مجلة الرسالة/العدد 186/هكذا قال زرادشت
مجلة الرسالة/العدد 186/هكذا قال زرادشت
10 - هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
الصديق
يقول المنفرد في نفسه (لا أطيق وجود أحد بقربي) ولكثرة ما يقف محدقا في ذاته تظهر التثنية فيه، ويقوم الجدال بين شخصيته وبين ذاته فيشعر بالحاجة إلى صديق. وما الصديق للمنفرد إلا شخص ثالث يحول دون سقوط المتجادلين إلى الأغوار كما تمنع المنطقة المفرغة غرق العائمين
إن أغوار المنفردة بعيدة القرار، فهو بحاجة إلى صديق له أنجاده العالية؛ فثقة الإنسان في غيره تقوده إلى ثقته بنفسه، وتشوقه إلى الصديق ينهض أفكاره من كبواتها.
كثيراً ما يقود الحب إلى التغلب على الحسد، وكثيراً ما يطلب الإنسان الأعداء ليستر ضعفه ويتأكد إمكانه مهاجمة الآخرين.
من يطمح إلى اكتساب الصديق وجب عليه إن يستعد للكفاح من اجله، ولا يصلح للكفاح إلى من يمكنه أن يكون عدواً. يجب على المرء أن يحترم عداءه في صديقه، إذ لا يمكن لك أن تقترب من قلب صديقك إلا حين تهاجمه وتحارب شخصيته.
أنت تريد الظهور أمام صديقك على ما أنت عليه هاتكاً كل ستر عن خفايا نفسك، فلا تعجب إذا رأيت صديقك يعرض عنك ويقذف بك إلى بعيد.
من لا يعرف المصانعة يدفع بالناس للثورة عليه، فاحذر العرى، يا هذا، لأنك لست إلهاً، والآلهة دون سواهم يخجلون من الاستتار.
عليك بارتداء خير لباس أمام صديقك، لتهيب به إلى طلب المثل الأعلى: الإنسان الكامل.
أفما تفرست يوماً في وجه صديقك وهو نائم لترى حقيقته؟ أفما رأيت ملامحه إذ ذاك كأنها ملامحك أنت منعكسة على مرآة مبرقعة معيبة؟ أفما ذعرت لمنظر صديقك وهو مستسلم للكرى؟
ما الإنسان، أيها الرفيق، إلا كائن وجب عليه أن يتفوق على ذاته، وعلى الصديق أن يكون كشافاً صامتاً، فامسك عن النظر علناً إلى كل شيء ما دمت قادراً في غفلتك على كشف كل ما يفعله صديقك في انتباهه. عليك أن تحل الرموز قبل أن تعلن إشفاقك، فقد ينفر صديقك من الإشفاق ويفضل أن يراك مقنعاً بالحديد وفي عينيك لمعان الخلود.
ليكن عطفك على صديقك متشحاً بالقسوة وفيه شيء من الحقد، فيبدو هذا العطف مليئاً بالرقة والظرف.
كن لصديقيك كالهواء الطلق والعزلة والغذاء والدواء، فان من الناس من يعجز عن التحرر من قيوده ولكنه قادر على تحرير أصدقائه.
دع الصداقة إذا كنت عبداً، وإذا كنت عاتياً فلا تطمح إلى اكتساب الأصدقاء
لقد مرت أحقاب طويلة على المرأة كانت فيها مستبدة أو مستعبدة فهي لم تزل غير أهل للصداقة، فالمرأة لا تعرف غير الحب.
إن حب المرأة ينطوي على تعسف وعماية تجاه من لا تحب، وإذا ما اشتعل بالحب قلبها فان أنواره معرضة أبداً لخطف البروق في الظلام. . .
لم تبلغ المرأة بعد ما يؤهلها للوفاء كصديقة؛ فما هي إلا هرة، وقد تكون عصفوراً، وإذا هي ارتقت أصبحت بقرة. . .
ليست المرأة أهلاً للصداقة، ولكن ليقل لي الرجال من هو أهل للصداقة بينهم؟ إن فقر روحكم وخساستها يستحقان اللعنة أيها الرجال، لان ما تبذلونه لأصدقائكم يمكنني أن ابذله لأعدائي دون أن ازداد فقراً.
إنكم لا تتخذون إلا الأصحاب، فإلى متى تسود الصداقة بينكم؟
ألف هدف وهدف
لقد شاهد زارا كثيراً من البلدان وكثيراً من الشعوب، فنفذ إلى حقيقة الخير والشر، وعرف أن لا قوة في العالم تفوق قوتهما.
تحقق أن ليس على الأرض من شعب تحلو له الحياة دون أن يخضع النظم والسنن لتقديره، وان كل شعب يرى من واجبه، إذا أراد الحياة، أن يجيء بتقدير يختلف عن تقدير من يجاوره من الشعوب. وهكذا كان ما يراه أحدها خيراً يراه الآخر دناءة وعاراً.
ذلك ما عرفته، فكم من عمل اتشح بالعيب في بلد، رأيته مجللاً بالشرف والفخر في بلد آخر.
