مجلة الرسالة/العدد 18/حول الإشعاع النفسي

مجلة الرسالة/العدد 18/حول الإشعاع النفسي

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 10 - 1933



قرأت بإعجاب هذا المقال الممتع الذي دبجه أستاذنا الكبير أحمد أمين عن النفوس وإشعاعاتها الغامضة المعقدة التي تشعر بها وقد لا نستطيع التعبير عنها، والتي تختلف باختلاف النفوس وتتعدد بتعدد نواحيها وطبائعها، فملك علي هذا البحث مشاعري وألقى بي في ذلك العالم الروحي الذي يقوم وراء هذا الحجاب الكثيف من المادة، حتى خلت نفسي أسبح في عالم من الأرواح أو أن حجرتي كما يقول الأستاذ (ملايين وأكثر من الملايين من إشعاعات نفسية تشع من السماء ومن الأرض ومن النفوس البشرية ومما لا يعلمه إلا الله).

على أنني ما كدت أعود إلى هذا العالم المادي وأقرأ المقال بعين الناقد المتدبر وأتحلل من هذا التأثر العميق بشخصية الأستاذ الكبير حتى أدركت السبب الحقيقي لهذا الأثر النفساني الذي يعزوه الأستاذ إلى أشعة تنبعث من النفوس والعقول لا تقل جمالا عن (إشعاعات النجوم والكواكب) وتختلف في القوة، اشد من اختلاف المصابيح الكهربائية، يقول الأستاذ: (إن هذا الإشعاع هو السر في أنك تلقى عظيما فيملؤك أثرا ويملؤك قوة بهيئته، بنبرات صوته، بطريقة تعبيره، بنظراته، بإشاراته، بهزة رأسه، بحركة يديه، فكأن في كل عمل من هذه الأعمال يوصل بينك وبينه تيارا كهربائيا قويا يهزك هزا عنيفا، قد لا يحدثك طويلا وقد لا يكون لكلامه في الواقع قيمة ذاتية، ولكنه يوقظ نفسك ويحيي روحك وتبقى رنات كلماته في الأذن الأيام والليالي تعمل عملها في هدوء حينا وعنف حينا)، كلام بديع يستهوي اللب ويخلب العقل ولكنك إذا أعملت فيه الروية والعقل وباعدت بين نفسك وبين أسلوب الأستاذ الأخاذ وشخصيته الجذابة أدركت غير ما يدرك، ووقفت على سبب آخر لهذا الأثر النفسي الذي يسميه الأستاذ إشعاعا ونسميه نحن: (شعورا بالعجز والضعة)، وذلك إن الإنسان لا يتأثر بعظمة عظيم، ولا خطابة خطيب، ولا حديث محدث، إلا لسبب واحد لا ثاني له، وهو شعور بعجز نفسه وانحطاطها عن مستوى هذا العظيم، وهذا الخطيب وهذا المحدث، قد يكون عاجزا أو ضعيفا، وقد يكون قويا أو رفيعا، ولكن شعوره بعجزه وضعته هو على كل حال السبب الوحيد في إكباره للعظيم وتقديسه للخطيب وإنصاته للمحدث وتأثره بغيرهم من الناس.

قد تكون درة عمر أهيب من سيف الحجاج لدى الناس، ولكن السبب في ذلك لا يرجع إلى أن أشعة قد انبعثت من نفس عمر فغمرت الناس بموجة من الجلال والعظمة. وأن أشعة من نفس الحجاج قد غمرت أجسام الناس بالخوف والرهبة، ولكن السبب هو أن الناس كانوا يشعرون بشيء من الاستكانة أمام بطش عمر وجبروته، فاذا ما ذهبوا يحاولون النيل منه وتلمس سيئاته لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا، لأنهم يجدون فيه الرجل المتمسك بالشريعة الذي لا تصدر أفعاله عن هوى، وإزاء هذا الشعور بالعجز المضاعف أمام هذه الشخصية يحس الناس بشيء من الخشية المشوبة بكثير من التعظيم والإجلال. أما الحجاج فكان الناس يشعرون بكثير من الخوف والهلع أمام سيفه نتيجة لشعورهم بالعجز عن مجاراته في أسباب بطشه للسلطة المخولة له عليهم، ولكنهم من جهة أخرى كانوا يستطيعون إحصاء ما كان يقترفه من السيآت والمنكرات، وما كان يقدم عليه من الإجرام والظلم، وهكذا كانوا يخافونه ويرهبوا جانبه لشعورهم بالعجز عن مقاومته، ولكنهم كانوا في الوقت نفسه يكرهونه ويشتد مقتهم له لاعتقادهم بأنه متخلف عنهم في الرحمة والعدل والإنسانية، وبالجملة فإن عمر والحجاج لم تنبعث من نفسيهما أشعة تؤثر في الناس، ولكن الناس هم الذين خلقوا هذا التأثير بهذا الشعور السلبي الذي استولى على نفوسهم، ولو أن حياتهم الاجتماعية والسياسية كانت تصبغهم بغير هذه الصبغة، ولو أن شعورا بالقوة والعظمة والرفعة استولى على نفوسهم لما ملأت نفوسهم عظمة عمر وجلاله، ولما ضربت عليهم الذلة والمسكنة وانكمشت قلوبهم خوفا ورعبا من الحجاج وسيفه وصولته.

