مجلة الرسالة/العدد 185/الفنون

مجلة الرسالة/العدد 185/الفنون

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 01 - 1937



رمبراندت

للدكتور أحمد موسى

أراد الله أن يكون خلود الشخصية وقفاً على الغنى أو الجاه، كما شاء ولا راد لمشيئته أن يمنح الإنسان عقلاً يميز به موضع الجمال في خلقه، فيقدسه ويستلهم منه وحياً لحياته التي لا تعتبر حياة بمعناها الكامل إلا إذا رجعت في جوهرها إلى التمييز

وكأن الشخصية التي نحللها اليوم من تلك الشخصيات التي لم يكن للغنى يد في تخليدها، ولا للجاه أي اثر في تكوينها، بل رجع الفضل فيها إلى الفن الذي عبر عنه رمبراندت تعبيراً استلهمه من الواقع الملموس طامحاً به إلى الكمال المنشود

ولد رمبراندت فان راين في منتصف يوليو سنة 1606 بليدن لأبوين فقيرين، اشتغل الوالد طحاناً محدود الرزق؛ أما أمه فكانت الزوجة المخلصة البريئة

شب الولد بسيط النشأة والمعيشة لم ير أحد على ملامحه أي اثر للنزعة الفنية، كما انه هو نفسه لم يكن يدري ماذا يكون من أمره في مستقبل الأيام

والشخصية في نظر التاريخ لا يتحتم أن تكون فذة في العلم أو الأدب، ولا في السياسة أو الحرب؛ لان الحضارة في اكمل معناها تقوم على أركان لا يقل الفن فيها قيمة عن أي ركن آخر، بل إن شيلر شاعر ألمانيا الأعظم يقول: (إن الحضارة الحق يجب أن تمهد سبيل الحرية للإنسان، وأن تعينه على الوصول إليها، كما يجب أن تشغل فراغ عقله حتى يصبح بها قادراً على الشعور بوجدانه مادام انه مخلوق ذو إرادة)

وهكذا كان إنتاج رمبراندت ممهداً السبيل للشعور بالحرية في تراثه المجيد، الذي إذا تأملناه شعرنا بالوجود، وانتعشت فينا الإرادة إلى العمل والانتاج، بل والى الاستمتاع إلى حد بعيد، اعني انه ترك وراءه ركناً هاماً من أركان الحضارة الإنسانية!

ونبوغ التلميذ لا يتوقف دائماً على قدرة أستاذه؛ وهذا ما يلاحظ على رمبراندت؛ فعندما التحق بالعمل عند سواننبرج في ليدن سنة 1621 لم يكن معلمه هذا من الدرجة الأولى؛ ومع انه استمر يتلقى مبادئ الفن عليه ثلاث سنوات؛ فقد سافر إلى أمستردام لزيادة المعرفة؛ فتلقى الدرس على لاستمان نصف سنة عاد بعدها إلى بلدته ليدن، وبدأ حياته العملية مستقلاً في آخر سنة 1631، اعني عندما بلغ الخامسة والعشرين؛ إلا انه ظل - ولو أن أول لوحة له مؤرخة سنة 1627 - يواصل الليل بالنهار في المران والمشاهدة، حتى إذا ما بلغ الثلاثين كان أستاذاً معترفاً به

تزوج رمبراندت في أواخر يوليو سنة 1634 من زاسكيا فان اولنبرج، فأتمت عليه نعمة الحياة؛ ولم يكن اختياره لها لمجرد الهدوء إلى جانب زوجة، بل لأنه وجد فيها خير معين؛ وكان القدر قاسياً، فلم تمض ثماني سنوات حتى فرق الموت بينهما

كانت وفاة زاسكيا فاتحة مصائب كثيرة، تراكم دينه، وساءت حاله؛ بعد أن كان من عشاق جمع الصور النادرة والتحف الثمينة، اصبح والمحكمة تحدد موعداً لبيع بيته وما فيه

وكانت هندريكا ياجرز مدبرة بيته عاشقة له معجبة به، فتقدمت بمالها الخاص وأنقذت الموقف ولم يتم البيع

أثرت هذه الصدمات تأثيراً فعالاً في اتجاه الفنان، نتبينه في لوحات كثيرة له، فنرى بعضها تشمله روح اكتئاب وحزن ظاهرين

توفي رمبراندت في اليوم الثامن من أكتوبر سنة 1669 بعد حياة مليئة بالإنتاج الفني الهائل، الذي تخلله هدوء العيش حيناً، وآلام النفس أحياناً أخرى، معتبراً في التاريخ العام وتاريخ الفن إماماً لفناني المدرسة الهولاندية إطلاقاً

