مجلة الرسالة/العدد 188/الفنون

مجلة الرسالة/العدد 188/الفنون

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 02 - 1937



اكروبوليس أثينا

ومعبد بارتنون:

للدكتور أحمد موسى

يرى الواقف في وسط أثينا على بعد ليس بقليل، مرتفعاً أشبه بتل منبسط القمة تعلوه مبان ظاهرة، أكثرها ارتفاعاً معبد بارتنون.

والقاصد إلى هذا المرتفع يعرج إلى جهته الغربية ليستطيع الوصول إليه، فتنتهي به الطريق إلى مدخل بروبيلين المعتبر من أكبر الأعمال البنائية في أثينا، مبني كله من الرخام بين سنة 437 وسنة 432 ق. م، على آثار بناء قديم، تحت إشراف المهندس منيسيكلس وأستغرق بناؤه زهاء الخمس سنوات. وهو بحالته الحاضرة لا يزال يعطي المشاهد أنموذجاً فذاً لعصر البناء الفني في أثينا، فضلاً عن أنه مثال رائع لجمال البناء على مر القرون.

وهو بوضعه أشبه شيء بجبين الحسناء في نظر المتجه إلى اكروبوليس، لأنه في مقدمة ما يرى الداخل إلى المرتفع، يمر منه للوصول إلى المعابد.

وكانت شهرة بروبيلين وبارتنون شهرة فاقت كل وصف في ذلك الحين، ومع أن عمل التجديد به لم ينته بعد، إلا أن الزائر لأكروبوليس لا يمر منه دون أن يأخذه العجب من عظمة إخراجه وإتقان بنائه وجمال أجزائه.

ويتكون الجزء الأوسط منه من مداخل بعضها خلف بعض على جانبيها أعمدة من الطراز الدوري تحمل سقفاً جملوني الشكل يبدأ بإفريز شمل نقوشاً ورسومات دون تماثيل، كما ذكر ذلك كل من سبن وهيلر & اللذين زاراه سنة 1675.

ويلاحظ المشاهد لمدخل آثار الألوان وماء الذهب على أجزاء من رؤوس أعمدته، كما يرى أن الردهتين الأمامية والخلفية تتجهان بستة أعمدة دورية إلى الشرق والغرب، وبينهما يقع المدخل بفتحات كبار كانت في ذلك الحين مما يمكن إغلاقه حسب الرغبة بواسطة أبواب أشبه بأجنحة.

وعمل المدخل المؤدي إلى الباب الوسط بحيث يتصل بالردهة الغربية، وله أيضاً ثلاثة أعمدة يونية الطراز على كلا الجانبين، وتتصل الصالة الداخلية من الشمال والجنوب ببناءين صغيرين زاداهما قوة وهيبة جعلت من المجموع الكلي لبروبيلين فخامة ظاهرة، وطرازاً أنيقاً

أما البناءان الصغيران فيسمى الأيمن منهما بينا كوتيك لأنه كان شاملا لمجموعات صور الفنانين في ذلك الحين. والأيسر أصغر بكثير من الأيمن نظراً لما طرأ على العمل من التعطيل بسبب حرب البلوبونيس ولمعارضة حزب الكهنة في امتداد البناء خشية أن يصل إلى حدود معبد أثينا نيكا وارتميس برورونيا فيقلل من شانهما، كلاهما يكمل الجمال الإنشائي لبروبيلين. (أنظر ش1 من المقال السابق)

وهناك ردهات أخرى لم يتم بناؤها كما كان مفروضاً وفق التصميم الذي وضعه منيسكليس للأسباب المشار إليها.

يسير المشاهد بعدئذ إلى معبد بارتنون الخالد الذي يعد أبهى بناء فني في العصر القديم كله، فهو وحيد في مظهره العام وأبهة بنائه وعظمة تجسمه وضخامته دون خروج على أصول الانسجام في أكمل معانيه.

وإذا شاهدت كل آثار أثينا فلن ترى من بينها بناء يفوق بارتنون؛ ومع أن الفارق بين مظهره الحالي ومظهره القديم شاسع جداً إلا أنه لا يزال يشع جمالا خالداً يملأ الروح بهجة ويفعم العقل روعة.

