه الأديب زجاجتي فوتوغراف لا تريان إلا ما في الوجود، لا عيني إنسان يحس ويشعر.

أين إذن عاطفة الشاعر؟ وهل يرى الشاعر الحزين اليائس ربيعاً مشرقاً جميلاً؟ ألا يرى في الربيع الوحشة والكآبة والحزن؟ وهل يشعر المسلول القانط بجمال الزهر؟ والشاعر الفرح؟ ألا يرى في الشتاء وفي الخريف جمالاً وبهجة، ويبصر فيهما ورداً وزهراً؟

إن في شعر هؤلاء المتشاعرين المقلدين كل شيء إلا الحياة، إلا العاطفة، إلا الروح. هو شعر ميت، تمثال حسناء، ولكنه من الشمع!

لقد ظهر هذا الصديق فجأة في طريقي، فملك علي أمري، وأخذ بيدي فسلك بي طريقاً جديدة، حتى نأى به عن الناس فأصبحت لا أرى في الدنيا غيره، ولا أبصره سواه، وصب في نفسي عزيمة وقوة، فأحسست بالنشاط في جسمي وروحي، ودفعني إلى أداء الواجب علي، فوفيته على وجهه، وساقني في سبيل الاستقامة والشرف، وسما بي عن (الأنانية) والاستئثار فأضحيت أشفق حتى على أعدائي المخاصمين، وأعطف حتى على المجرمين والساقطين؛ وفتح لي مغاليق هذا الكون، فإذا وراء هذه المظاهر دنيا من الجمال والجلال والسحر والفتون، وإذا حيال هذه الدنيا دنيا أكبر، وأحفل بالكائنات، هي في نفسي، فرأيت وأبصرت ونعمت وانتفعت. . .

لقد دفعتني هذه الصداقة إلى الصلة بربي، والقيام بواجبي، والتعلق بأهلي، فلست أريد بعدها شيئاً، فخذوا الدنيا كلها، حسبي أني أخذت منها صديقاً.

(بغداد)

علي الطنطاوي