وتاريخ الفن لا يعنى بإنتاج الفنان من حيث الكثرة؛ وإنما يعني أول ما يعني بقدرته على الابتكار، ولمس النواحي التي لم يسبق لغيره معالجتها، ولذا يقول كارل بوليوس فيبر بان الفنان الجدير بالتسمية هو ذلك الذي ينتج ما لا يستطيع غيره انتاجه؛ لاننا نقول أن إنتاجاً ما بعيد عن الفن إذا استطاعت الكثرة عمل نظيره

ترك رمبراندت حوالي الخمسمائة لوحة، صورها خلال ثلاثين سنة، مثلت المناظر التاريخية الدينية، والشخصية، والطبيعية بروح لا يمكن لغيره تصويرها

حفظت المتاحف والكنائس كثيراً منها، وتتباهى الممالك بكثرة ما بمتاحفها وكنائسها من عمله، وتوجد أربعون لوحة منها بمتحف بطرسبرج ومثلها بباريس وكاسل وامستردام، واثنتا عشرة ببرلين واقل من ذلك بفينا ومدريد

هذا عدا ما هو في حيازة الأفراد؛ فلدى ملك إنجلترا ودوق وستمنستر والليدي والاس، واللورد البسماير بلندن، وهافمير بنيويورك، ورودولف كان بباريس، وكارستانجن ببرلين والليدي سيكس بامستردام قطع من تصويره

أما الدارس للوحاته فنه يرى ما يفيض عليها من صدق التمثيل للحقيقة متمشياً في ذلك مع مذهب الواقع فضلا عن انه من ناحية مذهب الكمال لا يقل بحال عن كبار الفنانين، كما يلمس فيها روح القوة العنيفة المتغلغلة في إخراجها وسحر الألوان المشتملة عليها، والقدرة التي أصبحت مضرب الأمثال في تكوين الظل والنور، اللذين لا يزالان مثلاً أعلى يحتذي به إلى هذا العصر

بهذا الظل والنور ابرز رمبراندت الجمال التكويني والمجموعي إبرازاً يعتبر أدق ما أمكن الوصول إليه، مكونا طرازاً خاصاً انطبعت عليه نفسه، وعرف باسمه على مر القرون

ويعتبر إنتاج رمبراندت إجمالاً المقياس الصادق لقوة الفن الجرماني؛ إذ بشخصيته الممثلة في طرازه يتم التوازن بين عظمة الفن الروماني في كفه، والفن الجرماني في الكفة الأخرى

فسر رمبراندت الكتاب المقدس على لوحاته تفسيراً سهلاً من الناحية الوضعية، ولكنه قوي من الناحية الفنية، متخذاً مادته من الطبيعة المحيطة به، أما الأشخاص فقد كانوا من مجاوريه، حتى أشخاص أقاصيص كتاب العهد القديم كانوا من يهود هولاندا المعاصرين. ومن كل هذالا نرى فيه فناناً عبقرياً فحسب؛ بل مسجلاً ومؤرخاً صادقاً في كل ما صور، لأنه لم يعتمد الخيال كل الاعتماد، بل على الموجود الملموس

أخرج اللوحات الشخصية إخراجاً فذاً، فصور أبرز رجال عصره تصويراً دقيقاً، كما صور حوالي الأربعين لوحة لنفسه حينما كان يخلو مستلهماً بين حين وآخر؛ ولذلك ترى في هذه الأربعين لوحة صفحة كاملة لتكوينه النفسي والفني، وتطوره في تفكيره وفهمه لحقيقة الوجود

ومن أهم هذه الصور لوحته المحفوظة بمتحف برلين والمؤرخة سنة 1634، ولوحته المحفوظة بالهاي 1634 أيضاً، وبفينا سنة 1635، وباللوفر سنة 1637، وفي لندن بالناشونال جاليري سنة 1640، وبيكنجهام بالاس في لندن سنة 1642

ومن أحسن صوره لنفسه من الناحيتين الإنشائية والفنية تلك اللوحة التي مثلته جالساً على مقعد وثير، وهي في حيازة اللورد الشستر بلندن ومؤرخة بسنة 1658، وكذلك واحدة أخرى في باريس مؤرخة بسنة 1660 وثالثة في لندن بالناشونال جاليري سنة 1664

أما آخر صورة من هذه المجموعة فهي مؤرخة بسنة 1669 أعني قبيل وفاته، وهي في حيازة السير ريلد بلندن

