مجلة الرسالة/العدد 183/البيان

مجلة الرسالة/العدد 183/البيان

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 01 - 1937


للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

لا وجود للمقالة البيانية إلا في المعاني التي اشتملت عليها يقيمها الكاتب على حدودٍ ويديرها على طريقة، مصيباً بألفاظه مواقع الشعور، مثيراً بها مكامن الخيال، آخذاً بوزن تاركاً بوزن لتأخذ النفس وتترك

ونقل عن حقائق الدنيا نقلاً صحيحاً إلى الكتابة أو الشعر، هو انتزاعها من الحياة في أسلوب وإظهارها للحياة في أسلوب آخر يكون أوفى وأدَّق واجمل، لوضعه كلَّ شيء في خاصِّ معناه وكشفه حقائق الدنيا كشفةً تحت ظاهرها الملتبس. وتلك هي الصناعة الفنية الكاملة: تستدرك النقص فتتمه، وتتناول السر فتعلنه، وتلمس المقيَّد فتطلقه، وتأخذ المطلق فتحدُّه، وتكشف الجمال فتظهره، وترفع الحياة درجةً في المعنى، وتجعل الكلام كأنه وجد لنفسه عقلاً يعيش به

فالكاتب الحقُّ لا يكتب ليكتب؛ ولكنه أداة في يد القوة المصوِّرة لهذا الوجود، تصوّر به شيئاً من أعمالها نوعا جميلاً من التصوير. الحكمة الغامضة تريده على التفسير، تفسير الحقيقة؛ والخطأ الظاهر يريده على التبيين، تبيين الصواب؛

والفوضى المائجة تسألها الإقرار، إقرار التناسب؛ وما وراء الحياة يتخذ من فكره صلة بالحياة؛ والدنيا كلها تنتقل فيه مرحلة نفسيةً لتعلو به أو تنزل. ومن ذلك لا يخلق الملهم أبداً إلا وفيه أعصابه الكهربائية، وله في قلبه الرقيق مواضع للاحتراق تنفذ إليها الأشعة الروحانية وتتساقط منها

وإذا اختير الكاتب لرسالة ما، شعر بقوة تفرض نفسها عليه، منها إسناد رأيه، ومنها إقامة برهانه، ومنها جمال ما يأتي به؛ فيكون إنساناً لأعماله وأعمالها جميعاً، له بنفسه وجود، وله بها وجود آخر؛ ومن ثمَّ يصبح عالماً بعناصره للخير أو الشر كما يوجَّه؛ ويلقي فيه مثل السر الذي يلقى في الشجرة لإخراج ثمرها بعمل طبيعي يرى سهلاً كل السهل حين يتم، ولكنه صعب أيُّ صعب حين يبدأ

هذه القوة هي التي تجعل اللفظة الواحدة في ذهنه معنى تاماً، وتحول الجملة الصغيرة إلى قصة، وتنقلب باللمحة السريعة إلى كشف عن حقيقة، وهي تخرجه من حكم أشياء ليحكم عليها، وتدخله في حكم أشياء غيرها لتحكم عليه؛ وهي التي تميز لغته وأسلوبه لأنها تلتقط بمعانيها ألفاظها، وما تعطيه هو إلا لتعطي الناس منه، وكما خلق الكون من الإشعاع تضع الإشعاع في بيانه

ولابد من البيان في الطبائع الملهمة ليتسع به التصرّف، إذ الحقائق أسمى وأدق من أن تعرف بيقين الحاسة أو تنحصر في إدراكها. فلو حدَّت الحقيقة لما بقيت حقيقة، ولو تلبَّس الملائكة هذا اللحم والدم لبطل أن يكونوا ملائكة؛ ومن ثم فكثرة الصور البيانية الجميلة للحقيقة الجميلة، هي كل ما يمكن من طريقة تعريفها للإنسانية

وأيُّ بيان في خضرة الربيع عند الحيوان من أكل العشب إلا بيان الصورة الواحدة في معدته؟ غير أن صور الربيع في البيان الإنساني على اختلاف الأرض والأمم، تكاد بعدد أزهاره ويكاد الندى ينظرها كما ينظره

ولهذا ستبقى كل حقيقة من الحقائق الكبرى: كالإيمان والجمال والحب والخير والحق - ستبقى محتاجة في كل عصر إلى كتابة جديدة من أذهان جديدة

وفي الكتَّاب الفضلاء باحثون مفكرون تأتي ألفاظهم ومعانيهم فنّاً عقلياً غايته صحة الأداء وسلامة النَّسق، ويندر البيان في كلامهم فيكون كوخز الخضرة في الشجرة اليابسة هنا وهنا؛ ولكن الفنَّ البياني يرتفع على ذلك بان غايته قوة ألداء مع الصحة، وسموَّ التعبير مع الدقة، وإبداع الصورة زائداً جمال الصورة؛ أولئك في الكتابة كالطير له جناح يجري به ويدفُّ ولا يطير، وهؤلاء كالطير الآخر له جناح يطير به ويجري، ولو كتب الفريقان في معنى واحد لرأيت المنطق في أحد الأسلوبين يقول: أنا هنا في معانٍ وألفاظ. والإلهام في الأسلوب الآخر يقول: آنا هنا في جلال وجمال وصورة وألوان

ودورة العبارة الفنية في نفس الكاتب البياني دورة خلق وتركيب، تخرج بها الألفاظ اكبر مما هي كأنها شبَّت في نفسه شباباً، وأقوى مما هي كأنما كسبت من روحه قوة، وأدلَّ مما هي كأنما زاد فيها بصناعته زيادة. فالكاتب العلميَّ تمر اللغة منه في ذاكرة وتخرج كما دخلت عليها طابع واضعيها؛ ولكنها من الكاتب البياني تمر في مصنع تخرج عليها طابعه هو. أولئك أزاحوا اللغة عن مرتبة سامية، وهؤلاء علوا بها إلى أسمى مراتبها؛ وأنت مع الأولين بالفكر، ولا شيء إلا الفكر والنظر والحكم؛ غير انك مع ذوي الحاسة البيانية لا تكون إلا بمجموع ما فيك من قوة الفكر والخيال والإحساس والتأثر

وللكتابة التامة المفيدة مثل الوجهين في خلق الناس: ففي كل الوجوه تركيب تامٌّ تقوم به منفعة الحياة، ولكن الوجه المنفرد يجمع إلى تمام الخلق جمال الخلق، ويزيد على منفعة الحياة لذة الحياة؛ وهو لذلك يرى ويؤثر ويعشق

وربما عابوا السموَّ الأدبيَّ بأنه قليل، ولكن الخير كذلك؛ وبأنه مخالف، ولكن الحق كذلك؛ وبأنه محيّر، ولكن الحسن كذلك؛ وبأنه كثير التكاليف، ولكن الحرية كذلك

إن لم يكن البحر فلا تنتظر اللؤلؤ، وإن لم يكن النجم فلا تنتظر الشعاع، وإن لم تكن شجرة الورد فلا تنتظر الورد، وان لم يكن الكاتب البياني فلا تنتظر الأدب

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي