مجلة الرسالة/العدد 186/ضوء جديد على مأساة شهيرة

مجلة الرسالة/العدد 186/ضوء جديد على مأساة شهيرة

مجلة الرسالة - العدد 186
ضوء جديد على مأساة شهيرة
ملاحظات: بتاريخ: 25 - 01 - 1937



هل قتل الحاكم بأمر الله أم اختفى؟

معترك من الروايات والأساطير المدهشة

للأستاذ محمد عبد الله عنان

في ليلة السابع والعشرين من شوال سنة 411 من الهجرة (13 فبراير سنة 1021م) خرج الحاكم بأمر الله يطوف كعادته في شعب المقطم حيث اعتاد أن يرصد النجوم، ثم لم يعد من جولته قط، ولم يعرف إنسان خبره أو مصيره قط؛ وكل ما عثر عليه بعد ذلك من آثاره، حماره الأشهب وقد وجد معرقباً في طريق حلوان، ثم ثيابه مزررة وبها آثار الطعان في بركة قريبة من حلوان.

بيد إن اختفاء الحاكم تلك الليلة الشهيرة، واجتماع مختلف القرائن والآثار على مصرعه بيد الجناة، لم يكن خاتمة حاسمة لعهده وسيرته وذكراه. اجل أعلنت وفاة الحاكم، وأقيم ولده أبو الحسن على مكانه في كرسي الخلافة، وذلك يوم النحر (10 ذي الحجة سنة 411هـ) لأسابيع قلائل من اختفائه، ولقب الظاهر لإعزاز دين الله؛ وبدأت الخلافة الفاطمية عهداً جديداً؛ ولكن ذكرى الخليفة الذاهب لبثت تغمر الأفق مدى حين، وتثير في المجتمع مختلف الفروض والأساطير. ذلك أن أدلة الجناية لم تكن واضحة، ولم يقم دليل قاطع على القتل أو الوفاة، ومن جهة أخرى فان الحاكم بأمر الله لم يكن فيما زعموا شخصية عادية يغمرها العدم كما يغمر سائر البشر، وتطوى آثارها من ذلك العالم لتغيض في العالم الآخر بتلك البساطة التي أحاطت باختفائه. ألم يكن الحاكم شخصية خارقة تهيم في الخفاء، وتزعم الاتصال بعوالم الغيب، وترنو إلى مدارك السمو فوق البشر؟ ألم يقدمه الدعاة السريون إلى الناس بأنه (ناطق الزمان) وانه آلة وروح حل في صورة البشر؟ وهل من كانت هذه خواصه ومزاعمه يسري عليه قانون الفناء كما يسري على جميع الناس؟

لقد اجمع معظم الروايات المعاصرة والمتأخرة على إن الحاكم ذهب ضحية المؤامرة والجريمة على اختلاف بينها في مدبري المؤامرة ومرتكبي الجريمة. ومعظمها على إن الذي دبر المؤامرة أخته الأميرة ست الملك، وذلك لما بدا من إسرافه في قتل الز ورجال الدولة، وما ارتكب من التصرفات العنيفة المتناقضة التي هزت أسس المجتمع وقلبت أوضاعه؛ وأخيراً لما جنح إليه من حماية الدعاة الملاحدة الذين نادوا بألوهيته؛ فهذه الأسباب حسبما تقول الرواية هي التي حملت أخته على تدبير مصرعه اتقاء لنشوب ثورة تودي بالعرش وبتراث الدولة الفاطمية كله؛ أما شريك ست الملك ومنفذ الجريمة، فهو الحسين بن دواس زعيم قبيلة كتامة، وكان يخشى سطوة الحاكم وفتكه؛ وأما القتلة فهم عبيده أو هم جماعة من البدو اعترضوا الحاكم في طريقه ليلة اختفائه بحجة التماس الإحسان والصلة، ورتبهم المتآمرون لقتله؛ أما جثته فقد حملها الجناة إلى أخته فدفنتها في نفس مجلسها: هذا ملخص ما تقوله الرواية في شأن المؤامرة والجريمة.

