مجلة الرسالة/العدد 18/فرعونيون وعرب!

مجلة الرسالة/العدد 18/فرعونيون وعرب!

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 10 - 1933


عفا الله عن كتابنا الصحفيين! ما أقدرهم على أن يثيروا عاصفة من غير ريح، ويبعثوا حربا من غير جند!! حلا لبعضهم ذات يوم أن يكون بيزنطيا يجادل في الدجاجة والبيضة وأيتهما أصل الأخرى! فقال على هذا القياس: أفرعونيون نحن أم عرب؟ أنقيم ثقافتنا على الفرعونية أم نقيهما على العربية؟! نعم قالوا ذلك القول وجادلوا فيه جدال من أُعطى أزمةَّ النفوس وأعنة الأهواء يقول لها كوني فرعونية فتكون! أو كوني عربية فتكون! ثم اشتهر بالرأي الفرعوني اثنان أو ثلاثة من رجال الجدال وساسة الكلام فبسطوه في المقالات، وأيدوه بالمناظرات، ورددوه في المحادثات، حتى خال بنو الأعمام في العراق والشام أن الأمر جد، وأن الفكرة عقيدة، وان ثلاثة من الكتاب أمة، وأن مصر رأس البلاد العربية قد جعلت المآذن مِسلات والمساجد معابد والكنائس هياكل والعلماء كهنة.

مهلاً بنو قومنا لا تعتدوا بشهوة الجدل على الحق ورويدا بني عمنا لا تسيئوا بقسوة الظن إلى القرابة أن الأصول والأنساب عرضة للزمن والطبيعة؛ تواشج بينها القرون وتفعل فيها الأجواء حتى يصبح تحليلها وتمييزها وراء العلم وفوق الطاقة. فاذا قلنا فلان عربي أو فرنسي أو تركي فإنما نعنى بهذا النسبة انطباعه بالخصائص الثقافية والاجتماعية لهذا الشعب كاللغة والأدب والأخلاق والهوى والدين فبديع الزمان عربي وأصله فارسي وروسو فرنسي أصله سويسري والأمير فلان تركي وأصله مصري لان كلا من هؤلاء الثلاثة اصبح جزء من شعبه ينطق بلسانه ويفكر بعقله ويشعر بقلبه فبأي شيء من هذا يتمارى إخواننا الجدليون وهم لو كشفوا في أنفسهم عن مصادر الفكر ومنابع الشعور ومواقع الإلهام لرأوا الروح العربية تشرق في قلوبهم دينا وتسري في دمائهم أدبا وتجري على ألسنتهم لغة وتفيض في عواطفهم كرامة. لا نريد أن نحاجهم بما قرره المحدثون من العلماء من أن المصرية الجاهلية تنزع بعرق إلى العربية الجاهلية فان هذا الحجاج ينقطع فيه النفس ولا ينقطع فيه الجدل:. . وكفى بالواقع المشهود دليلا وحجة هذه مصر الحاضرة تقوم على ثلاثة عشر قرنا وثلثا من التأريخ العربي نسخت ما قبلها كما تنسخ الشمس الضاحية سوابغ الظلال. . . وذلك هو ماضي مصر الحي الذي يصبح في الدم ويثور في الأعصاب ويدفع بالحاضر إلى المستقبل ثابت الأساس شامخ الذرى عزيز الدعائم.

أزهقوا أن استطعتم هذه الروح وامحوا ولو بالفرض هذا الماضي ثم انظروا ما يبقى في يد الزمان من مصر هل يبقى غير أشلاء من بقايا السوط وأنضاء من ضحايا الجور وأشباح طائفة ترتل (كتاب الأموات) وجباه ضارعة تسجد للصخور وتعنو للعجماوات وقبور ذهبية الأحشاء ابتلعت الدور حتى زحمت بانتفاخها الأرض وفنون خرافية شغلها الموت حتى أغفلت الدنيا وأنكرت الحياة؟ وهل ذلك إلا الماضي الأبعد الذي تريدون أن يكون قاعدة لمصر الحديثة تصور بألوانه وتشدو بألحانه وتحيا أخيراً بروحه؟ ولكن أين تحسون بالله هذه الروح؟ أن أرواح الشعوب لا تنتقل إلى الأعقاب ألا في نتاج العقول والقرائح، فهل كشفتم بجانب الهياكل الموحشة والقبور الصم مكتبة واحدة تحدثكم عن فلسفة كفلسفة اليونان، وتشريع كتشريع الرومان وشعر كشعر العرب؟ أم الحق أن مصر القديمة دفين فنيت روحه مع الآلهة، وصحائف موت سرها مع الكهنة، والخامد لا يبعث حياة والجامد لا يلد حركة؟!

لا تستطيع مصر الإسلامية إلا أن تكون فصلا من كتاب المجد العربي، لأنها لا تجد مدداً لحيويتها، ولا سندا لقوتها، ولا أساساً لثقافتها ألا في رسالة العرب. أمَّا أنْ يكون لأدبها طابعه، ولفنها لونه، فذلك قانون الطبيعة ولا شان لمينا ولا ليعرب فيه: لأن الآداب والفنون ملاكها الخيال، والخيال غذاؤه الحس، والحس موضوعه البيئة، والبيئة عمل من أعمال الطبيعة يختلف باختلافها في كل قطر. فإذا لم يوفق الفنان بين عمله وعمل الطبيعة، ويؤلف بين روحة وروح البيئة، فاته (اللون المحلى) وهو شرط جوهري لصدق الأسلوب وسلامة الصورة. وقديما كان لون الأدب في الحجاز غيره في نجد، وفي العراق غيره في الشام. وفي مصر غيره في الأندلس، دون أن يسبق هذا التغاير دعوة ولا أن يلحق به اثر! انشروا ما ضمنت القبور من رفات الفراعين، واستقطروا من الصخور الصلاب أخبار الهالكين، وغالبوا البلى على ما بقى في يديه من أكفان الماضي الرميم، ثم تحدثوا وأطيلوا الحديث عن فخامة الآثار وعظمة النيل وجمال الوادي وحال الشعب، ولكن اذكروا دائماً أن الروح التي تنفخونها في مومياء فرعون هي روح عمرو، وان اللسان الذي تنشرون به مجد مصر هو لسان مضر، وان القيثار الذي توقعون عليه الحان النيل هو قيثار أمرىء القيس، وأن آثار العرب المعنوية التي لا تزال تعمر الصدور وتملأ السطور وتغذي العالم، هي أدعى إلى الفخر وأبقى على الدهر، وأجدى على الناس، من صفائح الذهب وجنادل الحجارة. إنما تتفاضل الأمم بما قدمت للخليفة من خير، وتتفاوت الأعمال بما أجدت على الإنسان من نفع. أليس (الخزان) خيراً من الكرنك، والأزهر افضل من الأهرام، ودار الكتب أنفس من دار الآثار؟ وبعد فان ثقافتنا الحديثة إنما تقوم في روحها على الإسلام والمسيحية، وفى أدبها على الآداب العربية والغربية، وفي علمها على القرائح الأوربية الخالصة. أما ثقافة (البردى) فليس يربطها بمصر العربية رباط، لا بالمسلمين ولا بالأقباط

أحمد حسن الزيات.