يقع بارتنون في وسط جنوب المرتفع، فهو بموقعه هذا يشغل نقطة أشبه بمركز قوس دائري يلتف حوله كل ما قام على المرتفع من مبان زادت في عظمت وقوته (أنظر ش1 من المقال السابق).

كان أساس الحوائط وما يعلوه قليلاً من الرخام الخالص عندما هاجم الفرس أثينا وأشعلوا النار بالمرتفع، ولكن أدركه عصر بركليس فجدد بناؤه وجعل كله من الرخام.

قام بركليس ببناء هذا المعبد كما تولى بنفسه الأنفاق على تكاليفه. أما أستاذا بنائه فكانا اكتينوس وكلليكراتس

وتعد حليات البناء الخارجية من أروع القطع الفنية التي عملها الفنان العظيم فيدياس فكانت معجزة سميت باسمه إلى اليوم، وضع تصميمها واشرف على عملها واشترك فيها بيده ونفخ فيها من روحه. كان فيدياس صديقاً مقرباً لبركليس، فأفادت هذه الصداقة إلى حد بعيد في إخراج معبد بارتنون على هذه الصورة من الجمال والروعة.

أقيم هذا البناء كما تشير الكتابات الخاصة به في القرن الخامس عام 438، وافتتح عام 447 ن. م.، ومن هذا يتضح أنه تم في عشر سنوات بعد مجهود جبار استغرق كل أيام السنين العشر. وإذا علمنا أن هذه الأعجوبة البنائية الرائعة شملت 62 عمودا كبيرا و36 عمودا صغيرا وحوالي الخمسين تمثالا بحجم الإنسان الطبيعي لتحلية الموضعين المثلثي الشكل من الناحية الأمامية والخلفية المحمولة على الأعمدة لتكوين واجهتي السقف الجمالوني وبأفريزه البالغ طوله 160 مترا حول البناء من نواحيه الأربع، واثنين وتسعين مستطيلا صغيرا انحصرت بين رؤوس الأعمدة وقاعدة السقف فكونت الأفريز؛ وأخيراً تمثال أثينا الذي بلغ ارتفاعه ثلاثة عشر متراً وصنع كله من العاج والذهب؛ إذا تمثلنا كل هذا الإنتاج الفني الهائل في بناء واحد تناسقت كل أجزاءه وانسجمت كل مشتملاته، وجدنا أنفسنا أمام عظمة قل أن يجود الزمان بمثلها مرة أخرى.

انظر إلى الأعمدة المتكررة دون إملال ودون تشابه (ش - 1)، وتصور إلى أي حد وصل فنانو الإغريق، والى أي درجة بلغت القدرة في الإنتاج الفني الذي يعد بحق آية من آيات القدرة الإنسانية في أبهى ما وصل إليه تفكيرها وشعورها بالوجدان والجمال.

والأعمدة كما ترى عملت مسلوبة من أعلاها، كما أنها لم تكن مستديرة صماء حفرت على طولها قنوات متوازية سارت على ارتفاع العمود فزادته حسناً وأكسبته حياة. حملت الأعمدة السقف الجمالوني الذي لم يبن فوقها مباشرة، بل ارتفع قليلا ليترك مكاناً إلى المستطيلات الصغيرة الملتفة حول محيطه الخارجي البالغ طوله 160 متراً كما سبق القول. وترى على هذا المحيط الإفريز الشامل لتلك المستطيلات المملوءة بالمناظر البارزة الأخاذة لبصر المشاهد المدقق. اشتملت كلها ما يمثل كثيراً من حياة الإغريق العامة والخاصة. والمجال هنا لا يسمح بالتوسع في التكلم عنها أو الإتيان بمعظم صورها. ولما كانت دراستنا في هذا المقال إجمالية، فإننا نأتي ببعض هذه القطع.