وهذه الروايات ليست موضوعنا في هذا البحث؛ وهي ليست كل شيء في تلك المأساة العجيبة؛ وإنما نعني في هذا البحث بطائفة أخرى من روايات ذات نوع خاص ودلالة خاصة، لا تأخذ بنظرية المؤامرة أو الجريمة، ولكنها تؤيد فكرة الاختفاء العمد والهجرة الأبدية، وتسبغ بذلك على ذهاب الحاكم لونا من الخفاه الغامض، كذلك الذي يغمر شخصيته وحياته كلها؛ وإذا كانت هذه الروايات تجنح في مجموعها إلى نوع من الأسطورة، فإنها مع ذلك تدخل في عداد التاريخ وتستحق الدرس بهذه الصفة، خصوصاً، وان ما تقدمه إلينا من التفاصيل والوقائع ليس في ذاته مستحيلاً ولا خارقاً.

وأول رواية من هذا النوع رواية كنسية كتبت في عصر الحاكم ذاته، ووردت ضمن سير البطاركة، أو سير البيعة المقدسة في ترجمة الأنبا زخاريا البطرك القبطي المعاصر للحاكم؛ وخلاصتها، إن الحاكم خرج إلى الجبل ذات ليلة، وسار في الجبل ومعه ركابي واحد إلى أن بلغ حلوان، ثم نزل عن حماره؛ وأمر الركابي أن يعرقبه ففعل، ثم أمره بالانصراف إلى القصر وتركه بمفرده، فعاد الركابي كما أمر؛ فلما لم يعد إلى القصر في اليوم التالي سأل رجال القصر هذا الركابي عن سيده، فأجابهم بأنه تركه في حلوان، وعاد وحده نزولاً على رغبته، فمضوا في طلبه، فوجدوا الحمار معرقباً، وبحثوا عن الحاكم في كل موضع، فلم يجدوه ولم يقفوا له على خبر أو اثر.

ووردت في تأريخ الكنائس المنسوب لأبي صالح الأرمني، والذي كتب في أواخر القرن السادس الهجري رواية مماثلة نصها: (وبهذه الناحية (أي حلوان) نزل الإمام الحاكم بأمر الله عن الحمار الذي كان راكبه، وتقدم إلى الركابي الذي كان بصحبه إلى حيث يذهب بأن يعرقب الحمار، وذهب هو وحده إلى داخل البرية، ولم يرجع يعود، ولا عرف أين توجه إلى يومنا هذا، وكان ذلك في شوال سنة إحدى عشرة وأربعمائة).

ويشير مؤرخ نصراني آخر، هو إن ابن العبري الذي كتب تأريخه في أواخر، القرن السابع الهجري إلى مثل هذا الرأي، فيقول في حوادث سنة 411هـ: (وفيها فقد الحاكم بن العزيز ابن المعز العلوي صاحب مصر، ولم يعرف له خبر)، ثم ينقل قصة طوافه ومصرعه حسبما رواها القضاعي، وذلك على سبيل الرواية والترديد فقط.

وتقول الرواية الكنسية أيضاً، (ولم تزل الناس مدة غيبة الحاكم وإلى إن انقضى مدة ولده يقولون إنه بالحياة. كثير كانوا يتزيون بزيه ويقول كل واحد منهم أنا الحاكم، يتراؤوا للناس في الجبال حتى يأخذوا منهم الدنانير) ثم تروى لنا قصة رجل يسمى (شروط) كان نصرانياً واسلم ثم تعلم السحر والشعوذة، وكان يشبه الحاكم شبهاً عجيباً، ولو انه أطول منه بقليل؛ فلمّى اختفى الحاكم ظهر في الناس باسم (أبي العرب)، وادعى انه الحاكم، والتف حوله بعض الناس، وكان يطالب الأغنياء بالمال، ويقول لهم انه سيعيده إليهم عند رجعته إلى مملكته؛ ثم استتر طيلة عهد الظاهر وهو مستمر على دعواه حتى اعتقد كثير من الناس انه الحاكم، وانه يخفي نفسه لأمر مكتوم لا يعرفه سواه؛ وفي أوائل عهد المستنصر، نزح إلى البحيرة ونزل عند بعض البدو وتظاهر بالنبوة ومعرفة الغيب واستمر في دعواه انه الحاكم وانه يعتزل الحياة العامة حتى ينتهي قطع طالعه الذي يخشاه؛ ولما ذاع أمره، واهتمت السلطات بمطاردته توارى عن الأنظار ولبث مختفيا حتى عرف بأمره سانونيوس البطرك، وانفذ إليه مالاً وتعهده بعونه ورعايته، وأول ما يلفت النظر في هذه الرواية الكنسية هو أنها لا تشير أية إشارة إلى فكرة المؤامرة أو الجريمة، بل لا تشير مطلقا إلى فكرة الوفاة، ولكنها تميل في مجموعها إلى تأييد فكرة الغيبة والاختفاء، وتستأنس في ذلك بالإشاعات والأساطير التي ذاعت في ذلك الشان منذ اختفاء الحاكم، واستمرت ذائعة أيام ولده الظاهر

