مجلة الرسالة/العدد 177/تأريخ العرب الأدبي

مجلة الرسالة/العدد 177/تأريخ العرب الأدبي

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 11 - 1936



للأستاذ ينولد نيكلسون

الفصل الأول

- 5 -

وإن نفس العاطفة الوطنية المتأججة في صدر الهمداني والتي بعثته على أن يخصص نفسه للبحث العلمي قد أوحت إلى نشوان أبن سعيد - الذي ينتمي من ناحية الأب إلى أسرة قديمة من أشراف اليمن - أن يتذكر الماضي الخرافي ويتعلق بإحياء مجد إمبراطورية زالت معالمها ودرست آثارها. وأنه ليتغنى في (القصيدة الحميرية) بعظمة وقوة أولئك الحكام الذين تبوأوا عرش أمته، ويؤول في روح إسلامية حقة حقيقية الغناء والحياة، وحقارة المطامع البشرية، ومع أن هذه القصيدة في ذاتها قليلة القيمة فأنها تعتبر وثيقة قيمة - نوعاً ما - لاشتمالها على أسماء الملوك، ومعها شرح تاريخي واف إما أن يكون كاتبه نشوان نفسه - وهذا ما يرجحه فون كريمر - أو أحد معاصريه. والذين لا يرون التاريخ إلا مجمل حقائق لن يجدوا مأربهم في هذا التعليق، إذ نرى خيوط الحقيقة معقدة متشابكة مع أساطير خرافية مكذوبة، وقد وضع القصّاصون في فجر الإسلام صورة حرفية لمثل هذه الأساطير، من ذلك أن أحد عرب الجنوب وأسمه (عبيد بن شرْية) زار دمشق تلبية لدعوة الخليفة معاوية بن أبي سفيان الذي سأله (عن الأخبار المتقدمة، وملوك العرب والعجم، وسبب تبلبل الألسنة وأمر افتراق الناس في البلاد) وطلب إليه أن يكتب وأمر أن تجمع وتكتب إجاباته كلها ثم تنشر باسمه، وهذا العمل الذي لم تصلنا أية نسخة للأسف كان يسمى (كتاب الملوك وأخبار الماضين) وقد تكلم عنه المسعودي (956م) ككتاب معروف متداول في محيط كبير، كما اعتمد عليه فيما بعد شارح (القصيدة الحميرية) إما مباشرة أو بواسطة الإكليل للهمداني. وقد نعتبره - كما اعتبره الشارح نفسه - كقصة تاريخية لكثير من شخصياتها وحوادثها أساس من الحقيقة والواقع قد مُوِّهت بكثير من القصص الخيالية والقصائد المكذوبة، مما يجد فيها السامر خير عون له على أداء مهمته. ومن بين المؤلفين المسلمين القلائل الذين اهتموا بدراسة تأريخ عرب الجنوب في العصر السابق للإسلام حمزة الأصفهاني، ويمدنا الكتاب الثامن من تاريخه (الذي انتهى منه عام 961م) بتفاصيل تاريخية دقيقة موجزة على التبابعة أو ملوك اليمن الحميريين.

خلف قحطان - جدَّ أعراب الجنوب - ابنه يعرب الذي يقال إنه أول من أتخذ العربية لساناً، وأول من أخذت له التحايا التي اعتاد العرب أن يحيوا بها ملوكهم كقولهم (أنعم صباحاً) و (أبيت اللعن) وقد اشتهر حفيده عبد شمس سبأ باسم مؤسس مأرب وباني سدها المشهور، وإن كان هناك آخرون يقولون إن مؤسسه هو لقمان بن عاد، وكان لسبأ ولدان حمير وكهلان، وقبل موته عهد إلى حمير بالجلوس على العرش والى كهلان بحراسة التخوم، وشنّ الغارات على الأعداء؛ ومن ثم كانت لحمير السيادة واتخذ اسم (أبو أيمن) وأقام في عاصمة المملكة بينما تعهّد كهلان بالدفاع عنها وتدبير الحروب وبالإغضاء عن سرد سلسلة نسب الملوك السبئيين الخرافيين الذين لا تذكر القصة عنهم إلا قليلاً جداً، فإنما نمضي إلى ذكر حادثة رسخت في أذهان العرب رسوخاً لا يمكن استئصاله منها، ألا وهي الحادثة المعروفة عندهم بسيل العرم أو فيضان السد.