فإذا تأملت المتسابقين بخيولهم (ش2) أخذتك روعة غريبة تملك عليك مشاعرك عندما تعلم أن هذا ما استطاع الفن الإغريقي إبداعه قبل المسيح بخمسة قرون.

انظر إلى الإنشاء الكلي للقطعة وتصور أن هذا منحوت على الرخام ومع ذلك ظهر بهذه القوة التي مثلت صورة تنبض بالحياة. انظر إلى الخيل وهي جامحة والى تفاصيل أجسامها وهي في غاية من الدقة، والى بروز عضلاتها التي لا تخالف أصول التشريح؛ ثم تأمل الفرسان واذكر قدرة فيدياس في عظمة إخراجه لهم دون تناظر ودون تماثل، لاشك ترى أن هذا دليل الغنى الفني إلى ابعد حدوده. تأمل عيون الفرسان وعيون الخيل تر اليقظة الكاملة في الأولى والوثوب التام في الثانية.

والصورة 3 أوضحت لنا أربع نساء تحمل كل منهن آنية، ظهرت أجسامهن كاملة مغطاة إلى أعناقهن بملابس امتلأت بالحياة فالتعاريج والتفاصيل التي شملتها هذه الملابس لا ترى لها نظيراً في قوة الإخراج ولم يترك الفنان رؤوسهن متشابهة، بل جعلها تختلف الواحدة عن الأخرى مسجلا بذلك الحالة كما كانت، فضلا عما ينجم عن ذلك من تقوية درجة الاستمتاع النظري، فجعل اليمنى تربط الشعر برباط رفيع، على حين جعل الثانية بذؤابة صغيرة ظهر بروزها من خلف رباط الرأس، وتركت الثالثة شعرها مسترسلا على ظهرها، أما رابعتهن فقد أخفت الشعر تحت غطاء هرمي الشكل.

أما تفاصيل الوجوه فهي مع كونها تعبر عن جمال المرأة الإغريقية فإنها تمثل الخشوع إلى حد بعيد؛ إنهن يحملن ما بأيديهن بقصد التوجه إلى المعبد. أما نبل الإخراج فهو ظاهر من طريقته في تكوينهن الواحدة وراء الأخرى في انسجام.

وصورة حاملي الأواني (ش4) تريك، فوق قوتها الفنية البعيدة إلى أي حد استطاع المثال أن يجعل من حركة سير الثلاثة رجال صورة رائعة لقدرته على الإخراج - تأمل صدر الرجل الأوسط تر الفنان لم يتركه دون حياة، فوضوح خطوط العضلات وبروزها مع ما تراه شاملا للقطعة من حسن التصوير ودقة الثنايا، كل هذا جدير بالإعجاب. إن غنى مادة فيدياس ظاهر واضح عندما تحقق من الكيفية التي سار عليها المثال في تكوين ذراعي كل رجل وكيفية حمله الآنية فوق رأسه وسندها بيمينه.

ومن قطع بارتنون الرائعة أيضاً اللوحة (ش5) حيث ترى إلى أقصى اليسار رجلا جالسا يتحدث إلى شاب بجواره. مشيراً له بيسراه إشارة المستمر في الحديث، وهو ينصت إليه، وإلى اليمين ترى ولداً عارياً يستند إلى ركبة أمه وهي تشير إليه لافتة نظره إلى شيء معين، وكأن مجاورتها تشترك معهما في النظر، وهي في مجموعها أوضحت ما أراده الفنان من تمثيلها آلهة العدالة.

أما صورة تيسويس (ديونيزوس) الجالس عارياً فهي وحدها درس كامل لجمال الإنشاء وصدق التعبير وقوة الإخراج، فكل ما برز فيها من تفاصيل تشريحية مملوءة بالحياة وان المتحف البريطاني ليفخر بوجود هذه القطعة وغيرها من تماثيل بارتنون التي لا تزال إلى الآن النماذج الفذة لفن النحت.

ومهما يكن من شيء فإن بارتنون أعظم بكثير من أن يسجل بين سطور لا يتجاوز ما جاء فيها قطرة في محيط فنه وجماله.

(لها بقية)

أحمد موسى