على إن الرواية الكنسية لا تقف عند ذلك الحد؛ ذلك إن ابن العبري يحدثنا عن مصير الحاكم بعد اختفاءه، ويقول لنا إن كثيراً من الناس اعتقدوا حين اختفاءه انه لجأ إلى مكان في الصحراء واعتنق النصرانية، ثم ترهب وقضى أيامه هنالك؛ ثم يقول انه، أي المؤرخ، حين ما كان بدمشق سمع بعض كتاب الأقباط يقولون إن الحاكم حينما اشتد في مطاردة النصارى ظهر له يسوع المسيح كما ظهر لبولس الرسول، فآمن به، وتوارى سراً في الصحراء حتى توفي

ومما يجدر ذكره إن هذه الأسطورة - أي أسطورة تنصر الحاكم وترهبه ليست هي الأولى من نوعها، فقد نسب جده المعز لدين الله إلى مثل ما نسب إليه، وزعمت الرواية الكنسية إن المعز تأثر بما شهده من معجزة نصرانية هي تحرك جبل المقطم لدى صلوات الأحبار النصارى وتضرعاتهم، فنزل عن الخلافة لولده العزيز وتنصر وترهب، ودفن في إحدى الكنائس

ويجب لكي نقدر مغزى هذه الروايات الكنسية إن نذكر الظروف التي نشأت فيها، وان نكر موقف الكنيسة القبطية ونفسية المجتمع النصراني في عصر الحاكم بأمر الله: فقد عانت الكنيسة وعانى النصارى في هذا العصر ضروبا مرهقة من الاضطهاد المادي والمعنوي، وجازت الكنيسة شر محنة نزلت بها منذ عصر الاضطهاد الروماني، فهدمت بيعها وأديارها، ونبهت أموالها، وبدد تراثها المقدس، وثل الأحبار كل هيبة ونفوذ، وامتحن الكثير منهم، وعانى المجتمع النصراني من القوانين والفروض الجديدة شر ما تعانيه اقليه مضطهدة من ضروب العسف والذلة والإرهاق؛ ومن ثم فان الروايات الكنسية المعاصرة تصور لنا هذا العصر، عصر استشهاد للكنيسة ورعاياها، وتحدثنا في مواطن عديدة عن مختلف المعجزات النصرانية التي ظهرت في هذا العصر والتي كانت الكنيسة تستمد منها العزاء والصبر على مغالبة المحنة؛ ومنها قصة فتى مسلم يسمى ابن رجاء تأثر بمعجزات المسيح فتنصر وترهب، ورسموه قديساً باسم بولس ولقبوه بالواضح؛ ومنها قصة أبي نجاح النصراني، وكان من أعيانهم وأكابرهم فأراد الحاكم إن يرغمه على الإسلام فأبى فأمر بجلده حتى توفى، وزعمت الأسطورة إن الماء كان يقطر من لحيته أثناء ضربه، وان المسيح ظهر له وتولى سقايته أثناء تعذيبه؛ وقصة الرئيس الفهد الوزير، فقد قتله الحاكم لأنه أبى الإسلام وأمر بإحراق جثته، ولكن النار لم تؤثر فيها؛ وقصة البطرك زخاريا فقد اعتقله الحاكم وطرحه للسباع لتأكله ولكنها نفرت منه ولم تمسه بأذى؛ وغير ذلك من الخوارق المزعومة التي تدل على روح الكنيسة وعقليتها في هذا الظرف العصيب، وعلى جنوحها إلى الاستعانة بسيل من الأساطير والمعجزات الجديدة لتأييد هيبتها المقوضة، وتقوية نفوس رعاياها والمؤمنين بقدرتها وسلطانها

