مجلة الرسالة/العدد 184/الريف

مجلة الرسالة/العدد 184/الريف

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 01 - 1937



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

أراني كلما فسد الجو، وكثر تقلبه، وعز الاطمئنان إليه، أميل إلى الخروج إلى الصحراء أو الريف، ولا أطيق القعود في البيت؛ ولست اعرف لهذا المزاج - الشاذ فيما اعتقد - تعليلاً يسكن إليه العقل وتستريح إليه النفس. فأما انه مزاج شاذ فاعرفه من صياح أهلي حين يرونني ارتدي ثيابي والمطر منهمر والريح تعصف، وأهم بالخروج؛ ولست أراهم يملون أن يقولوا لي: (يا شيخ، ما هذا الجنون؟ تخرج في هذا المطر!! أما أن هذه لحكاية! اقعد. . . اقعد. . . نضرم لك الفحم، ونشوي (أبا فروة) أو نمص القصب ونحمد الله على وقاية الجدران) فأهز رأسي وأقول: (ما أحلى هذا! ولكني لا أطيق المكث هنا على حبي له بينكم، ولست احب أن أفارقكم لحظة، وانه ليعز على إلا تأخذكم عيني في حيثما أكون، ولكن نفسي أمارة بالسوء، أو بالحماقة، أو بما شئتم غير ذلك. فإذا كنتم تحبونني فتعالوا معي. . . فان الفضاء رحيب، الصحراء واسعة، وهاتوا القصب معكم، وأبا فروة أيضاً. . . نضع هذا كله في السيارة ونمضي بها. . . قوموا)

ولكنهم لا يفعلون، فامضي وحدي وأعود بزكام أو برد، ولكني أعود مستريح النفس هادئ الأعصاب!

وقد كنت أقول لصديق لي منذ بضعة أيام، وهو من أصحاب العقول المثقفة، والنظر البعيد، والغوص الشديد: (يا أخي، لماذا لا يحب المصريون الريف؟)

قال: (وكيف لا يحبونه وهم لا يبرحونه؟)

قلت: (إنما اعني أهل المدن - القاهرة مثلا - قلما يخطر لهم أن يقضوا أيام البطالة والفراغ من العمل في رحلة إلى الريف)

قال: (وأين تريد أن يذهبوا، وليس في الريف لغير أهله مذهب أو مقام؟)

قلت: (هذا هو سؤالي. . . لو كان الناس عندنا يحبون الريف ويطيب لهم أن يقضوا فيه كل ما يسعهم أن يخسروه من الوقت، لتغير حال الريف، وتكيف على مقتضى هذه الرغبة، وصار لغير أهله فيه مذهب ومقام)

قال: (ربما) وانقطع كلامنا في ذلك ولكني لم اكف عن التفكير فيه، وقد أدرت عيني في شعوب البحر الأبيض فإذا أكثرها كأهل مصر، ليس لهم (غرام) أو (عشق) للريف أو ما يسمى (الطبيعة)، فالروم والطليان والفرنسيون والأسبان، كلهم على شاكلتنا: الحضري منهم يبقى في المدينة ولا ينشد الريف أو يحن إليه؛ والريفي في قريته، يندران تنزع نفسه إلى تركها أو التطواف بعيدا عنها. ولا نكران أن هجرة أبناء هذه البلاد إلى الأقطار الأخرى غير قليلة، وفي مصر وحدها منهم عشرات الألوف، أو مئاتها، ولكن الهجرة تجيء عن اضطرار لا عن رغبة، والباعث عليها الحاجة، فلا دخل لهذا فيما أقول عنهم من ضعف ولوعهم (بالطبيعة)

