مجلة الرسالة/العدد 184/الشمس

مجلة الرسالة/العدد 184/الشمس

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 01 - 1937


للأستاذ أحمد أمين

أي شيء أحب إلى النفس، من المتعة هذه الأيام بالشمس، والحديث عن الشمس؟

فقد أقرسنا البرد حتى اصطكت منه أسناننا، وانكمش جلدنا، ويبست أطرافنا، وحتى وددنا - إذا رأينا النار - أن نحتضنها، وإذا رأينا الجمرة أن نلتهمها؛ ولوددت في هذه الأيام أن أكون فرانا، أو طباخا، أو سائق قطار، حتى لا أفارق النار

كل شيء في الطبيعة جميل، وأجمل ما فيها شمسها

وهي في شتائنا أجمل منها في صيفنا، ولها في كل جمال

فلها - صيفا - جمال القوة، وجمال القهر، وجمال السفور الدائم، نعظمها ونجلها؛ ونهرب منها ولكن نحبها. تقسو أحيانا، ولكنا نرى الخير في قسوتها؛ فهي كالمربي الحكيم، تقسو وترحم، وتشتد وتلين؛ تلفحنا بنارها، ولكنها نار كنار الحب يكتوي بها قلب العاشق، ثم هو يرجو بقاءها، ويخشى زوالها؛ ترسل علينا شواظاً من نار، فتسفع جلودنا، وتكوي جباهنا، حتى إذا غلا جوفنا، ووغر صدرنا، غابت عنا، وأرسلت رسولها اللطيف الوديع (القمر) فخفف من حدتنا، ولطف من سورتنا، وأصلح ما أفسدت، وضمد ما جرحت؛ فإذا خشيت أن نطمئن إليه، أدركتها الغيرة فغيبته، وطلعت علينا ببهائها، وجمالها وجلالها. وهكذا دواليك

وهي - شتاء - تطلع علينا بوجه آخر، ترينا فيه جمال الحنو، وجمال الدعة، وجمال الرحمة والعطف، وجمال الغادة اللعوب، تشاغلك فتظهر وتختفي، وتسفر وتحتجب، وتخرج من قناعها ثم تتقنع

وتنتقم من رسولها الذي غارت منه صيفاً فتطلعه علينا في جو بارد لا نطيقه، حتى لا نفكر إلا في دفئها ونسمتها، ولا نشتاق لشيء شوقنا لرؤيتها

فما أجملها قاسية وراحمة! وما أجملها واصلة وهاجرة!

تتلون بشتى الألوان فتسحر العقول، وتبهر العيون؛ فهي تارة بيضاء، وتارة صفراء، وتارة حمراء، ثم لا تستطيع أن تحكم هي في آيها أبهى وأجمل، فهي تزين ثيابها بأكثر مما تزينها ثيابه فتحت النافذة قبل أن اكتب مقالتي فتدفقت في حجرتي أشعتها الفضية اللامعة، وملأتها روحاً وحياة، وملأتني دفئاً، وملأتني معاني، وكانت حياتي في حجرتي قبل زيارتها حياة مظلمة باردة جامدة لا معنى فيها ولا روح

خلعت من جمالك على الزهر، فكان فتنة للناظرين؛ فجماله من جمالك، ولونه قبس من ألوانك، وحياته مدد من حياتك؛ فأبيضه وأحمره، وأصفره وأرزقه، ليس إلا نعمة من نعمك، وأثراً من فيضك

فالوردة الحمراء ليست إلا نقطة من دمك، والياسمين الأبيض ليس إلا لمحة من نورك، والنرجس الأصفر ليس إلا تبراً ذائباً من شعاعك

لقد أبيت على الناس أن يديموا النظر إلى جمالك، فألهيتهم بالنظر إلى بعض آثارك، ولونت الأزهار بألوانك، وأريتهم قدرة إبداعك، فشغل الجاهلون به عنك، وشغف العارفون به على أنه قبس منك، يطالعون جمالك فيه، ويقرأون معانيك في معانيه

