مجلة الرسالة/العدد 177/زهرات على القبر

مجلة الرسالة/العدد 177/زهرات على القبر

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 11 - 1936


محمد فريد

بمناسبة ذكراه السابعة عشرة

ما كان أحقَّنا ونحن نجني ثمرات الجهاد، ونعقد أقواس النصر، ونحيي بطولة الزعماء ونحيي ذكرى الشهداء، أن نضع إكليلاً من الزهر الندى على قبر الشهيد الأول محمد فريد!

لقد أستشهد في مثل هذا الأسبوع الذي وقع فيه موافقة البرلمان على المعاهدة، واحتفال الشعب بذكرى الضحايا، فكيف غفل اللسان الذاكر وذهل الفؤاد العروف عن تحية المجاهد الصابر والمضطهد المهاجر والصريع المحتسب؟ وما أقلَّ التحية للذين نفروا لخلاص الوطن لا يبتغون ثراء ولا دعة، وهاجروا في سبيل الحرية لا يجدون مراغماً ولا سعة، ولفظوا أنفسهم في منازح الغربة ومضاجع البؤس حسرة فحسرة!

هذه دورهم، كان للعزة في أفيائها مَرَاد، وللنعمة في أفنائها ربيع، فتقوض فيها المجلس وانصرف عنها اللاجئ وتعاقب عليها مالك بعد مالك! وهذه قبورهم، تناوحت عليها سوافي الرياح فطمست الشاهد وأبهمت الأثر وتناهبها هالك بعد هالك! وهذه ذكرياتهم، ملأت المسامع وعمرت القلوب حيناً من الدهر، ثم أوشكت اليوم لكنود الناس أن تغوص في لجج النسيان والعدم! وهذه أرواحهم، كانت في المحن السود تباكرنا بالعزاء وتراوحنا بالأمل وتغادينا بالمعونة، ثم أقبلت ساعة النصر تخفق فخورة مع العلم، وتصفق مؤيدة مع البرلمان، وتهتف مبتهجة مع الأمة، ولكنها لم تسمع وا أسفاه من بادلها تحية برحمة، وجازاها وفاء بدعاء!

إن الشريعة تنسخ الشريعة، والفكرة تطرد الفكرة، والجديد يخلف القديم، ولكن الجهاد في سبيل الوطن غاية لكل جيل في طريقها خطوة، وبناية لكل عامل في إقامتها حجر؛ والخطوط اللاحقة لا ترد الخطوة السابقة، والحجر الأعلى لا ينقض الحجر الأسفل. والمثل العليا من الرجال قليلة في عهدنا الحديث؛ فما أولانا أن نضن بهم على الفناء، فننصب تماثيلهم في كل ميدان، وندرس تاريخهم في كل معهد، ونرفع ذكرهم في كل مناسبة.

وا حسرتاه على حظ فريد من أمته! حبس عليها ثروته ورضى بالجوع، ورصد لها قوَّته وصبر على المرض، وضحى لها أسرته وعاش على التشريد، ثم كان نصيبه منها بِرّاً يسعف، وتقديراً لا يدوم، وذكراً لا يتصل، وقبراً لا يعرف!

كان فريد - برد الله ثراه وخلد ذكراه - سليل مجد وربيب نعمة وحليف جاه؛ وكان سبيله في الحياة سبيل كل أمير وكل كبير: يغتصب ثروته من عرق العامل، وقوته من دم الفقير، ومسرته من دمع البائس، وجبروته من ظلم الضعيف؛ ولكنه تنكب طريق المترفين واتبع هادي الفطرة، فدخل به في سواد الشعب وقرّنه في أغلاله وشركه في ذله، فدفعته الجِبِلَّة الحرة إلى أن يتطوع لإنهاضه بجهده. ويتبرع لإنقاذه بماله؛ ثم أتصل برسول الوطنية يومئذ مصطفى كامل، فكان منه مكان أبي بكر من محمد، ومصطفى النحاس من سعد؛ رفع معه ألوية الجهاد على سواعد الشباب الفتيه، ثم خلفه على تكاليف الدعوة من جهد وبذل وتضحية، فاستمر ينفخ فيما يشبه الرماد، ويصيح فيما يقارب الجماد، حتى أشتد عليه أذى المحتلين وكيد المنافقين فهاجر ناجياً بحريته وفكرته؛ ولاذ بالأستانة يبتغي بها متنفساً لآمال مصر، ومضطرباً لعزائم الشباب، فكان في هذه المدينة ذات الأستار والأسرار والحفر قبساً من الحق الساطع الصادع يبعث في قلوب المصريين المهاجرين والطلاب بالضوء والحرارة.

كان يدعو شبابنا الوديع إلى الثقافة الحربية في المعاهد العسكرية التركية استعداداً لليوم الموعود والحدث المنتظر؛ وكانت الحرب الكبرى قد انفجرت دواهيها على العالم يومئذ، فحاول أن يكون لمصر من أعقابها المجهولة مغنم. وكأنما دس عليه أهل الأفك، أو عارضت أطماعه أطماع الترك، فأتمروا به ليحاكموه، ففر خفية إلى برلين؛ وهناك أراده الألمان على أن يكون وسيلة من وسائل الحرب السرية في الشرق، فأبى عليه خلقه الصريح وجوهره الحر أن يكون أداة ليعيش. وتفرق عنه الرفاق إلى موارد الرزق الممكنة، وأنقطع عنه المدد من مصر ومن غير مصر، فعمل عمل الأجير، وعاش عيش الفقير، يتبلغ بما يمسك الرمق، ويكتسي بما يستر الجسم، ويأوي إلى غرفة في بعض السطوح يكايد فيها المرض والفقر والوحدة والغربة، حتى أدركه الموت البائس الخامل وهو في غيابة برلين المقهورة الباكية، ليس فيه إلا فم يهتف للحرية، وقلب يخفق لمصر!

إن فريداً كان مثال الفكرة السليمة والوطنية القويمة والرجولة الكاملة والتضحية المؤمنة. بذل في سبيل الوطن، ما بذل عثمان في سبيل الدين، ثم كانت عاقبة أمره أن مات كما مات عثمان شهيداً غير مفهوم؛ ولكن الله جازى فريداً كما جازى عثمان: جعل أسمه للخلود وروحه للخلود!

أحمد حسن الزيات