لم أر جاراً تمكن من إدراك حقيقة جاره، بل رأيت كلاً منهما يعجب لجنون الآخر وقسوته.
لقد علق كل شعب في رأسه لوح شريعته، وسطر عليه ما اجتاز من عقبات وما تضمر إرادته من عزم، فما تراءى له صعب المنال فهو موضوع تمجيده، وما خيره إلا حاجة ملحة عز مطلبها، فهو يقدس كل وسيلة تمكنه من الظفر بهذه الحاجة.
إن كل ما يوطد الحكم لهذا الشعب، وكل ما ينيله النصر والمجد ويلقي الرعب في روع جاره مثيراً حسده إنما هو في نظره ذو المكانة الأولى، وما احتل المقام الأول في اعتباره يصبح مقياساً لجميع أموره ومعنىً لجميع ما يحيط به؛ فإذا ما تمكنت من الاطلاع على حاجات أي شعب وخبرت أرضه وجوه وحالة جاره، فانك لتدرك النواميس التي تتحكم فيه وتحفزه إلى المجالدة للغلبة على اهوائه، ولتعرف السبب في اختياره مراقيه الخاصة يتدرج عليها لبلوغ أمانيه.
(عليك أن تكون سباقاً مجلياً في كل مضمار، فلتتلفع نفسك بغيرتها كيلا تبذل الولاء إلا للصديق)
إنها لكلمات إذا وقعت في أذن يوناني، ترتعش نفسه لها فيندفع إلى اقتحام الصعاب طلباً للمجد.
(قل الحق، وكن ماهراً في تفويق سهامك من قوسك)
إنها لوصية صعبت وعزت على الشعب الذي اقتبست اسمي منه، وفي هذا الاسم من المصاعب قدر ما فيه من أمجاد.
(اكرم أباك وامك، ولتكن باراً بهما من صميم قلبك)
وهذه الوصية القائمة على إرغام النفس، قد عمل بها شعب آخر فبلغ القوة واصبح خالداً.
(كن أميناً وابذل للأمانة دمك وشرفك حتى ولو كان جهادك في سبيل ما يضير وما يورد المهالك).
وهذه أيضاً وصية عمل بها شعب آخر، فتغلب على ذاته واصبح عظيماً تثقله الأماني الجسام.
لقد أقام الناس الخير والشر، فابتدعوهما لأنفسهم، وما اكتشفوهما ولا أنزلا عليهم بهاتف من السماء.
لقد وضع الإنسان للأمور أقدارها ليحافظ على نفسه، فهو الذي أوجد للأشياء معانيها الإنسانية.
ما التقدير إلا الإيجاد بعينه، فأصغوا إلي أيها الموجدون.
ما الكنوز والجواهر إلا أشياء أرادها تقديركم جواهر وكنوزاً، فما القيمة إلا اعتبار، ولولا التقدير لما كان الوجود إلا فتوراً لا نواة فيها. اسمعوا أيها الموجدون: إن قيمة الأشياء تتغير تبعاً لتحول اعتبار الموجد، ولا بد لهذا الموجد من أن يهدم في كل حين.
لقد كانت الشعوب تتولى الإيجاد في البدء حتى ظهر الأفراد الموجدون، فما الفرد في الواقع إلا احدث هيئات الوجود.
لقد أقامت الشعوب لنفسها قدماً شريعة خيرها، وما نشأت هذه الشريعة إلا باتفاق المحبة التي طمحت إلى السيادة، والمحبة التي رضيت بالامتثال.
إن هوى المجموع اقدم من أهواء الفرد، وإذا كان خير الضمائر ما يكمن في المجموع، فان شرها ما يتجلى في الفرد المعلن شخصيته.
والحق أن الشخصية المراوغة التي لا محبة فيها، الشخصية التي ترمي إلى الاستفادة من خير الأكثرية، إنما هي عنوان انحطاط المجموع لا مبدأ كيانه.
ما خلق الخير والشر في كل عصر إلا المتهوسون المبدعون، وما أضرم نارهما إلا عاطفة الحب وعاطفة الغضب باسم الفضائل جمعاء!
لقد شاهد زارا كثيراً من الشعوب والبلدان فيما رأى قوة على الأرض تفوق قوة المتهوسين، والقوة معنى لكلمتي الخير والشر.
ما أشبه ما يستدعى التمجيد ويستوجب العقاب بالمسخ الهائل، فمن له بسحق هذا المسخ، أيها الاخوة؟ من سيشد بالأغلال على ما يتلع هذا الحيوان من آلاف الأعناق؟
لقد بلغت الأهداف الألف عداً إذ بلغ عدد الشعوب الفاً، فنحن بحاجة إلى قيد واحد لألف عنق، لأننا بحاجة إلى هدف واحد، فالبشرية لم تعرف حتى اليوم لها هدفاً، ولكن إذا كانت الإنسانية تسير ولا غاية لها، أفليس ذلك لقصورها وضلالها؟
هكذا تكلم زارا (يتبع)
فليكس فارس