فهل نعجب إذا كانت الرواية الكنسية تحدثنا عن مصير الحاكم بأمر الله بهذا الروح ذاته فتحيط هذا المصير بأسطورة من أساطيرها، وتضيف بذلك معجزة إلى معجزاتها؟ إن في تقديم الحاكم بأمر الله، الخليفة الفاطمي، في ثوب النادم المستنيب، يبدو له المسيح، فيرتد عن دينه ويعتنق النصرانية، ثم يترهب، ويقظي بقية حياته في بعض الأديار النصرانية، لأعظم معجزة تقدمها الكنيسة إلى المؤمنين، واعظم ظفر تستطيع إن تصوره لرعاياها في هداية ذلك الذي انزل بهم شر البلايا والمحن أعواما مديدة، ثم انتهى به المطاف إلى إن غدا جندياً من جند المسيح. إن في هذه الخاتمة لأعظم عقاب للآثم، واعظم ترضية للكنيسة والمؤمنين، وابلغ انتقام يمكن إن تنزله الكنيسة بخصيمها

- 2 -

ولا ريب إن التاريخ لا يمكن يحفل بمثل هذه الأسطورة التي لم يؤيدها أي دليل أو أية قرينة سوى الرواية الكنسية التي تنفرد بترديدها، والتي تنم في الحال عما وراءها من الغايات والبواعث؛ بيد إن هنالك في الرواية الكنسية الأولى شيئا واحداً يمكن الوقوف به، وهو ما تنوه به من اختفاء الحاكم أو غيبته دون الإشارة إلى مصرعه بصورة من الصور. ذلك أن هذه النظرية - نظرية الاختفاء - لم تكن دون صدى في حوادث العصر ووثائقه. وإذا استبعدنا فكرة المؤامرة والجريمة مدى لحظة، واستبعدنا ما ينسب إلى الأميرة ست الملك من أنها هي التي دبرت مصرع أخيها على الوجه الذي بسطنا، فان الحوادث والقرائن الأولى التي عقبت ليلة السابع والعشرين من شوال تسبغ على فكرة الاختفاء مسحة من الاحتمال. ذلك إن مصرع الحاكم أو وفاته لم تكن أول ما خطر لرجال القصر والدولة، بل كان أول ما خطر لهم فكرة الغيبة، فخرجوا في اثر الحاكم عدة مرات يبحثون عنه ويستقصون أثره قبل إن يؤمنوا بمصرعه؛ ولبث الكرسي الخلافي شاغراً مدى ستة أسابيع حتى يوم عيد النحر (العاشر من ذي الحجة)، ولم ينادى بالخليفة الجديد حتى استقر لدى رجال الدولة إن الحاكم قد لقي حتفه بصورة من الصور أو على الأقل قد ذهب إلى غير ما عودة: بيد أن فكرة مصرعه، مهما كانت الصورة التي صورت بها ومهما كانت الجناة التي نسب تدبيرها أو تنفيذها إليهم، لم تكن فيما يبدو من روايات العصر وأحاديثه، حقيقة مقررة، ولم تكن رأي السواد الأعظم من الناس. بل لقد أشارت بعض الروايات التي سلمت بمصرع الحاكم إلى صدى هذا الشك في مقتله، فنرى ابن خلكان مثلاً يقول في ترجمة الظاهر ولد الحاكم ما يأتي: (وكانت ولايته بعد أبيه بمدة، لان أباه فقد في السابع والعشرين من شوال سنة إحدى عشر وأربعمائة؛ وكان الناس يرجون ظهوره، ويتبعون آثاره إلى إن تحققوا عدمه، فأقاموا ولده المذكور في يوم النحر)

(النقل ممنوع - للبحث بقية)

محمد عبد الله عنان