وصورته لنفسه لا تنم عن عظمة مصطنعة ولا تجميل مرغوب فيه، ولا تكلف لضعف في الإخراج. تراه وقد أسدل الشعر على كتفيه متفنناً بدقة وانسجام، مكوناً للوجه من حوله مكاناً ملاصقاً لسواد الشعر؛ فأبرزه خير إبراز؛ كون فيه شخصيته دون جفاف؛ فترى نظرة العينين وما ينطوي فيهما اقرب إلى الآلام منه إلى مسرة الحياة، ولكن هذا ليس غريباً على رجل كامل الحس، فنان بنفسه ولحمه ودمه، صادف آلاما مبرحة فضلا عن نظرته الخاصة إلى الحياة

وله لوحة (بمتحف درسدن) خالدة، تنبض بالحياة، تمثله وزوجته زاسكيا في مرح وسعادة، والمشاهد لها يدهش للقدرة العظيمة التي استطاع بها أن يجعلها فذة مودية للغاية التي صورها من اجلها، فجاءت ملامح وجهيهما ناطقة بالهناء والتوفيق. انظر إلى يده اليمنى رافعة كأساً امتلأت لنصفها، والى صفاء لون الخمر فيها، ثم المس جمال الإنشاء العام ولاحظ قوة الظل والنور التي جعلتها مجسمة

ولوحته لمدبرة بيته هندريكا، وهي مؤرخة سنة 1663 ومحفوظة بمتحف برلين، والمجموعة المحفوظة بقلعة وندسور ومنها لوحة لأمة، وصورة أخيه أدريان لابساً خوذة ذهبية ومؤرخة 1650، ومحفوظة بمتحف برلين، وصورة ابنه تيتوس المحفوظة بمتحف فينا، عدا الكثير لأبيه وأخته، كل هذه تكون لك ناحية جلية لقوته

أما اللوحات التي صورها للشخصيات البارزة في عصره فهي أيضاً مجموعة جديرة بالتسجيل هنا. من أهم ما فيها صورة الخطاط كوبينول مؤرخة 1631 ومحفوظة ببطرسبرج، وصورة اليزابيت باس، وصورة حرم الأدميرال سوار تنهوت في امستردام، وصورة العمدة بانكراس وحرمه مؤرخة سنة 1645 في قصر بكنجهام بلندن، وصورة الطاهية مؤرخة 1651 بمتحف ستوكهلم، وصورة جان سيكس مؤرخة 1654، ومحفوظة بسيكس جاليري في امستردام واهم لوحاته العامة صورة الصيرفي وهي مؤرخة 1627، ترى أن ابرز ما عليها شخصية الصراف الجالس إلى منضدة، ملتفتاً إلى محدثه في شيء من التردد، واضعاً يديه عليها، قابضاً باليسرى على كيس نقوده، واليمنى في حالة استعداد لأخذ قطعة النقود من محدثه. وترى على يمينه كاتب الحسابات جالساً مصغياً، شاخصاً بعينيه إلى المتكلم، وقد امسك ريشة الكتابة بيمينه، ووضع اليسرى على الكتاب وضعاً في غاية الدقة لا يوفق إليه غير رمبراندت والوجوه خلف الصورة لا تقل روعة عما في مقدمتها، إلا أن مهارة الفنان جعلت المشاهد يدرك تماماً ابرز وضع للوحة واهم ما يقصد منها بمجرد النظر إليها، لما خيم عليها من ضالة النور المتعمدة. أما الظل والنور فهما واضحان بالنظر إلى الظل الواضح على صفحة الكتاب تحت يد الكاتب، وكذلك ظل الكتاب فوق المنضدة، فضلا عما تراه من الظل على الجانب الأيسر لوجه الصيرفي؛ على حين جعل الجانب الأيمن منيراً. وظهر الشعر المجعد ظهوراً غاية في الدقة. وتدل ملامح وجه المتكلم على الرجاء والالتماس بكل قوة.

وله لوحة اسماها (دانيا) وهي صورة لامرأة عارية بالحجم الطبيعي مؤرخة سنة 1636، محفوظة ببطرسبرج، وصورة المراكبي وامرأته وهي في حيازة ملك إنجلترا، وصورة كوينتابل في سان ريمو؛ وصورة امرأة تستحم مؤرخة سنة 1654 بلندن؛ وصورة العروس اليهودية مؤرخة سنة 1665 بامستردام؛ وكذلك صورة رجال الكنيس اليهودي في جنازة دوق دوفنشير. هذا عدا صوره لرجال ونساء عجائز تعد من آيات الفن، معظمها محفوظ بلندن وبطرسبرج وبروكسل ودرسدن

(لها بقية)

أحمد موسى