مجلة الرسالة/العدد 178/بعد المعاهدة
مجلة الرسالة/العدد 178/بعد المعاهدة
بعد ليل غاشي الجوانب تراكمت على (الوادي) همومه، وطريق دامي المسالك تشابهت على الدليل رسومه، انجلى الغيهب الكثيف عن وضح الفجر، وانتهى الطريق المخيف إلى أمان الغاية؛ فحمدنا السُّرَى عند الصباح، ورضينا الغنيمة بعد المعركة، وهدهدنا الأمانيَّ على نشيد الفوز.
كنا مقيدين لا نملك مع القيد مجال العمل، ومحجورين لا نجد مع الحجر سبيل التصرف، ومستذلين لا ندرك مع (الامتيازات) معنى الكرامة، ومستقادين لا نعرف مع (الاحتلال) عبء التبعة؛ فإذا كانت مصر الأمسِ قد مشت عرجاء في طريق التقدم، وجاهدت عزلاء في ميدان العيش، فإنما كان وِزْر ذلك على الغاصب الذي سلط قوته على الحق، ومنفعته على العدل، فحجز البلاد عن وجهتها الحرة حقبة من الدهر أوْفت على نصف قرن. أما اليوم وقد انكسر القيد، وانتفى الحَجْر، وتصاغر الامتياز، وقال لك القوى الغالب: لقد رشدت فتصرف في أمرك، وشببت فدافع عن حَوزتك، واستقلت فاحكم في بلدك، فلا يسعك في تقصير عذر، ولا يسعفك في دفاعٍ حجة.
هذه ثروة النيل التليدةُ والطريفة، عبثت بها أهواء القيم المفروض بالباطل، فنقص النامي، وبلُد الحساس، وفسد الصالح، واعوج المستقيم، وتنافر المنسجم؛ فكل شيء فيها معتل يفتقر إلى علاج، أو منتشر يحتاج إلى ضبط. فإذا قصرنا الجهد أو أكثره على تنفيذ المعاهدة، من إنشاء الجيش وبناء الثكنات وشق الطرق، ظل حالنا على ما كان من بؤس العيش، ونقص الكفاية، وعجز القدرة. وهل يكون الأمر حينئذ إلا حبس قوى الأمة على الاستقلال في السعي إليه أو في المحافظة عليه؟ وهل يزيد الاستقلال على أن يكون استرداداً للحرية المسلوبة؟ تنعم الأمة في ظله وهي آمنة، وتعمل في حماه وهي حرة، وتحكم على مقتضاه وهي سيدة؟
أن إعداد الأمة لحمل نصيبها من أمانة الحياة ورسالة الحضارة وعهد المحالفة، يقتضي أن تتظاهر ملكاتها الموجدة، وكفاياتها المدبرة، وقواها المنفذة، على طرد الجهل منها، ودفع الفقر عنها، ومعالجة المرض فيها؛ وهذه العلل الثلاث هي جمَّاع العلل، لا تجد عاهة من عاهات الجسم، ولا آفة من آفات الروح في الفرد أو في الجماعة إلا ضاربةً فيها بعرق. أو واصلة إليها بسبب. والأمة كلها خَلْق سَوِيٌّ كامل لا تستطيع أن تقويه وترقيه إذا عُنيت بعضو دون عضو، وشُغلت بملكة دون مَلكة.
كل ما فينا عاطل يبغي العمل، وباطل يريد التغيير، وَرثٌّ يطلب التجدد؛ وتلك مخلفات العهود السود وتركات الأجيال المريضة، نمت فينا نمو الجراثيم يزرعها ويغذيها المحتل الذي لا يرحم، والحاكم الذي لا يعدل، والواغل الذي لا يعف.
كان من جرائر فقد الاستقلال في الحكم أن فقدناه من كل شيء حتى في الذات؛ فنحن نفكر تابعين، ونعمل مقلدين، ونعيش متواكلين، ونسعى على غير اطمئنان ولا ثقة. وقد ظهرت هذه التبعية واضحة في الآداب والعادات، وهي أدخل الأشياء في بناء الشخصية وأبعدها عن التراث المشترك بين الأمم كالعلم والحضارة.
ولعل أقبح آثاره ما نجد في الشباب من رخاوة العود وطراوة الخلق، وفي الكهول من ضراعة النفس وضعف الإرادة؛ فإن ترك الدفاع عن أنفسنا لغيرنا كَسَبَنا طباع العيش الأبله من الوداعة والإغضاء والرضى، فلا ترى في الجملة من يغضب للإهانة، ويثور للعدوان، ويتحمس للخصومة. وأن استبداد الأجنبي بأمرنا من دوننا قتل فينا التفكير، وأنام فينا الضمير، ودهانا بطائفة من طبائع الاستبداد كالملق والنفاق والتواضع والأثرة؛ فالأمة مستنيمة لهوى الحكومة، والحكومة مستكينة لإرادة المحتل؛ وبين طبقات الشعب ودواوين الحكم منافع مسعورة لا ترتوي، ومحاباة مهتوكة لا تستحي، وتواكل غفلان لا يفيق.
نعم كل ذلك كان نتيجة لفقد الاستقلال ما في ذلك ريب؛ ومن الممكن أن يكون وجوده علة في عدم هذه النقائص على التدريج مسايرة لفعل الزمن؛ ولكن الوقت ضيق والفرصة عجلى والضرورة حافزة، فلا بد لأولياء العهد الجديد أن يغسلوا أدران العهد القديم بالسموم، ويحسموا أدواء الماضي بالكي، ويجعلوا بين العهدين سدا من النار والحديد لا ينفذ منه إلا مصهور أو مطهَّر.
نريد أن ندخل العهد الجديد في لباس الإحرام: صدورنا نقية من أحقاد الحزبية، ونفوسنا بريئة من شهوات العصبية، وميولنا نزيهة عن خسيس المطامع.
كنا نعيش كما يعيش السَّوَام في البر أو السمك في البحر، لا تجمعنا وحدة شاملة، ولا توجهنا غاية معينة؛ وكان ذلك أثراً محتوماً للسلطات التي كانت تتنازع الحكْم، والتيارات التي كانت تتوزع الثقافة، والامتيازات التي كانت تمزق المجتمع.
أما اليوم فنريد أن نعيش كما يعيش الناس في كل أمة: وطن صريح الاستقلال قوى الشوكَة، لا سلطان لقوة خارجية عليه، ولا سيادة للغة أجنبية فيه، ولا استبداد لشركة أوروبية به؛ وَحرية مهذبة الأطراف مأمونة السفه، ينعم الفرد فيها بنفسه، ويأمن بها على رأيه؛ ومجتمع راقي الطبقات مثقف النواحي، يؤلف نافرَه الخلق، ويجمع شتيته الحب، ويرفَّه حياته التعاون، ويؤوِيه إِلى كنفه إله وعلم وملك. ذلك ما نرتجيه في الحياة الجديدة، وذلك ما نبتغيه من الحكومة الرشيدة.
أحمد حسن الزيات