مجلة الرسالة/العدد 18/في الأدب الشرقي

مجلة الرسالة/العدد 18/في الأدب الشرقي

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 10 - 1933



من أحدث الشعر التركي

قصيدة لمحمد عاكف بك

للدكتور عبد الوهاب عزام

كنت عزمت على أن أنتقل من الشعر التركي الحديث إلى موضوع آخر من الشعر الشرقي، ولكنني حينما عدت إلى حلوان في آخر الشهر الماضي وجدت الصديق الفاضل محمد عاكف بك قد فرغ من نظم قصيدة طويلة من روائع شعره يتجلى فيها بعض ما يحسه عظماء الشرق، من الآلام والأحزان في أيامنا الحاضرة، فاستحسنت أن اجعلها ختاماً للكلام عن الشعر التركي وكان من توفيق الله أن ظفرنا بمثل هذه الخاتمة.

الفنان

قصة، سمعتها منذ ثلاث سنين فلعل لها سامعاً واعياً.

. . . . فصَل القطار من بوستون بعد الزوال بخمس دقائق. وتفرق المودعون، وآوى إلى المقاصير المسافرون. فها أنا مستبدٌّ بهذه المقصورة الثمانية وقد أمكنت الراحة فما يمنعني أن استلقي فأريح فكري وجسدي. لتدر السماء والأفق والأرض وجداً فلست أبالي ما استقرت بي هذه الزاوية.

لله أي أشجار من الزمرد!. . وأي لجج من المروج!. . أزهور هذه أم قصور؟. . ما هذه القرى في حلل المدن وأبهتها؟. . ما أجمل الطريق وما أبهر مناظرها!. . . وما أكثر هذه المصانع!. . . .

أخذتني سنة فانمحت هذه الخاطرات كلها. وبينما أطفو وأرسب في آفاق النوم إذا أنا مشارك في مقصورتي: وإذا كوكب في ميعة الصبا قد طلع أمامي. كلما طمح البصر إليها أزاغه لألاؤها فخر ساجدا على قدميها. وإلى جانبها (ولا ريب انه حبيبها) رجل نجيب، محبب إلى الرائي، طويل القامة، رزين، مهيب، تشهد كل أسارير وجهه أنه فنان.

أشفقت أن أروع هذين القمريين، فعلقت أنفاسي ولبثت قابعا في زاويتي. ثم شرعت أرقبها إذ لم أر حاجة إلى هذا الإشفاق: أما الفتاة فكانت عيناها الذاهلتان مستغرقتين في حبيبه حتى لتحسب أن لو انقضَّت أجرام السماء لم تفق ولم تشعر. وأما العاشق (وقد غشى الحزن أسارير جبهته الوقور) فقد غابت نظراته العميقة في اجواز الفضاء البعيدة. كيف يحسَّ ظلَّ وجودك وهو يرمي الغيوب بعينيه وبجانبه ليلاه، وأمامه صورة المستقبل الذي طمحت إليه عيناه؟ فانس نفسك ثم انظر ماذا تقول الفتاة:

أيها الأمير! أرأيت ثلاث القطع الأخيرة؟ إنها لساحرة جدّ ساحرة. ما أصاخ المسرح في حياته إلى مثل هذه البدائع، أرأيت شمس الصيف حين تطعن بأشعتها في السحب فتحرق السماوات نيران البروق الخاطفة؟ كذلك كانت أصابعك التي لم تضرب، بل أحرقت العود النائح تحت خطوات الضياء! لو علمت كيف أنَّت تلك الصدور التي كانت أمامك! ربّ! ماذا كانت هذه النوَّحات الداخنة لحناً بعد لحن كما تدمى وتحترق مئات من قلوب البلابل وأنت تصب شآبيب اللهب على الأوتار كلها جملة واحدة! إن هذا النفس المنبعث إلينا من قلب الصحراء المحترق (هذا الخطاب الذي يحشر الأجيال كأنه نفخة الصور هو أوّل ما سمعه غربنا المدنيِّ، علم الله لقد كنت، وصواعق المضراب تتساقط، أتمثل سراب الماضي، ماضي مصر والعراق، وإيران والحجاز، واليمن وغزنة وبخارى، والسند والهند) كنت أتمثل هذا السراب صاعداً من كل خربة دخاناً بعد دخان!

- ولكن كيف يحتمل عجزي هذه الكلمات؟ إني لأخجل أن أشكرك.

- ماذا تقول؟ إن للتواضع حداً فاعرف قدرك.