على بضعة أميال قلائل من الجنوب الغربي لمأرب تمتد الجبال متلاحمة تاركة فيما بينها أخدوداً يشقه نهر (أدنة) الذي يجف غالباً مجراه خلال فصل الصيف؛ أما في الشتاء فتسقط الأمطار الغزيرة وتتدفق المياه بقوة هائلة تكاد لا تحتمل، فلكي تكون المدينة بمنجاة من الفيضان ولأجل تنظيم الري وزرع الأرض وفلحها بني الأهالي سداً من الحجر الصلد استرعى خيال محمد بعد أن دمر تماماً، واعده المسلمون إحدى عجائب الدنيا. وليس بغريب أن ألبس مؤرخوهم تلك الحقيقة المجردة (انفجار السد) ثوب حادثة فضفاضة طريفة وإذ آذنت شمس القرن الثالث للميلاد بالمغيب أو قبل ذلك بقليل كان يتربع على عرش مأرب عمرو بن عامر ماء السماء المزيقيا، وكانت زوجته (ظريفة) ماهرة في علم الكهانة خبيرة بفنونها، وقد رأت أحلاماً ورؤى تنبئ عن شر جسيم يتهددهم، وفي ذات يوم قالت لزوجها الذي لم يكن يثق في عرافتها: (إمضِ إلى السد فأن أبصرت فأراً ينبش السد بمخالبه ويقذف قطعاً كبيرة من الصخور بقدميه الخلفيتين فتيقَّن بأن العذاب قد حل بنا) فمضى عمرو إلى السد وأنعم النظر فشاهد جرذاً يحرك حجراً كبيراً يعجز خمسون رجلاً جلداً عن ثقله من مكانه فأيقن عمرو أن السد منهار، وأن الأرض لا بد هالكة بمن عليها، فعزم على بيع أملاكه والرحيل بعائلته، لكنه خشي أن يبعث الاضطراب إلى قلوب السكان، فدبر حيلة ناجعة، ذلك أنه دعا أشراف المدينة ورؤوسها إلى وليمة فاخرة مدها لهم، واتفق مع ابنه أن يثيرا الخلاف بينهما (أو بينه وبين اليتيم الذي درج في بيته كما يقول آخرون) وتبودلت بينهما الضربات فصاح عمرو: (وا فضيحتاه!! أفي يوم مجدي وفخري يسبني ويلطمني غلام عاق؟) ثم أقسم أن يقتل الفتى، فتوسل إليه ضيوفه أن يرحمه ويرأف به فأجابهم، بيد أنه أقسم قائلاً: (لا أقيم ببلد لطم وجهي فيه أصغر ولدي وسأبيع أرضي ومتاعي) وإذ نجح في الخلاص من أعبائه - إذ لم يعدم مشترين لبوا دعوته واغتنموا غضبته - لم يتردد في أن يخبر الناس بما يتهددهم من بلاء ثم بارح مأرب على رأس جمع حشيد، ثم أخذت المياه تثقب السد شيئاً فشيئاً وتغمر الأرض، مرسلة في لجتها الدمار طولاً وعرضاً، ومن هنا نشأ المثل القائل (تفرقوا أيدي سبأ) أي تشتتوا كما تشتت قوم سبأ.

وإن ذلك الطوفان ليؤرخ فترة من تأريخ بلاد العرب الجنوبية ثم غابت المياه واخضرت الأرض بعد إمحال وعادت إلى الإيناع والزرع، بيد أن مأرب ظلت مهجورة، واختفى السبئيون إلى الأبد إلا ما يذكره الأعشى في قصيدة له من قوله:

وفي ذَاكَ للمُؤتسى أُسْوةٌ ... ومَأرَبُ عَضَّ عليها العرِمُ

رَخامٌ بَنتْهُ لهم حِمْيرٌ ... إذا جاء مَوَّارُه لم يَرِم

فأرْوَى الزَّروع وأعنابَها ... على سِعَة مَاؤهَا إذْ قَسَم

فَصَارُوا أيادِيَ ما يَقْدِرون ... مِنهُ على شُرْبِ طفل فُطِم

وليست في كلام الشاعر عن حمير دقة تاريخية، أما الحميريون وعاصمتهم ظفار (صنعاء فيما بعد) فقد صاروا حكام اليمن بعد انفجار سد مأرب وتلاشى السبئيين الذين أقاموه.

أما تبع الأول - الذي أطلق لقبه مؤرخو المسلمين على من خلفه من ملوك حمير فيسمى (حارث الرائش) لأنه زين بيوت قومه بالغنائم والأسلاب مما جلبه معه - كفاتح - من الهند وأزربيجان، أما عن التبابعة الذين ولوا الحكم بعده فان بعضهم يدين بدرجة في سلسلة حمير إلى النسّابين الذين كان احترامهم للقرآن يفوق دقتهم النقدية كما حدث مثل هذا بشأن المخلوق الخرافي صعب ذي القرنين، وأن الأبيات التالية لتخلط بينه وبين ذي القرنين العجيب الوارد نبؤه في القرآن والذي يعتبره معظم المفسرين نفس الاسكندر الأكبر.

لنا مُلك ذي القرْنينِ هلْ نالَ مُلكهُ ... مِن البشرِ المخلوقِ خلقٌ مُصورً؟

نوى ثمَّ يتلو الشمسَ عِند غرُوبها ... لينظُرها في عينِها حينَ تُدْحرُ

ويسمُو إليها حين تطلعُ غدْوَةً ... ليلمحها في بُرجها حينَ تظهرُ

دليلاً بأسبابِ السماءِ نهارُهُ ... وليلاً رقيباً دائماً ليسَ يفترُ

وأرْصدَ سدّاً من حديدٍ إذا بدا ... ومن عينِ قطرٍ مترعاً ليسَ يَظهرُ

رَمى فيهُ يأجوجاً ومأجوجَ عُنْوةً ... إلى يوْمَ تُدْعى للحساب وتُنشرُ

(يتبع)

ترجمة حسن حبشي