مجلة الرسالة/العدد 176/في الأدب المقارن

مجلة الرسالة/العدد 176/في الأدب المقارن

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 11 - 1936



شخصيات الأدباء في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

يكثر التشابه بين أفراد الجنس الواحد في عالم الطبيعة في الطبقات الدنيا من الأحياء، وكلما ارتقى الجنس في سلم الحياة ازداد الاختلاف في المظهر والصفات بين أفراد الجنس؛ وكذلك الحال في المجتمعات البشرية: يتشابه الناس ويتقاربون في المشارب والأغراض في عصور الانحطاط، ويختلفون خلقا وعبقرية في عصور النهضات، ويتفرقون في شعاب الحياة ودروب المطامح فلا يتفقون إلا في تدفع الحياة في نفوسهم وعلو هممهم وولوعهم ببعيدات الأمور، فالتشابه والاتفاق من إمارات الانحطاط. والاختلاف والتميز من دلائل الرقي.

وذلك الشأن في آداب الأمم: فان أظهر ميزات عصور النهضات فيها اختلاف مشارب الأدباء وتباين شخصياتهم واستقلال نظراتهم إلى الحياة ووجهاتهم في الفن، فهم وإن اتفقوا على مبدأ أو مذهب في الأدب، لا يتشاكلون ولا يكرر بعضهم بعضا ولا يغني أحدهم عن سائرهم، بل ينتحي كل منهم ناحية من الحياة يوكل بها، ويرى الحياة جمعاء بمنظار نفسه لا بمنظار غيره، وينفث في أدبه خلاصة عبقريته الفردية؛ أما في عصور إدبار الأدب فيتماثل الأدباء حذوك النعل بالنعل، ويتهافتون جميعا على نموذج الأدب أو الإنشاء الأدبي، لا ينفكون يقلدونه ويعارضونه ويغفلون بمحاكاته عن حقائق الحياة ولباب الفن، فيخرج أدبهم جميعا صورا مكرر من أنفسهم وأشكالا ممسوخة من ذلك النموذج المحتذى أو القالب المصبوب.

ويمتاز فحول الأدب الإنجليزي، ولاسيما في عصور نهضاته ببروز شخصياتهم واستقلالها واختلاف بعضها عن بعض اختلافا تاما، إلا في اقتباسها جميعا من نور الصدق، وإصدارها جميعا عن معدن الشعور: فالنهضة الرومانسية في مستهل القرن التاسع عشر مثلا، كانت ذات أغراض معينة مشتركة بين جميع أعلامها: كانت ثورة على قيود الفكر وصناعة اللفظ وتقاليد النظم وعودة إلى الطبيعة والبساطة، ونزوعا إلى جمال الحياة، ومع ذلك يتباين فحول شعرائها وتبدو شخصياتهم بارزة واضحة الاختلاف في الأخ والمشارب والأساليب:

فوردزورث كان موكلا بالطبيعة ومجاليها وأسرارها، مؤمنا بضرورة استخدام لغة النثر السهلة في الشعر؛ وشلي كان معينا بالإصلاح الاجتماعي وعدوا لدودا للملكية والكنيسة والتقاليد الحمقاء؛ وكولردج كان هائماً في عوالم المجهول وأغوار الماضي السحيق؛ وسكوت كان مغرما بالعصور الوسطى وتاريخها في بلاده اسكتلندا، متغنيا بمجدها وفروسيتها، محييا لأغانيها الشعبية؛ وبيرون كان بوهيمي النزعة جريء الفكرة مشغولا بقصص الأبطال، جزل الأسلوب رائعه دون تدبيج ولا ترو

ولنضرب مثلا آخر مؤرخي الإنجليزية الثلاثة، الذين توخوا الفن والأسلوب الأدبي في تواريخهم: جبيون وماكولي وكارليل، فأولئك شخصيات ثلاث متميزة: فالأول رصين الأسلوب واللفظ، محكم البنيات ميال إلى الموازنة في المعاني والازدواج في التراكيب، والثاني يراوح بين طويل الجمل وقصيرها، مولع بتصوير المناظر التي يمر بها تصويرا يقف بك أمامها وجها لوجه، كلف بتأريخ مآثر وطنه وعظائم أبنائه ومواقف فخاره، أشد تشبعا بالوطنية وأقل نصيبا من النظرة الإنسانية الشاملة من صاحبيه، والأخير قصير الجمل فجائي الأفكار، معني بعظماء الرجال أخلاقهم وسحناتهم وآثارهم في عصورهم.