- أنا لا أعرف إلاّ قدري:

كلا كلا! حتَّام تخفي نبوغك؟ ألم تر إلى الذين استمعوا لعزفك اليوم؟ وهم شياطين الصناعة في هذا العصر بلا ريب ألم ترهم جميعاً قد أحنوا رءوسهم إكبارا وإعجابا. ولا سيما مشاركة غودسكي في عصفات التصفيق الثائرة بين الحين والحين، وتهنئته إياك وقوله: (أيها الأمير! لا أدري أين نظير هذا الاعجاز، ما أبهر عزفك! أني بك جد مفتون، وإنك اليوم فوق كل ثناء) إنها كلمات أخذت أنفاس الحاضرين.

- لأنه يحب الفقير.

- كلا. إن هذه الديار، ما لم تغير شعارها، لا تحب الفقير أبدا، وإنما تحب الدولار، ولست أعرف ديارك، ولعلها على غير هذا.

- إن يكن بيننا فرق فمقدار رأس فرس في حلبة الرهان.

- نحن إذن شركاء في الفاقة، وأنها لبليَّة.

- ولكن ما كان ينبغي أن يغض من قدر غودسكي، فإن كل قريب يعرف شرف نفسه؛ دع عبقريته التي سيطرت على كل بعيد. فان لم يكن في صدره قلب حساس فانشري على الخليقة كلها كفناً من المعدات.

- حسن! والآخرون؟ أهم كذلك أصدقاؤك؟

- لا!

- هل نسيت ما قالوا: (أيها الأمير! ما سمعنا قط فيولنسل كهذه، قد تسخّر العبقريات الكبيرة، هذه الآلة الثائرة المستعصية التي تزلزل العبقريات الصغيرة، ولكن المعجزة في عودك هذا. نعم إن فيولنسل عندنا آلة أبيَّة مرهفة ولكنها كملت على مر الزمان. وما هكذا عودك، انه آلة ساذجة تأبى كل كمال. إن هذه الأصوات الزاخرة كالشلال لا تفيض من مثل هذا الصدر. كنا نظن هذا فاذا بك قد أخرست الفضاء وظهر بين الحين والحين عودك اللانهائي. . .) أهذه مجاملة؟

- أليست مجاملة؟

- رحماك! أني لأخشى أن يكون تواضعك أشبه بالرياء! لقد آن أن نعترف بنبوغك.

- إن مقاربة الكمال بعيدة عن آمالي فدعي النبوغ الآن!

- ما هذه النغمة الباردة المعادة؟ وهذا القرار المكرر؟

- ذلك إن الفنان لا يعلو بذراعيه، ولا بد للنبوغ من جناح، ولا جناح لي.

- أأنت لا جناح لك! اجهر بصوتك فما فهمت! انك منذ قليل جاوزت شواهق الصناعة ثم حلقت حتى تخطيت حدود الإمكان، أنَّى اهتديت إلى هذه السبل المختلفة للإيغال في هذا الطيران؟ لا ريب انك لم تطوِّف في عالم اللانهاية راجلا. وأن لك في هاتين الآلتين الخافقتين في ذكراي جناحين آخرين. فليت شعري أفي العالم عبقرية كهذه تسمو بها أربعة أجنحة باحثاً خيالها في سماء الالهام؟ إن الدم الذي في عروقك لمن دم الأنبياء، وأن غلياناً في هذا الدم لجدير أن يبعث في الشرق أزكى حماس؛ إن وراءك جدوداً قد تصرف بالدهر سلطانهم، وأن أمامك ذكراً قد ضمن لك المستقبل منذ اليوم، فهل جاء أحد إلى هذه الديار في هذه السعادة؟

- أهكذا السعادة؟ كلا! لا تخدعي نفسك بالسراب. أجل نشأت في طفولة سعيدة أتبجح في دار كأنها الفردوس. ولكن اكفهر الجو منذ تخطيت عتبة الدار؛ أحاط اللهيب والدخان بالشرق الممزق، وكيف ينهض من تلقفت داره النار فانقضت في التراب كل مفاخره حتى لم تبق خربة من هذا الماضي المجيد؟ وبينما تململ تحت هذه المصائب تقطعت الديار فذهبت واحدة بعد أخرى، فلما نظرت ورائي لم أر داراً ولا ديَّاراً: ذهبت بها جميعاً أيدي الأجانب! فلم يبق في هذه القبة إلا يأس أمة خاسرة!

