مجلة الرسالة/العدد 184/الفنون

مجلة الرسالة/العدد 184/الفنون

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 01 - 1937



فرانسسكو جويا

للدكتور أحمد موسى

يعد جويا من أغرب شخصيات القرن التاسع عشر وأبعدها أثرا في الفن. ظل يصور حتى تجاوز الثمانين من عمره، وقضى حياة حافلة بمختلف الحوادث والعبر، وبوفاته انتهى دور من أهم أدوار الفن الأسباني

ولد فرانسسكو جويا في 30 مارس سنة 1746 في فونديتورس إحدى القرى الصغيرة في مديرية اراجون لوالدين فقيرين اشتغلا بالفلاحة في قطعة صغيرة من الأرض كانت مصدر حياتهم؛ فكانت طفولته مليئة بالعمل والتعب والملل.

وعندما بلغ الثانية عشرة من عمره رسم شكلا تخطيطيا لخنزير على حائط مسكنه الريفي، وشاهد أحد الرهبان هذا الرسم مصادفة فوجد فيه ما يدل على استعداد راسمه؛ فتقدم إلى والده ناصحا بان يذهب بابنه إلى فنان يقيم في سرقوسة وهي اقرب البلدان إلى قريتهم

كان أول معلميه جوزي لوزان مارتنز، فعرف منه كيفية تحضير الألوان وشد قماش اللوحات في الإطار، وما إلى ذلك من وسائل العمل نظير خدمته لمعلمه

وفي مدة وجيزة استطاع جويا أن يفهم الأسرار العملية لمهنته التي ولد لها، وأمكنه أن يصور بعض تفاصيل مهمة على لوحات معلمه، ولم تنقض ثلاث سنوات حتى رخص له مارتنز برسم لوحات بأجمعها

جمع جويا بين ظاهرة العبقرية الفنية وبين قوة العضلات؛ فكان يمضي أوقات فراغه في الرياضة البدنية والمصارعة والجري وحمل الأثقال

وكان محبوبا من بنات البلدة اللواتي كن يحضرن لمشاهدة مصارعته مع أمثاله الذين تغلب عليهم دائما. وكان كثير التردد على القهوات والحانات فكان روادها يخشون بأسه.

بدأ جويا حياته الفنية بتصوير العذراء، فأخرجها إخراجا أنيقا في ثوب رقيق وقوام رشيق. ومع هذا السمو كنت تراه أحيانا يغني أغاني شعبية عامية لا تنسجم مطلقا مع مصوراته في ذلك الحين، كما كان عصبي المزاج سريع الغضب سريع البطش

عاد في آخر الليل مرة مع أصدقاء له إلى المدينة فصادفه في حارة قذرة من حاراتها نفر من قطاع الطرق الذين أرادوا به وبأصدقائه شرا، ولكن جويا بمساعدة رفاقه استطاع مطاردتهم وقتل ثلاثة منهم!

ولم يترك الفرصة تسنح للقبض عليه ففر هاربا إلى مدريد. ظهر في العاصمة كفنان بسيط، ولم ير سبيلا إلى العيش لأنه لم يكن يعرف أحداً فيها. كان دائب البحث عن أي عمل ولكنه كان يعود مساء كل يوم كسير القلب إلى الملجأ الذي أقام فيه

وفي صباح يوم وجد المسكين في إحدى الأزقة الضيقة وقد اعتدي عليه بالسكاكين فأخذه أولئك الذين كان يقيم معهم وعنوا به حتى شفي من جراحه

علم البوليس انه من العاطلين المدمنين على الخمر فطارده إلى خارج العاصمة، فذهب إلى حلبة مصارعة الثيران واستطاع أن يجد عملا حقيرا نظير اجر بسيط ادخر معظمه حتى تمكن به من الوصول إلى إحدى موانئ أسبانيا الجنوبية حيث أبحر إلى شاطئ إيطاليا الغربي. وصل إلى روما وهناك أمكنه العمل عند فنان شعبي راجت حاله

وعند هذا الفنان تعرف إلى أناس لا يميلون بطبعهم إلى العلم ولا إلى المتعلمين وإنما هم من أولئك الذين تجتذبهم حياة الشوارع وما فيها من وسائل لقتل الوقت

ومال بطبيعته وبحسب استعداده وبعامل البيئة التي عاش فيها إلى تصوير مناظر الأزقة والحارات والقهوات على نقيض الفنانين الآخرين الذين كانوا كثيرا ما يتحاشون إظهار هذه المواقف على لوحاتهم

وهذه نزعة لم يسبق أحد إليها خصوصا وانه اكثر من تصوير الوجوه الثائرة والمناظر الشاذة المتصلة بحياة الجمهور والغوغاء مباشرة، حتى لترى هذه المسحة على معظم لوحاته التي تعد بحق خير مسجل لشخصية مصور من انبغ فناني القرن التاسع عشر

صعد يوما إلى قبة كنيسة بطرس ليحفر الأحرف الأولى من إسمه، ولا تزال محفورة إلى اليوم. وهكذا كانت أقامته في روما غريبة الأطوار. وقد تعرف فيها بسفير روسيا الذي طلب إليه السفر إلى بطرسبرج ليكون مصورا للقصر. وفي أثناء المفاوضة في هذا الشأن قبض عليه بتهمة تحريض إحدى الراهبات على عمل غير شريف. ولولا اتصاله الوثيق بسفير روسيا لما استطاع الإفلات من يد العدالة