وقل مثل ذلك في سائر مشهوري الأدباء الإنجليز: كلهم مختلفو الشخصيات مستقلوها، واضحو النفسيات، متميزة شخصياتهم ونفسياتهم إحداها عن الأخرى، تقاربوا في العصور أو تباعدوا، اتفقوا في المذهب الأدبي أو اختلفوا، وذلك أول دليل على حيوية الأدب، وأصدق شاهد باستمداده من ينابيع الحياة الجارية، لا من بطون الكتب الجافة، فالحياة لا تفنى صورها تعددا، وهي تبدو لكل أديب صادق النظر والشعور في صورة جديدة.

وإنما تشابهت شخصيات الأدباء وتماثلت آثار الشعراء في عصور تدهور الشعر في أواسط القرن الثامن عشر، حين بعد الشعراء عن الطبيعة وانغمروا في المدينة، وهجروا الحياة وغرقوا في صفحات الكتب، وأعرضوا عن وحي شعورهم وقلدوا من سبقوهم، فعدوا بوب ودريدن المثل الأعلى الذي يحتذى، والمطلب الأسمى الذي لا يطلب سواه، واحتذوهما في الغرض والأسلوب والعروض، وتعاوروا أشعارهما معارضة واقتباسا واختلاسا، فخرجت آثارهم جميعا متشابهة متشاكلة بعيدة عن الفن لا تصور شخصيات قائليها، وخملوا جميعا من دون ذينك الشاعرين اللذين احتذوهما. فلا يهتم بآثارهم اليوم إلا مؤرخ الأدب المدقق المستقصي.

وفي تاريخ الأدب العربي شخصيات مستقلة واضحة متميزة، مخالفة كل منها للأخريات قولا وخلقا وأسلوبا، كالمعري الحكيم المشفق على أمة الطير والحيوان، المعنى بتنازع البقاء وبغي الأحياء، والمتنبي الطموح (المتعاطي للكبر وعلو الهمة) كما قال بعض معاصريه؛ وابن الرومي المشغوف بالجمال الطبيعي والإنساني، المنهوم بنعيم الحياة ولذاتها، الدقيق النظرة، الرائع التصوير؛ وأبي نواس الماجن المستهتر؛ والجاحظ الموكل بفنون الثقافة؛ وبديع الزمان المعتد بنفسه، الحريص على المادة المكاثر بثروته اللغوية ومهارته الصناعية، السهل الديباجة، الرائق الفكاهة. كل هاتيك شخصيات بارزة متميزة.

ولكن بجانب أمثال أولئك حفل كبير من مشهوري الأدباء الذين آتتنا آثارهم وانحدرت إلينا بعض أخبارهم، ولكن شخصياتهم مبهمة مطموسة، يكتنفها الضباب ولا يستجليها الخيال، وتتشابه كثيرا حتى لنضيف آثار بعضها الأدبية إلى آثار الأخرى فلا ترى فارقا، ولا تحس مانعا يحول دون ذلك من تباين الأساليب أو اختلاف النفسيات أو تضاد النزعات؛ بل إن شخصيات بعض من تقدم ذكرهم من فحول العربية، على كثر ما وصل إلينا من كتاباتهم وأخبارهم، مبهمة في كثير من نواحيها.

ولا ريب أن لطول العهد وكر الزمن أثرا كبيرا في تبديد الآثار، وتغيير الأفكار والمشارب والأذواق، وإحاطة شخصيات المتقدمين بغمام من الغموض والغرابة مهما تحدث الشعراء بذكر الخلود؛ ولكن هناك عدا هذا عوامل لابست الأدب العربي فأدت إلى غموض كثير من شخصيات كثير من أعلامه، وتشابهها واختلاطها، أولها شيوع الأمية في الجاهلية وصدر الإسلام، مما أدى إلى تبدد أخبار كثير من الشعراء وضياع أشعارهم واختلاطها، ودخول الزيف والتمويه عليها، مع أن شعر ذينك العصرين كان أصدق حديثا وأكثر إفصاحا عن شخصيات قائليه من شعر العصور التالية، لو لم تعبث به يد الأمية والنسيان.