قال الأستاذ: (وحدثني من أثق به أن الأستاذ جمال الدين الأفغاني كان يرتطن عجمة ولم يكن فصيح اللسان، ولا سلس القول، ولكن تجلس فيشعلك نارا دونها فصاحة الفصيح وبلاغة البليغ، لأنها النفس مستودع كهربائي قوي يصعق أحيانا، ويضيء أحيانا، ويدفع للحركة أحيانا) وهذا أيضا ينضوي تحت لواء ما قلناه، فقد كان المصريون في أيام الأستاذ جمال الدين بعيدين عن هذه الحرية الفكرية الغربية، وإن كان بعضهم يطمح إليها ولا يجد في هذا الجو المصري الخانق الرجعي مسعفا له على بلوغ مأربه، فلما حط الأستاذ رحاله في هذا البلد، هرع إليه بعض من هذه الفئة العطشى، ولشعورهم بالعجز في مضمار الفلسفة وما إليها مما كان يلقيه عليهم الأستاذ جمال الدين، ولموقفهم منه موقف الطلبة من أستاذهم كانوا يشعرون برهبة ورغبة في مجلسه، وتبدو لأعينهم وقلوبهم هذه التعاليم الجديدة التي يتلقونها نارا تلهب النفس وتشعلها وتتأجج في جوانبها حتى لتدفع بها إلى الثورة، ولو كان فيهم رجل يأنس من نفسه قوة تدفعه إلى الوقوف مع الأستاذ موقف الند للند، لا الطالب أمام معلمه لتغيرت الحال وأحجم الأستاذ احمد أمين عن أن يضرب هذا المثل للتدليل على وجود هذا الإشعاع النفسي موضوع مقاله.

وأن اختلاف تأثير الخطيب باختلاف السامعين والممثلين باختلاف النظارة، لينهض دليلا على ما نزعمه من أن تأثير الأشخاص في بعضهم ليس مرجعه إلى قوة نفسية تشع من نفس إلى أخرى فتؤثر فيها تأثيرا قويا أو ضعيفا، حسنا أو سيئا، ولكن هذا يرجع إلى شعور النفس المؤثر فيها بتخلفها (بحكم طبيعتها أو العوامل المحيطة بها) عن النفس التي أثرت فيها في الخطابة أو الكتابة أو ما شاكل ذلك.

من هذا كله نستطيع أن نقول إننا لا نتأثر بعظيم فنرهبه ونرتعد من الخوف بين يديه، أو خطيب فنصفق له ونحمله على الأعناق، أو محدث فنرهف آذاننا له ونعجب به، إلا لأننا قابلنا العظيم وفي قرارة نفوسنا من شعور بسموه عنا، وسمعنا الخطيب ونحن نشعر بأننا عاجزون عن الوقوف مثل موقفه، والتعبير بمثل تعبيره، وأنصتنا إلى المحدث وقد غمرنا شعور بالقصور عن لباقته، أو مجاراته في حججه، أو الإتيان بمثل حديثه الذي يحمل بين طياته من المذاهب الجديدة والعلوم الحديثة ما نجهل. وليس هذا الأثر ناتجا من صدور أشعة من نفس العظيم أو الخطيب أو المحدث إلى نفوس الناس.

وخلاصة القول إننا لا نقول بحدوث تأثير المؤثر من قوة إيجابية تنبعث، ولكنه يكون بشعور سلبي أو قوة سلبية يحس بها المؤثر فيه حتى ليتوهم أنها آتية إليه من خارج نفسه، والحقيقة أنها تصدر عن نفسه وتنبع منها.

الإسكندرية - عبد الحليم محمد حمودة

(الرسالة)

من أين يأتي شعور العجز والضعة، وقد تلقى الرجل لأول مرة فيثير فيك شعور البطولة والإعجاب، بل قد تراه أو تسمعه وقد سبقت إلى أذنك أخبار وضعت من شأنه، وحطت من قدره، فما هو إلا أن تراه وتسمع له حتى يتغير رأيك ويختلف تقديرك. هل سمعت قول القائل: (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) أو هل علمت أن الناس لما رأوا الحجاج يصعد على المنبر أخذوا الحصى ليحصبوه، فما استهل خطبته حتى تساقط الحصى من أيديهم وهم لا يشعرون؟ ما ذلك إلا الإشعاع.