واكثر الأجانب هنا يتخذون مساكنهم في قلب المدينة ولا يبعدون ببيوتهم عن أماكن عملهم بعدا يكلفهم مشقة أو يجشمهم عناء ونفقة، ما خلا الإنجليز، فان الرجل منهم يكون عمله في شبرا، فيتخذ بيته في أطراف مصر الجديدة أو في الزمالك على النيل، أو في الجيزة على طريق الهرم، ولا يبالي ما يضيع من الوقت في الذهاب والإياب، ولا يحفل ما يكلفه هذا البعد من النفقة. وقلما يقضي يوم بطالة في بيته إلا إذا كان مريضا. وليس بالنادر أن ترى الواحد منهم يحمل في سيارته خيمة وطعاما وشرابا يكفيان أياما، وفراشا أيضاً للنوم والجلوس، وأدوات للعب، ويذهب بذلك كله إلى السويس مثلا؛ ولو شاء لأعفى نفسه من هذا العناء كله، فلن يعدم فندقا يبيت فيه، ولكنه يضرب خيمته على ساحل البحر أو في الصحراء ويقضى أياما ناعما بالعزلة والوحدة وبما حوله من وجوه الأرض أو الماء، ويروح يمشي بضعة فراسخ كل يوم. . . وقد يكون وحده، فلا يشعر بوحدة ولا تخطئه سكينة النفس، وقد يكون معه غيره، فلا تراه - فيما يبدو لك - شاعرا بأنس يفتقده في وحدته، فكأن انسه كله بالمحل ولا بالرفقة. . ومن المتع التي يحرص عليها أن يكون له بيت أو كوخ - سيان عنده - في مكان ريفي بعيد يذهب إليه كلما أوسعه أن يخلو من مشاغل العمل. فهو في هذا نسيج وحده. ولا يمنعه المطر أو الإعصار أن يخرج في ثياب السهرة ليتعشى ويرقص ويحيى الليل على اسعد حال، ولا يقعده البرد في بيته كما يقعدنا - حتى في بلاده التي لا اعرف اسخف منها جوا، ولا ابعد عن الاعتدال، فهو هناك كعهدنا به هنا

وآهل الشام على خلاف آهل مصر، فانهم كثيرو الخروج إلى الرياض والبساتين؛ حتى (قهواتهم) أو (مقاهيهم). كما يريدوننا أن نسميها - قلما تكون إلا في بستان أو كما يقول ابن الرومي:

(في) ميادين يخترقن بساتي ... ن تمس الرؤوس بالأهداب

ولا اعرف كما قلت تعليلا لهذا الاختلاف في الطباع؛ واحسب أن اعتدال جو بلادنا على العموم يحمل على الرضى بالموجود ولا يغري بغشيان غيره. ولماذا يشتاق ساكن المدينة إلى الريف وليس في المدينة ما يزهده فيها ويدفعه إلى الخروج منها والتماس ما هو أخف محملا، واكفل براحة النفس وسكينة الأعصاب؟ ومما يساعد على القناعة ويبعث على القعود أن التنوع مفقود؛ فالذي يترك القاهرة لا يتوقع أن يستفيد متعة يخطئها فيها؛ والمناظر في الريف واحدة أو هي متشابهة، فلا جبال هناك ولا غابات ولا إحراج، ولا غير ذلك مما يحرك الخيال فيحرك النفس، ولا اختلاف هناك يجعل للنقلة لذة ترجى. والريف من مصر قريب، فهو معروف غير مجهول. والصحراء حولها من بعض جهاتها فلا موجب للتخيل، ولكن الإنجليزي شانه غير شاننا، فان جو بلاده دائم التقلب، وهو مع تقلبه السريع سخيف غير مأمون؛ وقد يكون هذا مما يدفع الإنجليزي إلى اشتياق الريف ويغريه بتصور سحره ويبعثه على التماسه ونشدانه حتى ولو تكررت خيبة أمله فيه

وأمم البحر الأبيض شبيهة بنا من حيث المزاج، وجوها اقرب إلى الاعتدال من جو الشمال؛ ومن هنا فيما أظن مشاكلتها لنا في هذه الطبيعة، ولست أرى وجوه الاختلاف تؤثر في هذا

ولا نكران إننا تغيرنا. فكثر بيننا الذين يطلبون الريف أو الصحراء ويؤثرونهما على المدن، ولكننا نفعل ذلك على سبيل التقليد ومن قبيل المحاكاة ويفضل التثقيف الحديث والاتصال الوثيق بالغرب لا بدافع من الفطرة وحافز من الطبيعة. ومثلنا في هذا أمم البحر الأبيض فقد ذهبت تقلد أمم الشمال كالإنجليز والاسكندناويين والألمان، وراحت تتكلف حب الطبيعة حتى لصارت تبدو كأن هذا فيها طباع، وما هو بذاك

إبراهيم عبد القادر المازني