ولما انتشرت الكتابة لم تكن الطريقة التي جرى عليها المؤرخون في ترجمة الأدباء هي المثلى: فقد اقتصروا على تواريخ ووقائع - كوفود الأديب على ممدوح أو اتصاله بديوان أمير - لا أهمية لها في شرح نفسياتهم، ولا غناء وراءها في توضيح شخصياتهم، وجاء كثير من التراجم مختزلا مجتزأ. وناقض بعض الروايات بعضا، وصعب تصديق بعضها، فظلت جوانب من تلك الشخصيات مغلقة؛ فما أقل ما يعرف عن عبد الحميد وابن المقفع والطائي والبحتري وابن الرومي والمتنبي، فهم لا يكادون يظهرون في ضوء التاريخ إلا في جناح أمير أو ركاب عظيم؛ أما نشأتهم فمهملة، وهي التي لها أكبر الأثر في آدابهم؛ وأما حياتهم اليومية فمغفلة، كأن ليس لها خطر ولا شأن.

وما قصر فيه المؤرخون لم يعوضه الأدباء أنفسهم: فكثير منهم لم يصوروا أنفسهم في أشعارهم ورسائلهم صورا واضحة، ولم يودعوها خلجات أفئدتهم ونظراتهم في الحياة، بل ما أكثر الكتاب الذين قصروا بيانهم على إنشاء رسائل الأمراء، والشعراء الذين توفروا بأشعارهم على مديح أرباب النوال، فامتلأت آثارهم الأدبية بذكر أناس كثيرين ووصف أحوالهم وأفكارهم، فيما عدا منشئي تلك الآثار الأدبية أنفسهم وأحوالهم وأفكارهم، فلا غرو جاءت آثارهم متشابهة، لا توضح شخصياتهم ولا تنهض ببعض ترجمتهم، ومن العجيب أن أكثر الشعراء إفصاحا عن أفكارهم الخاصة وحاجاتهم وشعورهم، كانوا هم المجان والخلعاء الذين لم يكن لهم شعور ولا تفكير في سوى اللذة والعبث كبشار وحماد.

فالناظر في ديواني الطائي والبحتري، وفي رسائل ابن العميد والصاحب، لا يعثر إلا نادرا على فقرة أو أبيات مصدرة عن شعور شخصي للأديب هو ببيانه محتفل، أو فكر جليل هو في إذاعته جاد، ولا يرى في الشعر إلا مديحا وهجاء وشكوى للزمان وافتخارا بعلو الشأن، أو ما كان يجب للشاعر من علو الشأن، وضربا للأمثال واصطناعا للحكمة؛ ولا يرى في النثر إلا تنميقا وتدبيجا واقتباسا وتكاثرا بسعة الاطلاع، فلا غرو يتشابه أولئك الشعراء إلا تفاوتا قليلا في الصياغة، وأولئك الكتاب إلا اختلافا بسيطا في الأسلوب؛ فإذا أنت نزعت جانبا كبيرا من نظم أولئك الشعراء، أو نثر أولئك الكتاب، لم تشوه آثارهم بانتزاع ما لا غنى عنه لبيان نفسياتهم؛ وإذا أضفت بعض آثارهم إلى بعض لم يعقك عائق من تميز شخصية عن شخصية أو اختلاف منحى عن منحى.

