مجلة الرسالة/العدد 183/الرسالة في عامها الخامس

مجلة الرسالة/العدد 183/الرسالة في عامها الخامس

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 01 - 1937


أستهل عام (الرسالة) الخامس والدنيا في بلاد الرسالة تلقى بسمعها إلى دعاء الوحي من جديد. فالعقول التي كبلتها أغلال الجهل تتحرر، والنفوس التي دنستها أرجاس الذل تتطهر، والعزائم التي طالما استنامت لسلطان القوة تستفيق! كأنما ارتد إشراق الروح إلى مطالعه بعد أن اضطرب في الضباب والسحاب عشرة قرون! هذه مصر والعراق وسورية وأكثر أمم الشرق تنبثق في أجوائها وأرجائها أشعة الشمس الصحراوية الأولى، فتنعش ما خمد من غرائز الرجولة، وتحي ما همد من نوازع المجد، وتقتل ما عاث من جراثيم البلى، وتهدي من ضل إلى سواء المحجة؛ بينما أمم الغرب يغيم عليها الأفق، فتدفع بالسلام إلى الحرب، وتلقي بالحياة إلى الموت، لأن حضارتها الحديدية علمتها كيف تهدم، ولم تعلمها كيف تبني! فالمصري أو العربي أو الشرقي يعلم أنه كان يناضل عن ذاتيته، فلما أستردها عاد يناضل عن إنسانيته؛ وسلاحه في كفاح البربرية اليوم، هو كسلاحه في كفاحها أمس: قوة صارمة تعتمد على العدل، وثقافة عاملة تستند إلى الروح، وسياسة جامعة تقوم على المحبة. ومحال على ابن الرسالة والنور أن يرى مخلفات العقل والقلب تتهاوى في العدم ثم لا ينهض!

أستهل عام (الرسالة) الخامس ومصر وأخواتها على باب عهد جديد؛ فالنوايا معقودة على تغيير الحال، والميول متجهة إلى طريق الكمال، والآمال معلقة على الثقة بالله؛ ولكل حال مقتضى، ولكل عهد رسالة، ولكل قوم أدب. وسبيل القلم أن يدخل في عُدد هذه النهضة دخول الآلة والمدفع: ينتج إنتاج الخير كتلك، ويدافع دفاع الحق كهذا، ثم ينفرد هو بالوساطة بين الروح والجسم، والسفارة بين السماء والأرض. ولقد كان لأدبنا في أمسه الدابر ذبذبة بين الشرق والغرب، فلا إلينا ولا إليهم. وتلك حال كانت لازمة لما نحن فيه لزوم النتيجة المحتومة؛ فإذا أحس الفنان مظاهر الاستقلال والاستقرار في الوطن والحكم والرأي والعقيدة والعزيمة، كان حريا بفنه أن يستقل، وبذهنه أن يبتكر. (والرسالة) ترجو أن تحمل بعون الله دعوة العقول الخصيبة إلى هذه الأمة النجيبة. وستظل تنقل خطاها الوئيدة السديدة المتزنة على ما رسمته لها كرامة الجنس وطبيعة البيئة وحاجة الثقافة؛ لا تتخذ لهوالحديث، ولا تصطنع خوادع الحس، ولا تتملق شهوات الأنفس. وأصدقاؤها - والحمد لله والشكر لهم - لبسوها على هذه الخشونة، فلا يريدون أن تخطر في وشي، و أن تطرى في كلام، ولا أن تميل إلى هوى العامة، حتى أبوا كل الأدباء أن يتسع فيها مجال القصص، والقصص في الأدب الحديث فرع يكاد يختصر كل فروعه ويطغى على جميع نواحيه. وما زلت أذكر يوم أعلنا عن باب المسرح والسينما في الرسالة! فقد انثالت علينا رسائل الإشفاق والعتب تناشدنا الله أن نربأ بالصحف المهذبة الوقورة أن تنطوي على هذا (الهذر)! ولا يكاد العدد يخرج إلى الناس حتى تأتينا آراء القراء في التليفون أوفي البريد تستحسن ما ارتفع إلى المستوى الذي عهدوه، وتستهجن ما أنخفض عنه؛ وهذه الرقابة الغالية دليل على اشتراك الذوق ووحدة الهوى بين القارئ وبين المجلة. فنحن لذلك حريون أن نحرص كل الحرص على أن ندع للرسالة هذه الخطة، ونحفظ عليها تلك السمة

على أن هناك طائفة من ذوي الثقافة المتخطفة والذوق الملول، تعودوا أن يتناولوا كل شيء بالمس الرقيق؛ فهم يريدون أن يكون لكل عدد لون، ولكل مقالة خلاصة، ولكل خلاصة نكتة، ولكل نكتة صورة. وما دامت الصورة تمثل الفكرة، والعنوان يلخص الموضوع، فالاستغراق في التفاصيل بعد ذلك عناء وعبث!! هؤلاء هم الجناة على الأديب والأدب؛ يدفعون الباحث بسأمهم إلى توخي السهولة وإيثار الخفة، فيكون من ذلك هذا التفاعل الدوري بين سطحية القارئ وسطحية الكاتب. وإنا لنرجو أن تجد هذه الطائفة في (الرواية) مجازا إلى (الرسالة)؛ فإن المثل يقول: تطعَّم تطْعم، أو ذُق تشتهِ. ومن الخير أن تمهد للجد باللهو، وأن تجر إلى التثقيف بالتسلية. والرواية حلقات بين عامي ? الذوق ونبيله، ودرجات بين خفيف الأدب وثقيله؛ وخفتها من طرافة الموضوع لا من سخافة الفن، ووزانتها من براعة الأسلوب لا من وقار الفكرة. وبالرسالة والرواية نحاول مخلصين أن نرضي كل ذوق، ونساير كل طبقة، ونضع في بناء الأدب العربي الجديد لبنة

تحرشت بالرسالة في عامها المنصرم عوادٍ من الأسى والمرض، بعضها يقطع الوجهة على السالك البصير، ويدفع اليأس في صدر الواثق المؤمن. ولكن الله أبرُّ بالعمل الصالح أن يدعه فريسة الأحداث والغير. ومضيَّ الرسالة قدما في خطتها الرشيدة إلى غايتها البعيدة أربع سنين لا تتغير ولا تتعثر ولا تتخلف، يجرئنا على أن نجدد لقرائها العهد، ونؤكد لأصدقائها الوعد، ونحن أقوى ما يكون العاهد والواعد اطمئناناً للوفاء ووثوقاً بالمستقبل

احمد حسن الزيات