ثم شأنك في البحر عجب أي عجب! تضربينه بشعاعك، وتلفحينه بنارك، فيتحول ماءه بخارا، يصعد إليك ليستجير منك، ويمثل بين يديك لتمنحيه عفوك، وتنيليه عطفك، حتى إذا شعر برضاك، وأمن من غضبك، دمع دمعة السرور، ففارقته ملوحته، وعاد إليه صفاؤه وعذوبته، واكتسب منك الحياة فكان ماءً جارياً، بعد أن كان ماءً راكداً، فجرى جداول وانهارا، فأرسلته إلى خدمك في الأرض من أزهار وأشجار يحيي ذابلها، ويستخرج دفينها، وينضج ثمارها

ثم تحركت فملأت الحياة حولك حركة؛ فكم من نجوم لا يعلمها إلا الله تسير حولك وتحذو حذوك؛ ثم تلعبين بالهواء من سخونة وبرودة فيتحرك، ويتعلم منك اللعب فيلعب بالبحار والأنهار والأشجار وبكل شيء يمر به؛ فإذا الدنيا كلها لعبة في يده

ثم أنت أنت حرقت الأشجار والنبات، وطمرتها تحت صفحة الأرض آلافاً من السنين بعد آلاف، حتى إذا تنبه الناس آخر الزمان فطنوا إلى انه مستودع من مستودعاتك، فاستغلوه في كل ما نرى الآن من حركة، فهو سر حركة المصانع والبواخر، وسر حركة القطارات والآلات، فلو قلنا إن كل حركة في الأرض أنت مصدرها لم نبعد

تلعبين بالناس فتنمينهم وتوقظينهم؛ ترسلين أشعتك الجميلة على العالم فينتبه، وتغيبين عنه فينام؛ ثم تتداولين العام فتنبهين قوماً وتنيمين قوما، ويراك قوماً شروقاً وقوم غروبا، وقوم ليلاً وقوم نهارا، وقوم صيفاً وقوم شتاء، وأنت أنت في عليائك لا تملين الحركة ولا تشعرين بنوم أو يقظة، ولا بليل أو نهار

بل بك يجري الدم في عروقنا، فدمنا من غذائنا، وغذاؤنا من حرارتك، تسلطينها على الأرض فتخرجين منها (حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهة أبا)؛ بل ما أفكارنا إلا منك؛ أليست أفكارنا من دمائنا، أو ليست دماؤنا منك؟

بل لقد كنت حيناً من الأحيان آله الناس ومعبودهم، فكنت مصدر وحيهم، ومصدر إلهامهم، ووجهة عبادتهم. رأوك مصدر الحياة فعبدوك، ورأوك مصدر النعم فمجدوك، ورأوك يحيط بك كثير من الغموض على جلائك ووضوحك فألهوك، ورأوك أكبر النجوم فرببوك

ثم أتى الأنبياء، فرأوك تأفلين فسلبوك ألوهيتك، ورأوك تتغيرين فحولوا عبادتهم عنك

ولكن إن سلبوك ألوهيتك فلم يسلبوك عظمتك وجمالك وجلالك وكفاك ذلك فخراً

لست ادري أأصاب العرب إذا أنثوها أم أصاب الإنجليز إذ ذكروها؛ لعل الإنجليز رأوا القمر وادعاً جميلاً هادئاً رقيقاً فأنثوه، ورأوا الشمس قوية قاهرة قاسية فذكروها؛ ولكن لعل واضعي اللغة الإنجليز لو عاشوا في عصرنا، ورأوا ما نرى من قوة المرآة وضعف الرجل، وجبروت المرأة واستكانة الرجل، لرجعوا إلى رأي العرب، وآمنوا ببعد نظرهم، وقلبوا المذكر مؤنثاً والمؤنث مذكرا

ولعل العرب أيضاً رأوا الشمس أم الأرض وأم القمر وأم الزرع فأنثوها، إذ لا تلد إلا المرأة؛ ورأوا القمر طفلاً يدور حول أمه فذكروه، واحتاط العرب أن يدرك الشمس شيء مما يلحق الأنوثة فقال شاعرهم: (وما التأنيث لاسم الشمس عيب)

أما الشمس نفسها فلم تعبأ بتأنيث ولا تذكير، كما لم تعبا بمن أنثها وبمن ذكرها

فهي في سمائها تؤدي رسالتها، وتسير سيرتها، وتبهرنا بجمالها، وتوحي إلينا بأسرارها

فما أعظمك! واعظم منك من خلقك

4 يناير سنة 1937

احمد أمين