وهناك عامل خطير لا يقل عن هذا أهمية في تشابه شخصيات الأدباء وتماثل آثارهم: ألا وهو نزعة المحافظة والتقاليد التي صاحبت الأدب العربي منذ قامت الدولة العربية وانتشرت اللغة في الأقطار، فقد اتخذ الأقدمون مثلاً عُلياً في البلاغة والشاعرية، وألح المتأخرون على آثارهم وأغراضهم في القول ومعانيهم محاكاة وتوليدا وتخريجا، وجالوا جولان المتقدمين في ميادين المدح والهجاء، والفخر، وشكوى الدهر، وضرب المثل واستخراج الحكمة، واحتذوهم في النسيب بليلى وهند والوقوف بالأطلال واستحثاث المطي وذرع الفلوات، فكان للأدباء في توالي العصور تراث أدبي واحد يتكرر ولا يكاد يتغير، ويتشكل ولا يكاد يتحول، ويأخذ منه كل أديب ويكاد يفنى فيه، وينهل منه وتكاد شخصيته تغرق في عبابه.

فتقليد المتقدمين دون الطبيعة، واتخاذهم مثلاً عليا يصدر عنها القول، بدل أن يصدر عن الشعور الفردي المستقل، من أكبر أسباب ركود الأدب وتشابه آثار الأدباء وتقارب شخصياتهم؛ ومن ثم جاءت آثار كثيرا من الأدباء المتأخرين متشاكلة مشابهة جميعها لآثار المتقدمين، على تباعد الزمان واختلاف المواطن؛ وظلت شخصياتهم غامضة لأنهم لم يجلوها في كتاباتهم جلاء صادقا.

ولما استفحلت الصناعة اللفظية، واشتد الحرص على المحسنات البديعية، غرقت معاني الشعر وأغراضه وشخصيات الأدباء جميعا في سيل من الألفاظ المرصوفة والعبارات المقتنصة من آثار المتقدمين، وأصبحت دواوين الشعراء جميعا ديوانا واحدا مملوءا بالنكات اللفظية، لا فرق بين أوله وآخره. وما أشبه ما قاله البهاء زهير بما قاله ابن نباتة بما قاله صفي الدين من نسيب متناه في ادعاء الرقة والظرف، ووصف لمجالي الطبيعة تخلط فيه محاسن الطبيعة وصورها ببهارج الألفاظ وزخارفها مزجا عجيبا، وتتطلب البراعة بإقحام مصطلحات العلوم كالنحو والمنطق والنجوم.

ولا ريب أن أمتع الأدب للنفس، وأعلقه باللب، ما أبان عن شخصية قوية، ونفسية مستقلة؛ ومن ثم نرى أن ذوي الشخصيات الأصيلة والنظرات الصادقة في حقائق الحياة، كالمتنبي وأبي العلاء وابن الرومي والجاحظ، هم الذين حظوا، دون غيرهم من أدباء العربية الأقدمين، بالدرس الطويل والترجمة المفصلة من كتاب عصرنا الحالي، لأن آثارهم تشوق الدارس وتحفزه إلى الكتابة والتعليق والنقد، وتحوي صورا من أنفسهم يطيب للمطلع التأمل فيها والنظر إلى الحياة في ضوء أفكارها. ولو حاول ناقد أن يترجم لمروان بن أبي حفصة، أو مسلم بن الوليد، أو مهبار، أو البحتري، أو الصاحب، أو الحرير، ترجمة مفصلة تشرح نفسية المترجم وتميط عن نزعاته وميوله وعوامل ذلك، مستمدا شرحه وتحليه من آثار الكاتب أو الشاعر الأدبية التي اشتهر بها، لكلف نفسه شططا.

فالناظر في الأدبين العربي والإنجليزي، لا يسعه إلا أن يلاحظ أن يجد في تاريخ الأخير شخصيات قوية مستقلة ظاهرة التباين والاختلاف، مصورة في أعمالها الأدبية حتى لتكاد تغني بها عن ترجمة المترجمين، وتحوي كتاباتها صورها النفسية الداخلية فلا تكاد تترك للمؤرخ أكثر من سرد التواريخ وبعض الوقائع وهي لذلك ممتعة جذابة يحس القارئ أن بينه وبينها على اختلاف اللغة والزمن والوطن تجاوبا وصلة شاملة هي صلة الإنسانية، ويطربه أن يراها تعالج نفس المشاكل وتخامرها نفس الخواطر والخوالج التي تساوره، وأمثال تلك الشخصيات الواضحة أقل عددا في تاريخ الأدب العربي.

فخري أبو السعود