مجلة الرسالة/العدد 179/بعد المعاهدة

مجلة الرسالة/العدد 179/بعد المعاهدة

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 12 - 1936


استقلال اللغة

استقلال اللغة مظهر استقلال الذات؛ ووحدة اللسان جزء من معنى الأمة، واتحاد البيان سبيل إلى توحيد الرأي والهوى والثقافة. فإذا سمعت امرأ يتكلم غير لغته من دون ضرورة، أو يلهج غير لهجته من دون مناسبة، فلا يخامرك شك في أنه كذلك في خليقته وعقيدته ونمط تفكيره وأسلوب عمله. وإذا رأيت أمة تدير في أفواهها ألسنة الأمم، وتستعير في أعمالها دلالات الناس، فلا تتردد في الحكم عليها بالتبعية المدنية والعبودية الأدبية والوجود الملفق. وإذا شق عليك أن ترى في الأرض هذه الأمة، أو تسمع في الأمة ذلك الإنسان، فتحامل على شعورك وجل جولة في إحدى عواصم مصر. فهنا أو هناك تجد في معارض التجارة، ودور الصناعة، وبيوت المال، وأماكن اللهو، خليطا من الناس كجيش الدمستق.

تجَّمع فيه كل لَسْنٍ وأمة ... فما يُفهم الحدَّاثَ إلا التراجم

تدخل متجرا من المتاجر، أو مصرفا من المصارف، أو مقصفا من المقاصف، أو شركة من الشركات، فلا تقرأ في الإعلانات والمستندات إلا كتابة أجنبية، ولا تسمع في المحادثات والمفاوضات إلا لغة أجنبية، فإذا حرصت على أن تتفاهم بالعربية لاعتزازك بها أو لجهلك بغيرها، تضاءلت في رأى مخاطبك فينظر إليك بشطر عينه، ويكلمك ببعض شفته، وربما صغرت وصغرت حتى يستسر عليه مرآك فلا يحفلك. وتغشى قصرا من قصور الأمراء أو دورا من دور الكبراء، فتسمع النادين يتطارحون الحديث بالفرنسية أو التركية، فإذا شاركتهم فيه بلغتك، وقروا آذانهم عن سماعك، لأنك نقلت الحديث الخطير إلى لغة السوقة، وأنزلت البهو الوثير إلى مجلس العامة، وتلقى أبناء (الذوات) في المشارب والملاعب والأندية، فتسمعهم يتراطنون بلغة مشوهة التأليف، مدخولة الوضع، بغيضة اللهجة، من نحو قولهم: يا وداشئ)، ' أطلع ولو وجدت في هذا الخلط تظرفاً من أولئك الأيفاع المدللين الذين نشأتهم المهود الأرستقراطية، وثقفتهم المدارس الأجنبية، فإنك لا تجد فيه غير حمى الروح إذا تكلفه من درج في البيئات الشعبية، وخرج من المعاهد الدينية. فقد حدثوا أن شيخاً من شيوخ اللغة ومعلميها أوفدته وزارة المعارف إلى إنجلترا ليلم بطرائق التعليم ومذاهب التربية؛ فمكث تحت ضباب لندن عاما أو عامين ثم عاد، فإذا لسانه ق اعوج وسمته قد تبدل! يكلمك فتسمع من وراء (البيبة) كلاماً عربي الحروف سكسوني المخارج! فإذا تمضمض بالجملة أو الجملتين في المعنى المألوف توقف وتأفف، ثم راح يزاوج في الفقرة الواحدة بين العربية والإنجليزية، لأن العربية أصبحت أمام الخاطر ألد فاق، والخيال السباق، والمعاني الجديدة، أعجز من أن تسعف اللسان وتجاري البيان وتحدد الفكرة!

كل ذلك كنا نراه فنشعر بالغربة وسط الدار، وبالذلة بين الأهل، وبالتبعية تحت العلم. وكل ذلك كنا نسمعه فنحمل الآذان على مكروهه، ونروض الأنفس على أذاه، لأن أمورنا كانت في كل ناحية من نواحي الحياة شذوذا لا يستقيم في عقل، ونشوزا لا يتسق في شعور. فلما أذن الله لوجودنا أن يتميز، ولاستقلالنا أن يتم، كان من المحتوم على أولياء العهد الجديد أن يعالجوا الضعف الذي يوهن وثبات العزة، ويزيلوا النقص الذي يعوق خطوات الكمال.

تريد اللغة العربية من أولياء العهد الجديد أن يطردوا الاحتلال اللغوي من الشركات والبنوك كما طردته تركيا، فيمدوا لها أسباب السيادة، ويهيئوا للعاطلين وسائل العمل، ويضمنوا للأهليين صحة التعامل، ويمصروا هذه البيوت التي تطاول الحكومة في النفوذ، وتجابه الأمة بالعجز، ويشتمل كل منها على دولة وسفارة وامتياز. تريد العربية أن تكون لسان العلم في المدارس الأجنبية، وفي كليات الجامعة المصرية، فإن التعليم باللغة الأوربية ينقل بعض الأفراد إلى العلم، ولكن التعليم باللغة الوطنية ينقل كل العلم إلى الأمة. وما دام للغة مجمع لغوي قوي يساعدها على النمو، فلن يخشى عليها في الطريق قصور ولا فشل.

تريد العربية أن تأخذ مكانها الشرعي في المحاكم المختلطة ريثما تدك قواعدها المعاهدة. فإن من أعجب الأمور أن يضيع القانون بين قوم يعيشون بالقانون، ويزهق العدل في دار أقيمت للعدل. وقد كان الإغضاء على ذلك يحمل على مصانعة القوة ومخادعة السياسة، ولكنه اليوم لا يحمل إلا على تفريط العجز وترويض الاستكانة.

كذلك تريد العربية أن تطهر من شوائب التركية في الدواوين والقوانين والمدارس والجيش، فلا تحب أن يداخلها بعد اليوم باشكاتب ونوبتجي وبوستجي وقلفة وطابور ويمكخانة ويوزباشي وصاغ وأميرالاي الخ. ولنا فيما يعمل الترك والفرس بالعربية مثل ماثل ودافع محرض.

ذلك ما تريده اللغة من الحكومة. أما ما تريده من الأمة فذلك شيء تلهمه العزة وتمليه الكرامة؛ فإن لغة المرء تاريخه وذاته؛ فالغض منها غض منه، والتفضيل عليها تفضيل عليه، ولا يرضى لنفسه الضعة والصغار إلا مهين أو عاجز.

أحمد حسن الزيات