كان جويا تعسا في غربته، وكان دائم الحنين إلى بلدته، ورأى في إقامته الطويلة بروما تكفيرا كافيا لسابق جرائمه، فعاد إلى مدريد سنة 1775 وتزوج من يوزيفينا بايو شقيقة الفنان فرانسسكو بايو الذي كان مصورا في قصر مدريد والذي بوساطته استطاع جويا أن يقوم بعمل تصميمات لمناظر وزخارف الأقمشة التي كانت تغطى بها حوائط القصر. وأول تصميم له نسج على قماش لهذه الغاية سنة 1776، واستمر حاله هكذا حتى سنة 1791، وتدرج في التقرب من سادة القصر وتقدم في فنه تقدما عظيما حتى اصبح ابرز فناني عصره في أسبانيا، وعمل لوحات مثلت الحياة على الصورة التي تغلغلت في نفسه كما صور اكبر الشخصيات

كان جويا فنانا بكل معاني الكلمة، كما كان بوهيميا في علاقته الزوجية، ولم يخل تاريخ حياته من فضائح أهمها اتصاله بأميرة ألبا التي عشقها عشقا تملك عليه مشاعره فصورها على لوحات تجل عن الحصر في مواقف مختلفة، وكان يعيش في جناح من قصرها. أما هي فكانت تتوجه من حين لأخر إلى زوجته وأولاده وتقدم إليهم العطايا والهدايا

ولم تكن الملكة راضية عن هذه العلاقة؛ فعملت ترتيبا أخرجت به الأميرة من القصر إلى جهة نائية. سافر جويا بصحبة معشوقته في عربة خاصة كسرت عجلتها في الطريق الوعر، فقام بعمل الإصلاح اللازم كما لو كان حدادا ماهرا، وأمكن السير بالعربة إلى اقرب قرية لتغيير العجلة. تعرض جويا بعد هذا المجهود للهواء البارد فأصيب بصمم في إحدى أذنيه لازمه حتى أخر حياته

مضت الأعوام وعادت الأميرة إلى مدريد وماتت بعد وصولها. وعاد هو لتصوير مناظر دلت على منتهى الحنق والحقد على النساء، كما دلت على كثير مما خالج نفسه من البؤس والشقاء

زحف الفرنسيون على مدريد فقابلهم جويا بكل ترحيب وانضم إليهم بقلب مطمئن، وبعد خروجهم منها وجهت إليه تهمة الانضمام للعدو؛ إلا انه تمتع بالعفو لكبر سنه

بدأ الهدوء يدب إلى نفسه، واستمر يصور لوحاته، واكمل مجموعته بالقلم الرصاص حتى بلغ السابعة والسبعين، ثم رحل إلى بوردو عملا بمشورة طبيبه، ولم يترك التصوير مع ضعف بصره، بل كان يستعين بالمجهر. وآخر لوحة له صورها في سن الحادية والثمانين، ومات بعدئذ بسنة واحدة سنة 1828 هذه هي ترجمة فنان لم يكن له نظير في مجرى حياته ولا في قوته الإنشائية لمجموع لوحاته التي من اشهرها صورة (البقرة العمياء) تمثل مجموع من بنات وشبان تتوسطهم بنت مغمضة العينين تبحث عمن يناديها (محفوظة بمدريد)، وصورة (الغداء في الغيط) وفيها مثل الطبيعة تمثيلا رائعا (محفوظة بلندن) وصورة (النزهة في الأندلس) وكانت مرسومة خصيصا للنسج (محفوظة بمدريد) وصورة الولد النطاط وهي من أدق الصور التي تدل على منتهى قوة الملاحظة والإخراج: وقفت أربع بنات يحملن ملاءة كبيرة وفوقها صبي واقف على ساق واحدة استعداد للقفز إلى أعلى عندما يشددن الملاءة

وصورة (المشاجرة في الملجأ) وهي من احسن صوره، تذكرنا بوقت بؤسه عندما كان بعيدا عن بيته يبحث عن عمل ولم يجد إلا ملجأ حقيرا يأوي إليه. والناظر فيها يأخذه العجب عندما يرى أنها تمثل حياة الملاجئ تمثيلا صادقا؛ صور عليها بعض الحيوانات وبعض الأشجار وعربة قديمة في ركن من اللوحة؛ أما بوسطها فقد وقف المتشاجرون موقفا عنيفا لا يستطيع غير جويا أن يخرجه في هذه القوة

وله لوحة خالدة (محفوظة بمدريد) اسماها (الرمي بالرصاص) على يمينها وقف الجنود شاهرين بنادقهم، وعلى اليسار اصطف المنبوذون مستسلمين للإعدام، وقد أعطى الصورة ظلا ونورا قويين قلما تراهما لغيره من الفنانين

هذا غير لوحاته العظيمة للشخصيات البارزة في عصره، كصورة ماري لويس، وصورة فرديناند السابع وصورة أمير الكاديا وغير ذلك مما يجل عن الحصر

وله لوحات تعد من اغرب ما تركه فنان، منها صورة (شجرة الربيع) وهي تمثل صبية التفوا حول رجل يحمل ساقا طويلة ثبت في أعلاها شجرة صغيرة وولدان صغيران يتسلقان الساق

أما لوحته (بالقلم الرصاص) الممثلة لحلبة مصارعة الثيران فهذه تعد في مجموعها من اعظم ما أخرجه؛ فقدرته على تصوير الثور الثائر والمصارع الماهر لا سبيل إلى وصفهما

احمد موسى