- أليس هو اليأس الذي كان يئن به عودك؟

كلا! لو أنَّت الكائنات كلها بَلْهَ العود ما ترجم النواح عن ألم متقد في الجوانح. يقول شاعر الهند الفيلسوف محمد إقبال: (احترقت من نغماتي المضطربة قلوب الأصدقاء، وإنما يحترق قلبي من النغمة التي يعجز عنها الغناء.) وكذلك أنا. فما سمع بعد من لسان مضرابي صوت الألم الذي يدوي في قلبي الخرِب! ذلك سموم، فكيف تبين عنه بضع آهات؟ نعم لم تبن عنه فما كنتِ الآن عارفة أمري إذ تغنيت بأغاني سعادتي! فلا تغضبي إن عجبت لظنك بي. لا تغضبي واعلمي أني نِضْو مصائب، أجالد هذه الأحداث التي تسمى القضاء. وقد عيَّ رأسي وذراعي بالجلاد المحتدم ليل نهار، لا أزال أتحامل وانهض. ولكن الشباب قد انهدم! وا حسرتاه! على أي حين قد انهدم: حين يئست من الظفر ونأى عني أمل النجاة وذهب الهلاك بكل خطوة خطوتها إلى المستقبل. وإلا فأية بلية لم تنل مني؟ أصورة وطني الذي انقلب كثباناً من الرماد؟ أم تعاسة أمتي الهائمة بغير وطن؟ أم عشي اليتيم الذي عصفت به ريح الخريف؟ أم أسرتي المرزأة، التي ذرتها الرياح في الأرجاء؟ أم معابدي ومقابري التي طمسها البلى؟ أم حرم كعبتي الذي أقفر إقفار البيداء؟ أم ديني الذي دمى قلبه دهراً حتى وقع؟ أم نعيب البوم على هذه الخرائب خرائب الإحساس؟

وبعد فأية فاجعة لم أصل بنارها؟ لست اعلم ما طواه لي الغد فهو الآن سر محجب، ولكن إن تسأليني عن مصائب اليوم فأليك إجمالها:

ارتمت بي في اليم سفينة بالية. فاكبر ظني أن لن أعاود الحياة، وكنت أعزي نفسي حين أرى أساطين عشيرتي بجانبي تتقلب بنا الخطوب معاً. فثارت العاصفة ومزقت أضلاع السفينة وتفرقت الأمواج بالألواح، فلتصارع القضاء هذه السفينة التي انقلبت خيالاً، بل لم يبق منها الخيال! لماذا أكافح أنا في هذا البحر؟ قد اعتصمت بلوحين تعسين، وما بقاؤهما في مصارعة جبال من الموج؟ والسماء تحجبها ظلمات من السحب متراكمة: ويجثم على الفضاء اشد الليالي حلكا وهولاً، فأكوام الظلام عن يميني وشمالي وأمامي وخلفي. لا أعرف المكان ولا الغاية ولا الجهة ولا الوجهة، أضطرب يائساً وأدور التمس الفروج فلا أظفر بها، فأراني مسكينا يدفع إلى القبر حياً! حينا تقذفني الأمواج الثائرة! وحينا تهبط بي هوة جهنمية يرعد بها الفضاء! وحينا تنشق السحب عن البرق الخاطف يمزق أحشاء الظلام، فاذا مرأى هائل لا يذر للحياة الرجاء! أقول مرة: (إن القضاء لا يصارع. فان لم يكن من الأجل بُد فما تمسكي بهذين اللوحين؟ حسبي جلاداً وكفاحاً!) وأقول أخرى: (كلا! لا أستسلم! لأصدم برأسي الصخرة ولا أصدم به الانتحار!) ثم أمضي طافياً راسباً.

- ألم أقل الآن أيها الأمير! أن الذي يتحكم في نفسك دم الأنبياء؟

أجل، أطفو وأرسب وأخالني لا أتقدم، بهذين اللوحين اللذين سميتهما جناحين! بهذين اللوحين وهما البقية من أنقاض شبابي المهدَّم إن تكن له بقية!

- أما كنا نريد أن نشهد الغروب منذ حين؟ واأسفاه قد ذهبت حتى حمرة الشفق! وجثم على الآفاق اليتيمة حزن المساء فانقلبت صدراً حزيناً. ألا تراها؟

- هذه (الآفاق اليتيمة) تمسح عليها الآن يد الشفق؛ فاذا انطفأ الشفق مسحت عليها أيدي النجوم. واما (الصدر الحزين) فان غده مشمس. ولكن آفاق ليلي ليس لها من هذه القبة ضوء ولا صدى، وانما حظها هذا الظلام الصامت، هذا الظلام السرمدي! كلما هبطت إلى ساحة قلبي أخذتني الرعدة والوجل: أرى في كل خطوة أثر غروب. نعم أثر غروب، ولكنه عميق كالعدم! فإنما موعد شموسي الغاربة يوم المحشر!

- ولكن ما هذا الحزن وما هذه الدمعة على وجهك؟ لا تختمي بتعذيب مسافرك أيتها الرفيقة الجميلة! يعلم الله لو أن قلباً قدَّ من صخر ما احتمل انهمار هذه الشآبيب الغائمة في عينيك! لا! لا! إنه ليحرقني أن تحسي آلامي. فدعيني أبكي وتنحي عني! قد قاسيت مصائب الدنيا جميعاً، ولكن دعيني أمضي دون أن أرى هذه الدموع!